تحدث الانقلابات حين يفقد الحاكم تأييد شريحة عريضة من الشعب، أو حين يبقى الحاكم في كرسيِّه عدة عقود حتى ينسى الشعب أن الرئيس قابل للتغيير، فيصبح لدى الشعب استعداد لتأييد أي طريقة لتغيير الحاكم، أو في حالة ثالثة حين تكون الدولة هشة، ويكون الحكم فيها غير مستقر، ومحل نزاع بين الأطراف. غالبًا ما تؤدي الانقلابات إلى الفوضى، إذ يرى الجمهور أن سلطات الدولة مشغولة بصراعٍ بينها وبين بعضها، فلا يمكن أن تلتفت السلطات إذن إلى مواطنٍ واحد يرتكب جريمة في بلدةٍ صغيرة، لكن الواقع يقول إن الانقلابات ليست دائمًا شر، وأن ثمة انقلابات يمكن وصفها بـ «الجيدة»، مع الاعتراف بأنه ليس أفضل من التداول السلمي للسلطة، المبني على قواعد ديمقراطية راسخة.

قد يكون جيدًا لمجرد أنَّه حدث، إذ يُحدث صدمةً في داخل الأنظمة المستبدة التي ظنت أنها قد رسخت أركانها للأبد. هذه الصدمة قد تجعل النظام بالكامل يتهاوى ما يخلق فرصةً لتأسيس نظام ديمقراطي أو نظام أكثر حريةً من نظامِ المُنقَلِب والمُنقَلَب عليه. أو قد يكون جيدًا لإنجازاته التي يقوم بها بعد استيلائه على السلطة بطريقة غير ديمقراطية، أو ربما يكون جيدًا لأنه يجعل من نفسه جسرًا تعبر عليه الشعوب نحو سلطة حقيقية تختارها الشعوب بنفسها، والأمثلة التالية تؤكد ذلك.


الجزائر: الانقلاب على الرفيق

طوال 34 عامًا، الفترة بين عام 1965 حتى عام 1999، عرفت الجزائر أن التاسع عشر من يونيو/ حزيران هو عطلة رسمية احتفالًا بانقلاب/ ثورة تصحيح هواري بومدين على أحمد بن بلة. لكن ما تغيَّر عام 1999 هو وصول الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم. بوتفليقة ألغى الاحتفال بما يُسميه مناصرو بومدين «تصحيحًا ثوريًّا» من أجل رد الاعتبار إلى بن بلة «المنقلب عليه» من وجهة نظر بوتفليقة.

الموقف السابق يُظهر الحيرة التي تلف العديد من التحليلات السياسية منذ عام 1965 حتى يومنا هذا فيما يتعلق بتسمية الخطوة التي قام بها بومدين. لكن لا تبدو الحيرة حاضرةً بنفس القوة حين الحديث حول كونها حركةً صائبةً أم غير ذلك، فالمعظم على أنها كانت ضرورية.

الكتاب الجماعي «التاسع عشر من يونيو/ حزيران 1965 انقلابٌ عسكري أم تصحيحٌ ثوري» الذي شارك فيه العديدون من الأكاديميين والكتاب الجزائريين يُبرز هو الآخر هذا الاختلاف والخلاف في وصف ما قام به بومدين. فهناك من يرى أن الأمر كان تصحيحًا ثوريًّا لخروج بن بلة عن خط الثورة الجزائرية واحتكاره للسلطة. وهناك آخرون يرون أن بومدين خطط للانقلاب من أول أيامه، مسترشدًا بحركة الضباط الأحرار في مصر في يوليو/ تموز. وأن بومدين تحالف أولًا مع بن بلة ليكون له واجهةً تمتلك شعبيةً وكاريزما مثل ما كان محمد نجيب بالنسبة لجمال عبد الناصر. لكن الكتاب هو الآخر يخلص إلى أن الجميع توقع هبةً شعبيةً تُعيد بن بلة إلى موقعه، لكن المفاجأة أن الشعب رحب بالقائد الجديد. واستطاعت إنجازات بومدين أن تُطفئ ذكرى بن بلة سريعًا.


