استمعوا قديمًا وتحاكوا بأشعار الشعراء ومبارزاتهم الهجائية، ومن ثَمَّ بقصص القصّاصين للسيرْ الشعبية، كـ«الزيني بركات» و«السيرة الهلالية»، فيما أمكن اعتباره نوعًا من الطقوس الاجتماعية، والتي شكّلت جزءًا ليس باليسير في الذاكرة الجمعية للمجتمع العربي.

تمتد الحلقات مد البصر حول الحكواتي أو القصّاص في جو من السلطنة والتمزّج يجمع أبناء الحي برمتهم، وكأن الأمر أصبح ركنًا ركينًا مُشكِّلًا لهوية الإنسان، حيث يربطه بالمجتمع جزء ليس بالبسيط من لحظات النشوة المشتركة في التفاعل والتأثر بالمحتوى الفني لتلك الأعمال الإبداعية الشعبوية.

حفلة الست

لنعود إلى ستينيات القرن الماضي، وتحديدًا أول يوم خميس من كل شهر، إنها حفلة الست! وما أدراك ما حفلة الست… الليلة في التاسعة مساءً ستُشنف الآذان وتُطرَب الأفئدة، لكن الفؤاد لا يصح أن يُطرَب وحيدًا، لا بد من طقس فريد يليق بمثل تلك الليلة، ستكون ليلة سمر وأنس… لا بأس بها مع تجمع العائلة، بيد أن أحدهم لا يستأنس أن يضيع تلك الليلة مع عائلته، لا بأس فلا بد وأنه وجد طريقًا لسلوى فؤاده بين رفقة من تجمع شبابي بين رفقائه عند أحدهم، الشباب أكثر اندفاعًا وعاطفةً وإحساسًا بتلك المعاني، وقد يكون أحدهم يعيش بالفعل معنى سكرة الحب وراح يُدندن بتأثر ومن دون خجل بين أقرانه «هل رأى الحب سكارى… سكارى مثلنا؟». والويل لهؤلاء المدندنون وما يفسدون بقبيح أصواتهم من أمسيات، ولربما سيعيش أحدهم مثل ذلك المعنى ويصنع لنفسه محبوبًا أشبه برجل القش وينسج معاني الأغنية على حبيب لم يره أو يسمعه بعد.

آهٍ من هذا المذياع، ذلك الضيف الجديد على بيوتنا، ماذا أحدث فينا! يبدو أنه صنع معروفًا في الفقراء غير قادرين على حضور الحفلات والأمسيات الفنية، ولعله قطع أرزاق الحكّواتية والقصّاصين، ولفت الأضواء إليه. ضيف أسكت الجميع لتكون له الكلمة الأولى في المنازل والمقاهي، إلا أنه مع انتشاره ووجوده في كل منزل فقد انحصر طقس الطرب والاستقصاص من نطاق يجمع أهل الحي والمنطقة إلى نطاق الأسرة، وقد عزّز هذا الانحصار ظهور التلفاز فيما بعد.

على كلٍ، أعلن المذياع لأول مرة عن دور التكنولوجيا كمكوِّن أساسي من المكونات الاجتماعية التي أصبحت تتشكل حولها الطقوس، وتُرتَّب عليها المواعيد، عن طريق ما يصل من خلالها من أعمال فنية.

فردانية الطقس

منذ بضعة أيام كنت أقلِّب في التلفاز في جلسة ملل، ووجدت حلقة لإحدى المسلسلات التي قد شاهدتها سابقًا على اليوتيوب، وفجأة قطعه فاصل إعلاني، لا أخفيكم سرًا فقد كانت المرة الأولى التي لا أنزعج فيها لفاصل إعلاني، شعرت بإحساس غريب أشبه بالحنين لتلك الطقوس في متابعة المسلسلات في الصغر، شعور بأنني لست أمام جهاز مُصمت، بل أمام قصّاص له إرادة الحكي والتوقف متى يشاء، يفرض عليّ الاستماع والتأمل في مشهد قد أراه في العادة مُفتعل، فأحاول أن أمرره لكن لا أستطيع هنا، فمُخرج العمل هو صاحب العرض في عمله وهو أدرى بالطريقة التي يُعرض بها العمل، وللمشاهد التقييم في نهاية العمل كمُجمل، فهو ليس كتابًا لأتصفح الصفحات التي لا أريدها أو أكتفي بإلقاء نظرة سريعة عليه.

