بعض هؤلاء غير المعروفين، لديهم موهبة كامنة، لديهم خاصيات معينة تتوفر عند الممثل المحترف. ربما لم يصبحوا ممثلين بسبب الحظ، أو ربما لأن القدر لم يكن شفوقًا بهم فصاروا جزارين أو بنّائين بدلاً من أن يصيروا ممثلين. إني أحاول العثور على هؤلاء بين الأفراد الذين أعرفهم، بين أصدقائي وأقاربي، شقيقة زوجتي، زملاء الدراسة، عم صديقة المصور، وغيرهم… هؤلاء جميعًا مثّلوا في أفلامي، إذا أنت عثرت على الشخص المناسب فإنك تحل معضلة كبيرة. (1)
المخرج التشيكي «ميلوش فورمان»، مخرج فيلم «أحدهم طار فوق عش الوقواق».
الصغير توتو من فيلم Cinema Paradiso
الصغير «توتو» من فيلم Cinema Paradiso

انتظر أيها الموت… سأظهر على الشاشة

يتحدث «ميلوش فورمان» عن الذين قادهم القدر لمهن البناء والجزارة، وأنا أبدأ حديثي بالحديث عن وكيل وزارة الكهرباء، محمود الفيشاوي، هو لم يقدم في حياته سوى دور واحد، في السنة الأخيرة من حياته، والحديث عن هنا دوره كأب لأحمد حلمي في فيلم «ألف مبروك».

هذا الرجل الذي حلم طيلة حياته أن يكون ممثلاً، ولكنه خشي غضب الأب، وحينما جاءته الفرصة، أخيرًا، وبعد قراءة السيناريو أجاب ردًا على سؤال أحمد حلمي قائلاً: لن أُمثِّل، فتعجب حلمي كثيرًا، ثم أكمل الرجل كلمته قائلاً: لن أُمثِّل، لدي أولاد في مثل عمرك، سأكون لك مثل أب، لن أناديك في موقع التصوير أستاذ أحمد، سأناديك أحمد. (2)

قام الرجل بتقديم دوره ثم رحل بعد سنة. يحظى دوره الآن ببعض الشهرة وبالقبول رغم أنه كان دوره الوحيد. ينقلني هذا الرجل واستعداده الفطري للقيام بهذا الدور بعيدًا إلى الهند… حيث المخرج الهندي الشهير «ساتياجيت راي» يتحدث قائلاً:

الرجل العجوز (الذي مات بانتهاء التصوير) في فيلمي Aparajito لم يشاهد في حياته فيلمًا، ولم يكن لديه أي إحساس بالتمثيل على الإطلاق، لكنه كان مناسبًا للدور، وعندما سألناه إذا كان يرغب في التمثيل، أجاب على الفور: نعم… لم لا؟… مع شخص كهذا إذا استطعت أن توصل إليه شعورًا أو حالة معينة، وكان قادرًا على الإحساس بها، فإنه عندئذ يستطيع توصيلها… لكن ينبغي دائمًا أن يتصل هذا بتجربة في حياته. (3)

فهل التمثيل بالفعل عملية معقدة، لا يمكن أن تقوم بها إلا إذا كنت من خريجي مدرسة المخرج الأمريكي «لي ستراسبرغ» وغيره من الأساتذة، أم أنه استعداد فطري ربما يمتلكه الإنسان دون أن يدرس أي قاعدة واحدة تتعلق بالأداء أمام الكاميرا؟

سؤال ربما تكون له إجابتان، وكلاهما تستطيع أن تبرر كل شق من شقي السؤال، ولكني هنا مُنحاز للشق الثاني، وتلك الأدوار التي قدمها لا ممثلون وعلى الرغم من هذا تركت انطباعًا قويًا لدى الجمهور والمخرجين، سواء على نطاق محلي أو عالمي، ومنهم من أصبح أيقونة بالفعل في تاريخ السينما ككل، عن طريق دور واحد.