أحد عشر سطرًا

عمل بومدين على ثلاثة محاور: الاقتصاد، الزراعة، والثقافة. أما الزراعة فوزع الأراضي الزراعية على الفلاحين ووفر لهم منازل آدمية بدلًا لأكواخهم الرثة التي اعتادوها، فيما عُرف بالثورة الزراعية تحت شعار «لا نريد تقبيل اليد». أما الاقتصاد فتكفل بومدين بإغضاب فرنسا عبر تأميم نفط الجزائر الذي استنزفته فرنسا طويلًا. هذا التأميم وفرَّ سيولةً لبومدين قام بها بإنشاء مئات المصانع على مختلف مجالاتها. وصرَّح بومدين أنه رؤيته أن تخرج الجزائر من دائرة التخلف بشكل كامل حتى تصبح «يابان الوطن العربي». بجانب الزراعة والصناعة عمل بومدين على توطيد أركان الدولة السياسية، فعمل مع قواعد جماهيرية كبيرة لوضع الدستور والميثاق الوطني الجزائري.

اقرأ أيضًا: الديوان الأسود: سؤال السياسي والعسكري في الجزائر

بومدين، اسمه الحقيقي محمد إبراهيم بوخروبة، فتح أحضانه وأبواب كليات الجزائر العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقال مقولته الشهيرة: «نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة». وصرَّح الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في حوارٍ له مع الشاعر محمود درويش بأن أول تأييد حصل عليه عرفات لثورته كان من جزائر بومدين. كما للفريق المصري سعد الدين الشاذلي وللرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات تصريحات متشابهة تعترف بفضل بومدين في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973.

بومدين حكم الجزائر 13 عامًا له إنجازاته وعليه أخطاؤه، إلا أن الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية الجزائرية يختزل حياته في 11 سطرًا فقط. لا تكفي تلك الأسطر الأحد عشر حياته بالتأكيد، وقطعًا لا تكفي لسرد وفاته الغامضة، 27 ديسمبر/كانون الأول 1978 في روسيا لتلقي العلاج إثر تجرُّعه سُمًّا لم يُعرف من وضعه له حتى الآن.


قطر: انقلاب الابن على أبيه

يدافع بومدين عن خروجه على بن بلة ويدافع عن كل من يفعل ذلك لاحقًا بقوله إن الانقلاب العسكري هو، في حقيقة الأمر، عمليةٌ عسكرية بحتة تقوم بها جماعة تنتمي إلى جهاز كلاسيكي، يقصد الجيش. مجموعةٌ مغامرة ترمي إلى الاستيلاء على الحكم وخدمة مصالحها الضيقة. أما بومدين ومن يشابهه فليسوا جيشًا من المرتزقة. فلا يصح إذن القول إن ما قاموا به انقلاب يشبه الانقلابات التي تحدث في أمريكا اللاتينية مثلًا. يوافقه في هذا التفسير «حمد بن خليفة آل ثاني».

انتزع حمد بن خليفة آل ثاني الدولة من أبيه وهى مفككة الأركان، مغمورة على حافة الإفلاس، تحصل على أقل عائد ممكن من الصادرات النفطية. خليفة آل ثاني كان يخشى وصول الثروة إلى الشعب القطري كي لا تتغير بنية المجتمع الاقتصادية ثم يطمحون إلى تغييرات سياسية. لكن في 27 يونيو/حزيران 1995 أبلغ حمد، 43 عامًا آنذاك، والده أثناء وجوده في سويسرا للاستشفاء بأن القصر صار له.

استتب الأمر للأمير الجديد، السابق حاليًا، سريعًا واستطاع أن يثبت أن انقلابه على أبيه كان أبيض في التنفيذ والهدف. في سنوات حمد انتقلت قطر إلى مركز خريطة التأثير العالمي. استطاع خريج أكاديمية «ساندهيرست» العسكرية البريطانية أن يوثق تحالفه مع الولايات المتحدة بأشد صورةٍ ممكنة، استضاف أكبر قاعدة عسكرية لها في الشرق الأوسط. سياسة حمد جعلت قطر العاصمة السياسية للخليج العربي، وربما يشمل الأمر العالم العربي خاصةً بعد تراجع دور مصر وسوريا والسعودية.

