ما زلت أذكر تعبير الشفقة الذي اعتلى وجه مدرّستي الأمريكية ردًا على ملامح خيبة الأمل التي اعتلت وجهي أنا أيضًا بعد سماع إجابتها غير المتوقعة تمامًا.

كنت في السابعة عشرة، أبحث عن الإجابات النموذجية على كل الأسئلة، وكنت أرى «هيذر» كنموذج للمرأة التي تقطر حكمة، معلمة أربعينية أمريكية من أصل مكسيكي تتحدث العربية بلكنة محببة كما هي عادة محبي مصر من الأجانب، وكنت أنا في صفوف درسها الخاص بتعليم اللغة الإنجليزية بالجامعة الأمريكية. بمجرد أن توطدت علاقتي بهيذر قليلًا سألتها أول سؤال جال بخاطري منذ أن عرفت أن معلمة صفي الحالي أمريكية: ما هو أفضل فيلم أمريكي شاهدتيه يا هيذر؟

كنت مولعًا كثيرًا بالأفلام والروايات، وكنت أفضل الأفلام لأسباب تتعلق بالوقت والتأثر بالعائلة، وكنت أتوقع اسمًا لفيلم جديد لم أشاهده من قبل. كان الرد مباشرًا: «لقاء مع مصاص الدماء»!

خيبة أمل غير متوقعة تمامًا، فالفيلم الذي تم عرضه عام 1994، كان من أكثر الأفلام التي شاهدتها دون أي اهتمام يذكر، مصاص دماء – توم كروز – قرر أن يحكي قصة حياته في لقاء صحفي، قصته التي تبدأ فعليًا بعد أن يستغل حالة اليأس التي يصاب بها رجل آخر – براد بيت – فيعرض عليه أن يحوله لمصاص دماء هو الآخر.

لم أكن أبدًا أتفهم أفلام مصاصي الدماء والوحوش والأبطال الخارقين، كما لم أتفهم أيضًا كل تلك الأفلام التي تنتهي فجأة أو يخلق فيها البطل شخصًا خياليًا ويتحدث معه، لم أكن أستسيغ ما يسمى بالفانتازيا.

تنهدت هيذر ونظرت في عيني مباشرةً كعادتها قبل الإدلاء بكلام مهم وتحدثت بالإنجليزية:

ما حاجتي لفيلم واقعي يحكي عن قصص عاشها أحدهم؟ أستطيع أن أجلس بجوار جدتي وستحكي لي آلاف القصص عن الحياة، ما أقصده هنا هو أنني أريد أن أتخيل عوالم لم أرها من قبل، وما يزيد الأمر حلاوةً ألا أشعر أني منفصلة عن هذا العالم الخيالي، وما يجعل الأمر مثاليًا هو أن أجد ما يمسني داخليًا في عالم خيالي أنسجه أنا بنفسي، ولذا أفضّل الروايات عن الأفلام كثيرًا.

لم تكن السيدة هيذر تعرف الكثير عن مصطلح الواقعية السحرية والذي شرحته لي ببساطة وبمفرداتها الخاصة، لكنها استطاعت أن تؤثر فيّ كثيرًا؛ فمع الوقت أصبحت أكثر ميلًا للروايات، وأكثر استغراقًا في العوالم الخيالية، وأكثر حيرة في محاولة فهم نفسي، وأصبحت معجبًا وفيًا بالسيد «هاروكي موراكامي».


«هاروكي موراكامي»: عوالم لم ترها وثقافات مبهرة جديدة

الحديث عن الواقعية السحرية ببساطة يتلخص في التعبير عن وجهة نظر واقعية باستخدام أحداث خيالية وتفاصيل قد تبدو أسطورية، وهو ما يبرع فيه تمامًا السيد موراكامي.

بخلاف الكثير من الثقافة اليابانية والموسيقى الكلاسيكية، فبين طيات صفحات رواياته ستجد «ناكاتا» الذي يجيد الحديث مع القطط في روايتة الأشهر «كافكا على الشاطئ»، والرجل المقنع الذي صنعه خيال البطل في رواية «رقص رقص رقص»، كما أنك ستجد امرأة ترى نفسها من بعيد وهي تمارس الجنس راضية رغم رفض عقلها لما يحدث، فيصيبها الشيب خلال ليلة واحدة في رواية «سبوتنيك الحبيبة»، وليس بالبعيد أن تحل ضيفًا على عالم آخر موازٍ تمامًا، فيه كائنات صغيرة قادرة على صنع شرنقة هوائية تخرج منها نسخة مماثلة لأحد أبطال الرواية كما هو الحال في رواية «1984».

إلا أن ما يميز موراكامي بخصوص كل هذا، هو قدرته الهائلة على الدخول في ثنايا النفس البشرية ومحاولة الإجابة على أسئلة لا يتطرق لها أحد: لماذا نحن موجودون هنا؟ ما هو الحب؟ وما هي العلاقات التي تربط الناس ببعضها البعض؟ يتحدث عن ذلك كله بسلاسته المعهودة وأسلوبه الروائي البسيط ذي الجمل القصيرة المباشرة، وبأبطال تجد الكثير من التشابه بينك وبينهم، خاصة في تلك الأجزاء التي يحاول كل منا أن يخفيها عن الجميع فيفضحها موراكامي، فلا عجب أن تغلق أحد كتبه أثناء القراءة وتفكر مليًا في أحداث ماضية خاصة بك أو في أفكار شخصية طالما جالت داخلك، ثم تعاود فتح الكتاب وقراءته.

علاقة الموت بالحياة هي الأمر الذي يحاول موراكامي الحديث عنه في روايته «الغابة النرويجية».


