النوستالجيا، كلمة يونانية الأصل مكونة من مقطعين، «نوستوس» أي العودة إلى الوطن، و«ألجوس» بمعنى الألم. إنه الحنين إلى الماضي كما نعرفه بالعربية. شعور بالاغتراب، ولوذ بالذكريات الدافئة، التي ربما لم تكن دافئة وقتها، لكن مجرد كونها ذكرى يمنحها شيئا من السكينة والمثالية.

لكن ماذا عن نوستالجيا المستقبل، الحنين إلى ما لم يقع بعد.. وما علاقته بالسينما؟

قد يأتي الحنين إلى المستقبل من أحد طريقين. أولهما الخطط والأحلام والصلوات المتعلقة بهذا المستقبل، التي إذا ما تضافرت معا في مخيلتنا كدنا نرى هذا المستقبل رأي العين قبل وقوعه، فيتلبسنا إيمان وتفاؤل، وحنين إلى هذا المستقبل الذي ستثمر فيه بذور آمالنا.

أما الطريق الآخر – وهو موضوع مقالتنا – فهو طريق أدبي، أو لنقل هو فني، فمن الأعمال الفنية التي تناقش أحداثا في المستقبل ما يكون له فعل السحر في المخيلة، فتنبني على هذا العمل وتفاصيله صورة ما للمستقبل، تظل معنا إلى أن نلمح تاريخ اليوم على أحد الجرائد صدفة، فإذا بنا في هذا المستقبل الأقل بهاء، والأكثر عبثية، بصورة تختلف كلية عما عشنا في انتظاره.

لا شك أن أقوى هذه الصور الفنية/الأدبية تأثيرا في البشر هي السينما. فهي تقدم عوالم جذابة وفريدة وخلابة ومتكاملة، لا تترك لمخيلة المشاهد إلا قدرا بسيطا من المشاركة في رسم هذا العالم. والآن لنضرب بعمل سينمائي مثالا، عسى أن نجده وسيلة سهلة وواضحة لشرح موضوع هذه المقالة، الحنين إلى المستقبل.

لمزيد من التبسيط، انتقينا فيلما ذا شعبية كبيرة، من النوع العائلي الخفيف، والظريف. وهو فيلم «العودة إلى المستقبل، الجزء الثاني». وسنحاول تجنب «حرق» أحداث الفيلم لمن لما يشاهده بعد.

كانت الفكرة الرئيسية للجزء الأول هي لقاء في حقبة السبعينيات بين شاب ومخترع لآلة زمنية، يستخدمها الشاب للعودة إلى الخمسينيات. أما الجزء الثاني فيدور حول استخدام الشاب والمخترع للآلة للسفر إلى المستقبل، لكن هذا المستقبل كان عام ٢٠١٥ بالتحديد.

أنتج هذا الفيلم عام ١٩٨٩، فكيف كانت صورة عام ٢٠١٥ عند صناع الفيلم؟ وما الفرق بين ما قدموه وما نعيشه اليوم؟

أراد ريك كارتر – مصمم الإنتاج – تقديم صورة مفصلة للمستقبل بقدر الإمكان، تكون في نفس الوقت مختلفة عما قدمه فيلم بليد رانر. فأمضى كارتر وفريقه عدة شهور في محاولة لرسم صورة مستقبلية لهيل فالي، حيث تدور أحداث الفيلم. هنا جاء دور المخرج زيميكس الذي كان خائفا – حسبما صرح لاحقا – من محاولة رسم صورة للمستقبل، لأن نسبة فشل التوقعات الخاصة بالمستقبل كبيرة جدا. لذا لم يطمح زيميكس في تقديم تنبؤ دقيق لما سيكون عليه المستقبل، إطلاقا. كما أعلن بنفسه أنه وجد تصوير المشاهد المستقبلية في الفيلم هي الأقل إمتاعا، من حيث العمل والتصوير وخلافه، إضافة إلى عدم ميله إلى هذا النوع من الأفلام، عدا أفلام ستانلي كوبريك. إلا أن ذلك لم يمنعهم من استقصاء آراء العلماء والباحثين عما سيكون عليه عام ٢٠١٥، دون التقيد بها. فعلى سبيل المثال، كان فريق العمل على علم بأنه لن تكون هناك سيارات طائرة عام ٢٠١٥، لكن هذا لم يمنعهم من وضع بعض المركبات الطائرة في الفيلم.