يفرض عليّ هذا القصّاص هضم الأحداث واللقطات الجيدة والحبكات من خلال الاستراحة الإعلانية، من خلال الاكتفاء بقدر حلقة واحدة يوميًا، ثم يتركني بقية يومي أفكر في الأحداث وأتوقع ماذا تُخبئ الحلقات المقبلة، وأحيا مع أبطال العمل في مخيلتي، ولربما أناقش زميلًا أو من يشاركني طقس متابعة المسلسل على هذه القناة في الأحداث من دون أن يحرق أحد الأحداث للآخر. أرجعني ذلك الشعور لما قبل أن ينحصر الطقس ويضيق أكثر فأكثر عن نطاق الأسرة حتى انحصر على الفرد فحسب.

أذكر أنني منذ فترة هممت بمشاهدة مسلسل «حديث الصباح والمساء» على الإنترنت، وكانت أول مرة أشاهده فيها، وقد أنجزت تلك المهمة في ظرف يومين أو ثلاثة أيام، وبنهاية المسلسل قد اختلط عليّ الأمر وتداخلت الشخصيات بين جيل يزيد وعزيز وعمرو ومنْ ابن منْ؟ ومنْ في جيل منْ؟ وصرت أُمرِّر الأحداث وأقتطع الحوارات للوصول إلى المنتهى، وتلك العادة دائمًا ما أتبعها أنا وكثير من الرفاق عند متابعة أي مسلسل على الإنترنت، ولكن ما أن أنتهي من العمل حتى يتملكني الندم وأدرك أن المتعة لم تكن في الوصول لمنتهى الأحداث بل في الأحداث نفسها.

أكاد أجزم أن مشاهدة هذا المسلسل الرائع- حديث الصباح والمساء- وقت عرضه بطقوس ذلك الوقت كان لها مذاقٌ آخر، لابد وأن هناك من كان يحيا الأحداث، حتى لربما خال نفسه جزءًا منها، ولم يقتصر على دور المتفرج الصامت من الخارج وحسب.

أذكر من طرائف ما ذُكر من قصص الريف قديمًا، أنه أثناء النداء على أحد المتوفين في إحدى القرى ذات مرة، أردف المُنادي في ندائه «الدفنة بعد مسلسل…»، وعلى الرغم من طرفة القصة فإنها تعبر عن قوة الدراما الاجتماعية قديمًا، وعن أهمية ذلك الطقس الاجتماعي.

لكن هل يعي صُنّاع الدراما ضياع ذلك الطقس وتدهور حالته، وهل انعكس ذلك على صناعة العمل؟

فمثلاً، هل لذلك دخل بما أصاب الكثير من المخرجين من الهوس بعادة تصنّع العمق طوال أحداث المسلسل وصنع المبهم في الأحداث، ومن ثَمَّ التحول المفاجئ -الذي لم يعد مفاجئًا الآن- في نهاية العمل، فما أن تبدأ بمشاهدة أي عمل من الأعمال الجديدة إلا وأنت موقن أنه لا بد من تحول مفاجئ ومًبتزل لا علاقة له بالقصة ولا بالتشويق سيحدث في الحلقة الأخيرة من المسلسل أو في آخر الفيلم، وغالباً ما أصبح هذا التحول المبتذل هو الغاية من المسلسل نفسه، حتى لأنه قد يفسد القصة برمتها.

ربما يقوم صنّاع بذلك لأنهم علموا أن المشاهد الآن صار هو المتحكم في العرض وأنه لا يهمه الأحداث ولا حبكتها بقدر ما يهمه الخلاصة أو الوصول للنهاية، فيجب أن تكون الحلقة الأخيرة بها ما يستحق الوصول إليها، وكأن المسلسل هو الحلقة الأخيرة وحسب، يكفيك أن تشاهدها لتستنتج باقي أحداث المسلسل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.