«الغابة النرويجية»: لا توغل كثيرًا في الغابة لكيلا تفقد طريق العودة

دائمًا ما اعتدت على أن أشعر أنني أذهب إلى أماكن مظلمة عندما أشرع في الكتابة. فقط في الظلام أستطيع أن أرى حكايتي. لا أظن أن لدي موهبة خاصة أو استثنائية. لا أفكر في الأمر على هذا النحو، ولكنني أذهب أسفل في الظلام وأتساءل: اممم.. وماذا بعد؟ .. آه .. وهكذا..
هل تعد حقًا أنك لن تنساني أبدًا؟ قلت: لن أنساك أبدًا، ولن أستطيع أن أنساك أبدًا لكن ذاكرتي تزداد سقوطًا في العتمة، ولقد نسيت عددًا من الأمور. حين أكتب من الذاكرة على هذا النحو، أشعر غالبًا بغصة الرهبة، ماذا لو كان ما نسيته أهم الأشياء؟

«واتانابي» الذي يقرر أن يكتب ما حدث معه منذ عشرين سنة لكيلا ينسى، فهو قد وعد حبيبته «ناكاو» أنه لن ينساها أبدًا، ولكنه ومنذ البداية يحدّث نفسه أنه ربما نسي بالفعل أهم الأحداث، وربما وهو داخل ذلك البرزخ المظلم ينسج ما يستطيع أن يتذكره أو ما كان يتمناه، فالفوارق هنا بين الحقيقة والخيال تتداعى.

«واتانابي» شاب جامعي يسكن في مهجع للشبان، ومنذ طفولته يكون علاقة صداقة ثلاثية بينه وبين صديقه الوحيد «كيزوكي» وصديقة صديقه «ناكاو»، إلا أنه يتعرض لما يشبه الصدمة بانتحار صديقه كيزوكي، ليبدأ واتانابي بالتفكير حيال الموت، فالموت الذي كان يعتقد أنه نقيض الحياة أصبح يراه جزءًا من تلك الحياة، فالموت موجود في كل تفاصيل الحياة، فقط كل الأمر أنه لم يتملك بعد من كافة التفاصيل المحيطة، ولكنه استطاع أن يتملك من تفاصيل كيزوكي وبقي واتانابي وحده في الجانب المسمى بالحياة، إلا أن الموت الذي طال صديقه الوحيد كان قد ألقى بظلاله الثقيلة عليه لكن دون أن يدركه.

يبقى الرابط بين واتانابي وبين الحياة يتمثل في ناكاو، والتي يتضح من الأحداث أنها لم تستطع أبدًا أن تمارس الجنس مع كيزوكي رغم المحاولات، وبمجرد أن تمارس الجنس مع واتانابي تختفي، ليعرف واتانابي أنها في مصح عقلي من نوع آخر.

الرواية مليئة بالشخصيات الغنية بالتفاصيل، فهناك «ناغاساو» الشاب الذي يملك خاصية فطرية تجذب الناس حوله، وهو مدخل واتانابي للحياة المليئة بالأحداث والناس، والتي لا تستطيع أن تحتوي واتانابي رغم غنى تفاصيلها، فهو ما زال يشعر بواجبه نحو ناكاو. هناك أيضًا «ميدوري»، فتاة أخرى تنجذب نحو واتانابي وتغرقه في تفاصيل حياتها، ولكنه ما زال غير قادر على التخلص من شعوره نحو ناكاو وحسم أمره في الاختيار بين الحياة متمثلة في ميدوري، وبين الماضي بمسئولياته متمثلًا في ناكاو. هناك أيضًا «رايكو»، امرأة أخرى ترافق ناكاو في مصحها العقلي وقصتها التي انتهت بها إلى داخل المصحة.

كالعادة كل شخصيات موراكامي بها جزء من الخلل النفسي، والذي يبرع موراكامي في جعله واضحًا فجًا يصل لمرحلة الانفصال عن الواقع أحيانًا، وهو ما يلاقي استحسان القراء، فجميعنا نعاني خللًا ما بالضرورة. إنه الخلل النفسي القريب منا جميعًا، لا يفصلنا عنه سوى خيط رفيع نراه بوضوح، نبقي أعيننا يقظة نراقبه بغية ألا نقطعه، ونمر من خلاله للجانب الآخر ثم نستيقظ من غفلتنا فلا نعرف نحن على أي جانب الآن.

تنتهي الرواية باختيار ضمني لـ«واتانابي» أن يعيش الحياة مع «ميدوري»، ثم تموت «ناكاو» وتحمل «أريكو» رسالة لـ«واتانابي» أن يعيش، فليحتفظ بالألم داخله على كل ما مضى ولكنه يجب أن يعيش، فليأخذ نصيبها ونصيب ناكاو من السعادة وكل من لم يستطع ألا يبتعد عن خيط التعاسة ويحيا به.

الموت موجود، لا بوصفه نقيضًا للحياة، بل بوصفه جزءًا منها.

«الغابة النرويجية» هي أقل أعمال موراكامي بعيدًا عن الفانتازيا المعتادة، ولكنها تبقى مثالية لمن لم يقرأ لموراكامي بعد، فالرواية التي أحدثت ضجة كبيرة في اليابان وقت صدورها الذي يرجع لعام 1987، وتم تحويلها لفيلم ياباني أيضًا، ربما يعيبها أنها تحتوي على الكثير من الجنس الذي يبقى أحيانًا غير مبرر، لكنها مدخل مثالي لواقعية موراكامي السحرية والتي نضجت وتبلورت خلال باقي رواياته.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.