وأصبحت رمال الصحراء ومياه البحر تُدِّر أموالًا ضخمة عبر التنقيب عن الغاز الذي تمتلك قطر ثالث أكبر مخزون منه بعد روسيا وإيران. هذه الطفرة الاقتصادية انعكست على المواطن القطري، فصار صاحب أعلى دخل فردي في العالم بقيمة 86 ألف دولار سنويًّا. إضافةً إلى مصادر الطاقة والنفوذ التقليدية خلق حمد مصدرًا جديدًا للنفوذ، قناة الجزيرة.

تسليم السلطة

تعديلات حمد على النظام السياسي القطري محدودة . إذ وعد بتنفيذ انتخابات برلمانية ووجود تمثيل شعبي في برلمان منتخب، لكنه لم يفعل. أما ما قام به فهو الانتخابات البلدية التي بدأها عام 1999 وتستمر حتى الآن. والتعديل السياسي الأبرز هو استفتاء عام 2003 على دستورٍ جديد للبلاد. على الجانب الآخر شهدت القوات المسلحة القطرية في عهده تطورًا ملحوظًا. كما أولى التعليم اهتمامًا شديدًا، فجعله إجباريًّا من السابعة حتى ما قبل العشرين. واستقطب العديد من الجامعات العالمية المرموقة لتُنشئ فروعًا لها في قطر.

إنجاز حمد الأخير كان تسليم السلطة طواعيةً لابنه تميم. الأسباب غير معروفة، لكن أخبارًا أجنبيةً متناثرةً تقول بأن حمد لم يكن مرتاحًا لانقلابه على والده، وأن إنجازاته التي شهدها القطريون وغيرهم لم تشفع له عند نفسه في أن ما قام به انقلاب. فأراد أن يتذكره التاريخ بالأمير الذي سلَّم السلطة طواعيةً لا بانقلاب ابنه عليه.


سوار الذهب: رجل كالذهب

السودان له تاريخ حافل بالانقلابات لكنه يتذكر انقلابًا واحدًا بالخير. بعد استقلال السودان عام 1956 وجد رئيس الوزراء عبد الله خليل أنَّ الأمر أكبر من قدرته، فسلم السلطة للجيش بقيادة الفريق إبراهيم عبود عام 1958. قيادة عبود حسمت الخلاف وفرضت الصمت على القوى السياسية، إلا أن الانهيار الاقتصادي لم يصمت. بدأت خزينة الدولة في التناقص حتى شارفت البلاد على الانهيار. ثار المدنيون على عبود فلم يجد بدًا من تسليمهم السلطة. انقسم المدنيون إلى شيوعيين وإسلاميين، فعاش السودان فترةً قلقةً من الصراع والانهيار الاقتصادي. عام 1969 كان الإسلاميون والشيوعيون قد اتفقوا على دستورٍ جديد للبلاد. لكن العقيد جعفر النميري وضباطه الأحرار المتأثرين بالضباط الأحرار في مصر قاموا بانقلاب ومنعوا الحكومة من تسيير أعمالها.

حكم النميري السودان بالحديد والنار، وقتل الآلاف من المعارضين الإسلاميين والشيوعيين على حد سواء. ولاحقًا استطاع النميري قمع محاولة الرائد هاشم العطا بالانقلاب عليه، فصارت البلاد راضحة بالكامل لحكم النميري. زادت أسعار الخبز، وحلت المجاعات ضيفًا ثقيلًا على الشعب السوداني. وتراجعت شعبية النميري إلى نقطةٍ لا عودة منها، فلم يجد المشير ووزير الدفاع عبد الرحمن سوار الذهب مفرًّا من الانقلاب على النميري. لكنه كان انقلابًا مختلفًا هذه المرة.