صرح بوب جال، كاتب الفيلم وأحد منتجيه، أنهم اتفقوا على تقديم مستقبل لطيف قدر الإمكان. بحيث تكون أي مشكلة أو مظلمة في المستقبل نتيجة لسوء استخدام بعض الأفراد للتكنولوجيا المستقبلية، بشكل فردي تماما لا حالة عامة، ويقول المدير الفني للمؤثرات البصرية إنه لم يكن هناك نص مكتوب للتنفيذ، بل لم يكن لديهم سوى توجيهات بأن الأحداث ستدور بعد ٣٠ عاما من وقتهم، مع افتراض وجود لوح تزلج طائر (hover board).

بالفعل، عرض الفيلم هذه الصورة للمستقبل اللطيف الشيق، بإيقاع ظريف وسريع، مما أسهم في النجاح الكبير الذي حققه الفيلم عند عرضه. حيث جاء مختلفا عن معظم أفلام الخيال العلمي أو غيرها من الأفلام التي تدور في المستقبل، والتي تصوره– غالبا – على أنه مكان مظلم وتعيس بالنسبة للبشر عامة، بسبب التقدم التكنولوجي الذي سيطغى على حياتهم لدرجة تكاد تدمرها أحيانا، أو يتمرد على تحكم البشر ويتخذ منهم موقفا عدائيا أحيانا أخرى.

قدم الفيلم – رغم أنفه – توقعات وتنبؤات كثيرة لعام ٢٠١٥، منها ما جاء الواقع شبيها لها، ومنها ما لم يكن كذلك.

كان لوح التزلج الطائر أحد هذه التوقعات، واليوم نجد أن أقرب شيء إلى لوح التزلج الطائر هو لوح التزلج ذا العجلتين، الذي بدأ انتشاره بشكل ملحوظ عام ٢٠١٥، حتى أن جمهور الفيلم أطلق عليه نفس الاسم الإنجليزي (hover board) في السياقات غير الرسمية.

كذلك، دخل أحد المخترعين موسوعة جينيس في مايو ٢٠١٥ بعد أن قطع مسافة ٢٧٥ مترا فوق بحيرة مستخدما اختراعا يشبه لوح التزلج الطائر، صممه بنفسه، ووصل به إلى ارتفاع ٥ أمتار، قبل أن يحطم مخترع آخر هذا الرقم بفارق كيلومترين، باستخدام جهاز مشابه. كل ذلك بغض النظر عن الشائعات التي أطلقها مخرج العمل في التسعينيات، التي تدعي الانتهاء من تصنيع هذه الألواح، وأنها لم تطرح في الأسواق بسبب تلقي كثير من شكاوى الأهالى فيما يخص السلامة والأمان.. لكن سرعان ما اكتشف الجمهور أنها مجرد شائعات.

كذلك هناك حذاء نايكي (Nike) الذي ارتداه بطل العمل، وهو حذاء يربط نفسه أوتوماتيكيا. فقد قامت شركة نيكي عام ٢٠٠٨ بتسجيل حقوق ملكية نظام آلي لربط الحذاء يشبه ما ظهر في الفيلم، وفي أكتوبر ٢٠١٥ – نفس تاريخ سفر مارتي إلى المستقبل – أطلقت نايكي دفعة محدودة من ذلك الحذاء، وتسلم بطل الفيلم حذائه الخاص هدية من الشركة.