ثورة ضد برج بيزا المائل

فيلم bicycle thieves
فيلم bicycle thieves أشهر أفلام حركة الواقعية الإيطالية

عندما ظهرت الواقعية الجديدة كحركة سينمائية، في إيطاليا عام 1943، ظهرت كـ ثورة داعية للانفصال الجذري عن كل تفاصيل السينما التقليدية، التي أصبحت مائلة كبرج بيزا، ومن ضمنها اختيار الممثلين لأداء الأدوار. ابتعدت الحركة في اختيار الممثلين عن النجوم والمحترفين، واتجهت للبحث في الواقع اليومي، عن أشخاص لم يظهروا أمام الكاميرا بعد، ووجوه لم تتقن بعد تقنيات التمثيل الاحترافية وكليشيهاتها، أرادوا أفرادًا يُجسدون الشخصيات اليومية الحية، فاتجهوا لاختيار شخصيات من الحياة اليومية ليُجسدوا أنفسهم ومشاكلهم. (4)

رغم أن ثورة الواقعية لم تنجح بالشكل الذي توقعه روادها، ولكنها ألهمت الكثير من السينمات لعل أبرزها السينما الإيرانية.

فأحد رواد الواقعية في السينما الإيرانية، المخرج «محسن مخملباف»، أوضح في أكثر من مرة تعمده أن يزج بممثلين غير محترفين في أفلامه، لأنهم يحملون عفوية وبراءة الحياة كما يرى، ويرى أيضًا أن الممثل المحترف مهما عملت على تطويره، لن يقترب من تلك الحالة التي يؤديها اللا ممثل، ربما يتفوق المحترف في إجادته للجانب التقني، ولكنه يرى أن ذلك الجانب التقني وحده ليس كافيًا لالتقاط العفوية والجمال اللذين يبحث عنهما في أفلامه، لذلك فهو يرسم الحياة كما هي، وبتدخل يخدم حبكة الفيلم ليس إلا. (5)

كتالوج اللا ممثل

التعامل مع اللا ممثل، ليس بالأمر السهل طبعًا، فاللا ممثل تتملكه الرهبة من الكاميرا والمعدات والعيون التي تنظر إليه وتترقبه دائمًا، ولكن كيف يتعامل المخرج مع اللا ممثل؟ وما هي العلاقة التي تنشأ بينه وبين اللا ممثل؟

مخرج آخر في السينما الإيرانية، وأنا أراه كبير السينما الشاعرية، هو الشاعر المخرج «عباس كيارستمي». يرى عباس في اللا ممثل قبلته نحو الدور الذي يريده، تحفل أغلب أفلامه بهذا النوع من الممثلين، يرى كيارستمي رغم عمله مع ممثلين محترفين في أفلامه لمرات، أن الممثل غير المحترف أفضل، والعلاقة بينه وبين غير المحترفين علاقة تبادل، فهو يرى نفسه يتعلم منهم الكثير، وهذا يرجع لنظرتهم الطرية والطازجة للسينما، فهم باستمرار يُصحِّحون أفكاره، فحينما يرى أحدهم غير قادر على إلقاء جملة من الحوار، يبدأ النظر في كتابته هو للجملة، ربما كتبها بشكل سيئ، أو حينما يعجزون عن أداء مشهد ما، فهم يُشعرِونه بخلل في السيناريو الذي كتبه، ومن ثَمَّ ينصرف للبحث في الخطأ وتعديله، فعلى الرغم من عدم امتلاكهم للمعرفة، إلا أنهم يُعلّمونه، والعلاقة بينهم تتطور باستمرار. (6)

