خرج علينا دكتور «سعد الهلالي» أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، على إحدى القنوات الفضائية، يتحدث عن الحجاب، فعرض أولا لمسألة العورات، وأن منها مغلظة ومنها مخففة، وأننا كلما ابتعدنا عن العورة المغلظة كان التحريم أخف، ثم عرض آراء العلماء في مسألة عورة المرأة الحرة بين الرجال الأجانب، ثم عرض أدلتهم وناقشها، ليترك لدى المشاهد انطباعا بأن المطلوب من المرأة المسلمة هو الحشمة، وهو أمر متروك للذوق والعرف العام، وأن أدلة وجوب تغطية الرأس والرقبة والساق والذراعين محتملة، مدعيا أنه سيعرض الآراء والأدلة، وأنه لو أفتى سيكون معتديا عليك، وأن اختيار الرأي المناسب متروك لصاحب الشأن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استفت قلبك». لأن الأمر يتعلق بالدين (علاقة الفرد بربه) لا بالمعاملات، ففي المعاملات سيذكر القانون الذي انتهى إليه المشرع، وأن الله لو أراد أن يذكر أمرا صريحا في الحجاب وحدوده وهيأته لنص بما لا يحتمل إشكالا.

وقبل أن أناقش دكتور سعد فيما قال، أحب أن أبين عوار المنهج الذي يسير عليه دكتور سعد ومن لف لفه، ويتلخص هذا المنهج في طرح كل ما قيل في المسألة من غير ترجيح، ولا نظر في مراتب الأدلة، وقوتها أو ضعفها، بل ربما نقل من مذاهب الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى عصرنا ما تركه أصحاب المذاهب جميعا، تاركًا للعامي الذي لا يحسن فهم الأدلة والترجيح بينها، ولا يفهم كليات الشريعة، ولا مقاصدها، أن يختار ما يوافق هواه، تحت دعوى أن لا يكون على الدين أوصياء!

يقول الإمام الشاطبي (الموافقات 5/97):

وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي؛ فهو قائل له: «أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق»؛ فلا يمكن -والحال هذه
أن يقول له: «في مسألتك قولان؛ فاختر لشهوتك أيهما شئت؟». فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول: ما فعلت إلا بقول عالم؛ لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس، وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية، وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره، والتوفيق بيد الله تعالى.

أما الحديث الذي يستشهد به «استفت قلبك» أو «استفت نفسك» فالحديث جاء بصيغة المفرد المخاطب، فالنبي لم يقل: أيها الناس استفتوا قلوبكم، وإنما وجه كلامه لسائله، الذي جاء يسأله عن البر والإثم، في حادثتين إحداهما كان السائل أبا ثعلبة الخشني، وهو من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله فيهم: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}. والثانية: وابصة بن معبد الأسدي الذي كان حريصا على أن يعرف طرق البر، وطرق الإثم، كما في بعض طرق الحديث: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه.

يقول دكتور القرضاوي:

وهذا إنما يكون لذوي الفطر السليمة، والقلوب المستقيمة، التي لم تفسدها الشكوك والشبهات، ولم تمرضها المطامع والشهوات، ولهذا لم يُجب النبي صلى الله عليه وسلم، أبا ثعلبة بهذا القول إلا بعد أن صَعَّد النظر فيه وصوَّبه، واستشف فيه أنه رجل أقرب إلى السلامة.

وقد كان عليه الصلاة والسلام من «المتوسِّمين»، الذين يرون بنور الله، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75].

فعرف في هذا السائل سلامة الفطرة، فقال له ما قال.

أما القلوب السقيمة أو المنحرفة، فحكمها غير مقبول؛ لأنها تتَّبع الهوى، وتتأثَّر بالأعراف الفاسدة، والشهوات المُضِلَّة، والأفكار الباطلة.

وقال أبو حامد الغزالي: «لم يرد عليه السلام كل أحد إلى فتوى القلب وإنما قال ذلك لوابصة لما كان قد عرف من حاله»ـ

والذي ينظر في طرق الحديثين: حديث وابصة، وحديث أبي ثعلبة، يجدها كلها إنما جعلت استفتاء القلب إذا أُفتي بالإباحة لا التحريم، فالحديث في جانب الورع لا الترخص.

يقول العلامة ابن القيم:

ولا يظنّ المُستفتي أنَّ مجرد فتوى الفقيه تُبيح له ما سأل عنه، إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد، أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكِّه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي سأل ثانيًا وثالثًا، حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد، فلا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها والواجب تقوى اللَّه بحسب الاستطاعة.

وفي هذا أكبر رد على من ادعى أن الإفتاء هو نوع من الوصاية الدينية، ففتوى المفتي ليست نافذة إلا بتطبيق المستفتي لها إن اطمأن لدينه وورعه وكفايته العلمية، عكس القضاء فإن حكم القاضي نافذ سواء اقتنع الخصمان بحكمه أو لم يقتنعا.

بقي أن نشير أن بيان المفتي حكم الشرع للمستفتي، ليس من وصاية المفتي على المستفتي، وإنما هي من البيان والتبليغ، فالعلماء هم وارثو علم النبوة، ووظيفة النبي هي البيان، قال النووي:

ينبغي أن لايقتصر في فتواه على قوله في المسألة خلاف أو قولان أو وجهان أو روايتان أو يرجع إلى رأي القاضي ونحو ذلك فهذا ليس بجواب ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح فإن لم يعرفه توقف حتى يظهر أو يترك الإفتاء كما كان جماعة من كبار أصحابنا يمتنعون من الإفتاء في حنث الناسي.

بل إن العلماء مثلما أوجبوا على المفتي أن يفتي من استفتاه بما قوي عنده، أوجبوا على المستفتي أن يبحث عمن يثق في علمه وديانته، فليس في الأمر كهنوت ولا وصاية دينية، يقول الإمام القرطبي:

فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها لفتواه، لقوله تعالى:{فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس.
وأختم بما قاله ابن القيم:
وخطر المفتي عظيم، فإنه موقِّع عن الله ورسوله، زاعم أن الله أمر بكذا وحرم كذا أو أوجب كذا.

على أن أعود في مقال تال لمناقشة ما طرحه دكتور سعد الدين الهلالي بخصوص مسألة حجاب المرأة المسلمة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.