تسليم السلطة

أعلن سوار الذهب انحيازه لمطالب الشعب وحل الحكومة الحالية وقيادة البلاد لفترة انتقالية محددة، يتم فيها إجراء تعديلات دستورية تُتبع بانتخابات حرة ثم يتنازل الجيش للحزب الفائز عن السلطة. الفترة الانتقالية حدَّدها سوار الذهب بعام واحد، في هذا العام قضى على جهاز أمن الدولة المرعب، واستطاع بدعم سعودي قطري أن يسد حاجة البلاد من الغذاء والنفط طوال هذا العام. شهدت الأشهر الاثنا عشر لحكم سوار الذهب إعادة بعث الحياة الحزبية والسياسية، فنشطت الأحزاب القديمة ووُلدت أحزاب جديدة. تنافست هذه الأحزاب في الانتخابات البيضاء التي رعاها سوار الذهب وشارك فيها ما يُقارب 5 ملايين سوداني. انتهت الانتخابات بفوز حزب الأمة واُنتخب الصادق المهدي رئيسًا للحكومة الجديدة.

اقرأ أيضًا:جمهوريات البنادق: متى ينقلب الجنرال على جنراله؟

أوفى سوار الذهب وعده، ولم يزد على العام الذي حدده سوى 20 يومًا لإجراء الانتخابات.تنازله عن السلطة لم يكن متوقعًا رغم ما أعلنه الرجل، ليس شعبيًّا فحسب، بل من قبل أقرانه في المجلس العسكري كذلك. إذ ينقل سوار الذهب أنه كان يلحظ تباطؤًا من بعض الضباط في تنفيذ مهامهم معللين بأنه سيُضطر لتمديد الفترة الانتقالية بلا شك. لكنه كان يُصر على أنها ستكون عامًا واحدًا فقط، وقد كانت.


هل تتراجع الجيوش حقًّا؟

فكرة الانقلاب الجيد أو الانقلاب المؤدي لديمقراطية منتخبة تبدو جيدةً نظريًّا، لكنها تطرح سؤالًا مرعبًا حول مَن يضمن ألا يعود الجيش إلى التدخل مرةً أخرى؟ ولو عاد الجيش إلى ثكناته وسمح للمدنيين بقيادة البلاد فإن ظله يبقى مخيمًا على الدولة. ويبقى كالأب حين يُمسك العصا لابن مرةً تلو الأخرى، فحتى لو غاب الأب وانكسرت العصا فسوف يبقيان في ذهن الابن.

ولا تبدو جيوش المنطقة قادرةً على إدراك أنها جزء من ذات النسيج الذي يأتي منه شعبها. الاستعمار غرس في نفوس الجيوش أنها أداته لتنفيذ رغباته و وسيلته لفرض هيمنته ما يعني أنَّها، أي الجيوش، طرف مهم في المعادلة السياسية. تلك الثقافة من الصعب انتزاعها من نفوس جيوش المنطقة، خاصةً إذا تدخلت مرةً في سياسة الدولة ووجدت أن تدخلها قد أحدث فارقًا. سواء كان هذا الفارق لمصلحة الشعب سياسيًّا واقتصاديًّا، أو حتى لمصلحة العسكريين الضيقة، ففي الحالين يبدو التدخل مغريًا ومربحًا. لذا فالحديث عن انقلاب جيد يؤدي إلى نتائج جيدة لا يبدو صحيحًا ما لم تشمل تلك النتائج إجبار جيش الدولة على الرضوخ للحكومة المدنية المُنتخبة.

الزاوية الأخرى التي يجب الالتفات إليها أن إقناع الجيش بالعودة إلى ثكناته أمر صعب، والنضال ضد حكم الجيش أكثر احتماليةً أن يتحول لنضال دموي من النضال ضد حكومة مدنية فاسدة. كما أن الشعب لن يمكنه مساءلة الجيش، فدائمًا ما يمكن للجيوش استخدام مصطلحات مثل الأمن القومي أو سيادة البلاد لكبت أي صوت يطالب بالشفافية. لذا لا ينبغي أن يكون التطلع إلى وجود جيش ينقلب إذا لزم الأمر، بل التطلع الصحيح يجب أن يكون إلى نظام ديمقراطي راسخ. ديمقراطية تضمن للشعب أن يختار حقًّا من يريد، وأن يعترض على أفعال من انتخبه، وأن توجد قنوات دستورية تسمح للشعوب بعزل قادتها إذا ظلموا.