بالعودة إلى إيطاليا، يُبرر المخرج الإيطالي «فرانشيسكو روزي» اعتماده على «اللا ممثلين» في فيلمه Salvatore Giuliano. قد اعتمد فرانشيسكو في فيلمه بالكامل على غير المحترفين. ويرجع هذا إلى أنه أراد أن يقدم فيلمه في شكل دراما سيكولوجية، لا تخرِّبها التقنيات التي يتبعها الممثل المحترف، فمثلاً في المشهد الذي يُصوِّر تدافع النسوة من بيوتهن نحو ساحة البلدة للتظاهر والاعتراض على اعتقال الجيش لأبنائهم وأزواجهم، كان حادثة حقيقية حدثت لنسوة تلك البلدة، وأراد بهذا المشهد أن يثير لديهن الاستجابة العاطفية حينما يتذكرن ما حدث لهن في الحقيقة. (7)

مخرج إيطالي آخر، يعده الكثيرون أهم مخرجي المدرسة الواقعية، المخرج «فيتوريو دي سيكا»، كان له أسلوب خاص في إثارة الممثل غير المحترف، وأحيانًا كان يذهب للعب على أوتار خاصة تتعلق بالممثل، ففي فيلمه Bicycle Thieves، من أجل أن يحصل من الطفل الصغير على ردة فعل حقيقية وبكاء حاد يناسب مشهد تعرض أبيه للضرب من العامة، لجأ فيتوريو لتعنيف الصغير وراء الكواليس والسخرية منه ومن حاله، حيث كان الصغير يقيم مع أبيه وأمه وأخواته في غرفة واحدة، ورغم هذا الفقر كان مُعتدًا بذاته… وحينما سخر منه فيتوريو ظلّ الطفل ينتحب ويبكي بشدة لساعات، وبعد أن التقط منه فيتوريو المشهد، صالحه وأعطاه الحلوى، ولكن فيتوريو أعلن عن ندمه من استخدام أسلوب مثل هذا فيما بعد. (8)

هناك في فرنسا، المخرج «لويس مال»، أثناء تصويره فيلم Au Revoir les Enfants، اعتمد بشكل كامل على تلاميذ حقيقيين في إحدى المدارس، ومن أجل أن يكسر لديهم رهبة الكاميرا والفيلم، ظل لأيام يصور دوامهم ولحظاتهم العادية في المدرسة، قبل الشروع في تصوير الفيلم، حتى يكسر لديهم حاجز الفيلم والخوف من الكاميرا. (9)

وهناك نوع آخر من المخرجين الذين يحاولون إقامة علاقة من التآخي بينهم وبين اللا ممثل، فالمخرج الأرجنتيني «هيكتور بابينكو» في صناعة فيلمه Pixote، الذي أراد أن يصنعه عن أطفال الشوارع، استعان بطاقم كله من أطفال الشوارع، وقد كان دائمًا يحرص على إزالة هذا الحاجز والخوف لديهم، من خلال دعمهم ماديًا، فقد تلقى ذات يوم مكالمة من الصبي الذي أخذ الدور فيما بعد، كان يبكي من أن أخاه سرق نقوده ولم يعد قادرًا على المجيء إلى الاستوديو، فقال له هيكتور أن يأتي وسيتولى هو أمر المال.

حينما جاء الطفل، وجده هيكتور متسخًا وحافيًا، ورأى فيه الشخصية التي يحتاجها بالفعل، الطفل الذي يقود نضالاً يوميًا ضد الحياة في الفيلم، كانت هكذا هي حياته في الواقع، لقد عانى هيكتور من هذا الصبي كثيرًا، فحينما كان يصور المشاهد ويثني عليه وعلى أدائه ثم يطلب منه إعادة التصوير، كان يغضب الطفل حتى ثار مرة ونعته بالكاذب والمستغل، وحينما سأله هيكتور عن السبب قال لأنه يقول له أن أداءه جيد ثم يعود ليخبره أن يعيد التصوير، فأخذه هيكتور لغرفة المونتاج وعرّفه على اللقطات وكيف أنه يختار الأفضل من بين كل هذا، وهنا هدأ الصبي وأصبح أكثر فهمًا لطبيعة العمل السينمائي. (10)

ربما دور واحد يكفي

الصغير فلوريا من الفيلم الروسي Come and See
الصغير فلوريا من الفيلم الروسي Come and See

رغم أن الكثير من المخرجين لا يجازفون، ولا يعتمدون هذا الأسلوب الطبيعي في التمثيل، إلا أن هناك العديد من الأدوار التي أداها «لا ممثلون» في البداية، ولم يكملوا التمثيل بعدها أو أكملوا، أصبحت أيقونة أو شبه أيقونة فيما بعد.