وهناك مثال ظريف على التنبؤات غير الدقيقة، وهو ظهور إعلان للجزء التاسع عشر من فيلم الفك المفترس في أحد مشاهد الفيلم، على هيئة إعلان هولوجرامي ثلاثي الأبعاد، إلا أنه لم يكن متقنا، لكن المسئول عن الخدع البصرية أعجب به وقرر عرضه بهذه الصورة. لا شك أن الجزء التاسع عشر لم يطرح في الأسواق بعد، كما أننا لا نستخدم لوح التزلج الطائر في الانتقال الشخصي حتى يومنا هذا!

لكن نجح الفيلم في التنبؤ بعدد من التغيرات التكنولوجية التي صارت جزءا من حياتنا اليوم بالفعل. مثل طائرات الاستكشاف الصغيرة التي لا تحتاج إلى طيار (drones)، حيث يتم التحكم فيها عن بعد بطرق مختلفة. كما تنبأ بظهور الشاشات المسطحة المنتشرة حاليا، وبرامج التواصل عبر الفيديو (video chat)، وألعاب الفيديو التي لا تحتاج إلى ذراع تحكم، لقدرتها على قراءة حركات جسدك، وهناك الخوذ التي تعرض الصور/الأفلام/المعلومات أمام عين مرتديها (head-mounted display)، والأفلام ثلاثية الأبعاد التي بدأت الانتشار بالفعل عام ٢٠١٠.

لكن ماذا عن التجربة الشخصية لجمهور الفيلم؟ ماذا يكون شعورهم عندما يكررون مشاهدة الفيلم الآن؟ أو إذا ما حاولوا استرجاع تفاصيله والمقارنة بين المستقبل الذي قدمه وبين حاضرهم الآن؟ هل يشعرون بحنين إلى مستقبل عاشوا فيه بشكل تخيلي وجاء الواقع مخالفا له؟

ماذا عن الأفلام التي حاولت رسم المستقبل بجدية أكثر وعرض تنبؤات حرص صناعها أن تكون دقيقة وصائبة قدر الإمكان؟ هل يكون هدف الفيلم من عرض جهاز مستقبلي متطور أن يأتي المستقبل بمثل هذا الجهاز؟ أم يحاول صناع الفيلم فقط وضع لمسات تعطي الفيلم وشخصياته جاذبية أكبر؟ تشويق أكثر؟ أهي محاولة لإكساب الفيلم نكهة خاصة يتميز بها وتغدو صيحة بين الشباب؟

غالبا ما تكون أنماط الحياة أو الأجهزة المقدمة في الفيلم ذات طبيعة جذابة أكثر منها علمية أو عملية. ففي الحياة الواقعية، عندما يخترع العلماء جهازا جديدا للاستخدام الشعبي يكون الهدف الأول هو تقديم جهاز بسيط وسهل وتقليدي قدر الإمكان، بحيث يستطيع ملايين من البشر العاديين استخدامه بكل يسر يوميا، أو عدة مرات في اليوم الواحد.

ومن زاوية أخرى، نرى أن هذه الأفلام تميل إلى عرض الأشياء بشيء من المبالغة، أو الخيال الجامح.. لأن هذا يجنبهم التعرض للنقد أو التصحيح، إذا هم أخطئوا في تقديم جيل متطور من تكنولوجيا معاصرة يعتادها الناس.

على كل حال، نقر بأن نوستالجيا المستقبل التي تنتج عن أعمال فنية تستشرف المستقبل، هي أخف على القلب مما تكون خيبة الظن مصدرها .. ولنتذكر الآن كيف كان تصورنا لعام ٢٠١٧، قبل خمس سنوات على سبيل المثال، ها هي السنوات الخمس قد مرت، وبت على أعتاب العام الجديد.. فهل تشعر أنك حيثما تخيلت.. أم أنك تشعر بالغربة، وبالحنين إلى زمن آخر؟