فعامل المصنع لامبرتو ماجيورياني الذي قام بدور الأب في فيلم Bicycle Thieves استطاع أن يحفر أداءه في أذهان المشاهدين، فأنا مثلاً كلما تذكرت مشهده الأخير أشعر برغبة في البكاء.

والموظف المحال على المعاش كارلو باتسيتي، قدم قصته مرة أخرى بشكل سينمائي في فيلم Umberto D، والعامل المشترك بين باتسيتي وماجيورياني، أن الاثنين هما نتيجة بحث المخرج «فيتوريو دي سيكا» عن أبطال أفلامه من الشخصيات الحقيقية.

في إيطاليا أيضًا، في التحفة الأوسكارية الخالدة Cinema Paradiso، قدم الطفل سالفاتوري كاشيو دوره الأول والأبرز في مسيرة قصيرة، استطاع أن يحصد من خلال أدائه لدور توتو الصغير، جائرة BAFTA كأفضل ممثل مساعد.

الفيلم الروسي Come and See، الذي قدمه المخرج الروسي Elem Klimov وأصبح فيما بعد في نظر الكثيرين أفضل فيلم صوَّر الحرب من منظور رعب نفسي، عن طريق تركيزه على الوجوه وانفعالاتها بشكل أكبر، اعتمد فيه على طفل من أطفال أحد القرى السوفييتية ألكسي كرافشنكو، في دور فلوريا، والذي قدم دورًا مرعبًا أقل ما يتصف به أنه أيقوني، رغم أنه كان يواجه الكاميرا للمرة الأولى.

عباس كيارستمي هو الآخر، أعاد تقديم حادثة حقيقية، في فيلمه Close Up، والذي قام ببطولته هو نفسه المتهم حسين سبزيان، ليقدم دوره الوحيد، الذي لا زال يتذكره الكثيرون حتى اليوم. عمومًا عباس كيارستمي اعتاد دومًا تقديم أدواره عن طريق لا ممثلين، مثل الطفل الصغير أحمد بور والعامل الكادح حسين رضائي، واللذين اشتهرا بدوريهما في ثلاثية «كوكر».

حاليًا، في زمن السوبر ستار، لم يعد مخرجو السينما يهتمون لتقديم نماذج جديدة، مغامرين بالاعتماد على اللا ممثلين، إلا في الأفلام الوثائقية. لذلك في ختام مقالي، أتوجه بالشكر إلى كل مغامري السينما من المخرجين أمثال: دي سيكا، وكيارستمي، وروبرت بريسون، وروبرتو روسيلليني، وجيلو بونتيكورفو، وساتياجيت راي، وليكن مقالي بمثابة رثاء للصغير توتو وغيره من اللا ممثلين، الذين أثّروا فيّ وفي غيري من عشاق السينما.

المراجع
  1. أمين صالح، “الوجه والظل في التمثيل السينمائي”، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2002، ص 360.
  2. أحمد حلمي، “28 حرف”، القاهرة، دار الشروق، 2012، ص 70.
  3. أمين صالح، “الوجه والظل في التمثيل السينمائي”، مرجع سبق ذكره، ص 363.
  4. المرجع السابق، ص 361.
  5. المرجع السابق، ص 365.
  6. المرجع السابق، ص 364.
  7. المرجع السابق، ص 363.
  8. المرجع السابق، ص 371.
  9. المرجع السابق، ص 384.
  10. المرجع السابق، ص 384.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.