بينّا في المقال السابق الخلل المنهجي في طريقة الدكتور «سعد الهلالي» في طرحه للآراء الفقهية، وكنت قد وعدت أن أرد عليه فيما أثاره حول قضية الحجاب؛ إذ إنه ترك لدى المشاهد انطباعًا بأن المطلوب من المرأة المسلمة هو الحشمة، وهو أمر متروك للذوق والعرف العام، وأن أدلة وجوب تغطية الرأس والرقبة والساق والذراعين محتملة، مدعيًا أنه سيعرض الآراء والأدلة دون أن يرجح رأيًا، وإن كان من طريقة مناقشته للأدلة يوحي للسامع من طرف خفي بأن غطاء الرأس ليس واجبًا، ليس الرأس فحسب بل الرقبة والذراعين إلى نصف العضد (النص كم) وربما الساقان أيضًا، وسأناقش ما قاله الدكتور الهلالي في النقاط التالية:

1. ضعَّف دكتور سعد الهلالي حديث أسماء بنت أبي بكر عند أبي داود: «إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه. قال أبو داود: «هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها».

قلت: الحديث قد حسّنه الشيخ شعيب رحمه الله لغيره وصححه الألباني بمتابعاته وشواهده، وقال البيهقي: مع هذا المرسل قول من مضى من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيان ما أباح الله من الزينة الظاهرة، فصار القول بذلك قويًا.

ومن أصول الحنابلة العمل بالحديث المرسل والضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وترجيحه على القياس، وهو المنهج نفسه الذي صار عليه أبو داود في سننه. فهل عدم نقل دكتور الهلالي لذلك هو نقل لبعض الحقيقة وإخفاء لبعضها، أم أن الدكتور يمارس الوصاية الدينية؟!

2. ذكر دكتور الهلالي الخلاف في عورة الحرة المسلمة أمام الرجل الأجنبي، ونقل لنا أربعة آراء في المسألة:

– رأي بعض الحنابلة ومعهم بعض متأخري الشافعية والحنفية والمالكية بأنه كل جسد المرأة، وبعضهم استثنى العينين، وبعضهم استثنى عينًا واحدة.

– رأي الجمهور، وهو جسدها كله إلا الوجه والكفين، أزيد: وبعضهم قال: الوجه دون الكفين.

– رأي أبي حنيفة جسدها كله إلا وجهها وكفيها وقدميها.

ولم ينقل لنا تعليل الحنيفة أن المرأة مبتلاة بإبداء قدميها في مشيها سواء كانت حافية أو منتعلة، إذ ربما لا تجد الخف.

– رأي أبي يوسف، جسدها كله إلا وجهها وكفيها وذراعيها.

قلتُ: يُفهم من هذه النقول أن الفقهاء أجمعوا على عدم جواز كشف كل ما سوى الوجه والكفين والذراعين والقدم، فقد أجمعوا على أن الشعر والنحر وفتحة الصدر والساق والبطن والظهر والعضد عورات لا يجوز كشفها.

وقد نقل الدكتور أيضًا رأي أبي يوسف دون أن ينقل لنا سياقه، وفي أي باب ينقله مؤلفو الحنفية، فهم ينقلونه في باب النظر إلى الأجنبيات، وينقلونه مع علته التي ذكرها أبو يوسف. قال السرخسي في المبسوط: وذكر في جامع البرامكة عن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعيها أيضًا؛ لأنها في الخبْز وغسْل الثياب تبتلى بإبداء ذراعيها. أيضًا قيل: وكذلك يباح النظر إلى ثناياها (الثنية ما جاور الناب من الأسنان)؛ أيضًا لأن ذلك يبدو منها في التحدث مع الرجال، وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى، لم يحل له النظر إلى شيء منها اهــ.

ونقله ابن مازة إلا أنه قال: عند الغسل والطبخ.

وقال المرغناني: وعن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعها أيضا؛ لأنه قد يبدو منها عادة اهـ.

فحديث أبي يوسف هنا ليس عن خروج المرأة عارية الذراعين كما أفهمنا الدكتور الهلالي، وإنما لكون المرأة في بعض الأعمال كالعجن والكنس والغسل والخبز تحتاج إلى إبداء ذراعيها، خاصة إذا اضطرت للعمل في هذه الأعمال، لتنفق على نفسها أو أيتامها أو لتعين زوجها أو ما شابه.

قال ابن عابدين: وعن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ساعدها ومرفقها للحاجة إلى إبدائهما إذا أجرت نفسها للطبخ والخبز اهـ.

وهو رأي مرجوح في المذهب والفتوى على خلافه، قال ابن نجيم: وبدنها كله عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها على المعتمد، وذراعيها على المرجوح.

3. بعد أن ذكر تلك الآراء ذكر أن هذا كلام فقهاء غير ملزم!

قلت: نعم لأهل الاجتهاد في غير المجمع عليه، وقد بيّنا أن الفقهاء أجمعوا على أن ما سوى الوجه والكفين والقدمين والذراعين عورة.

4. تطرق الدكتور الهلالي إلى الأدلة التي أراد بها أن يثبت أن الشعر ليس بعورة وأن الفرض – كما بين في كلامه – هو الحشمة التي تختلف باختلاف العرف والبيئة.

واستشهد على ذلك بحديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين، قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن، فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبت من هؤلاء اللاتي كُنَّ عندي، فلما سمعْن صوتك ابتدرن الحجاب»، فقال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم قال عمر: يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فقلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيهًا يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا قط، إلا سلك فجًّا غير فجك».

قال: إنهن كن حاسرات الرؤوس فلما سمعن استئذان عمر أسرعن للبس «الحجاب»!

قلت: كيف غاب على أستاذ الفقه المقارن أن استخدام لفظ (الحجاب) بمعنى غطاء الرأس هو استخدام عرفي معاصر وليس استخدامًا تراثيًا، وإنه ربما يتجاوز المائة سنة بقليل، وأن الحجاب في الوضع اللغوي هو الساتر الذي يفصل بين شيئين، ويحجب كل منهما عن الآخر. قال تعالى: “وبينهما حجاب”، وهو المراد في الحديث، فمعنى بادرن الحجاب؛ أي أسرعن إلى السِّتر الذي كان يوضع بين أزواج النبي وبين الداخل بعد أن نزل قول الله تعالى: {وإن سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب}.

يقول ملا على القاري: (ابتدرن الحجاب) أي بالانتقال من مكانهن وإخفاء حالهن وشأنهن خوفًا منك وهيبة لك.

5- واستشهد أيضًا بحديث عقبة بن عامر الجُهنيِّ أنه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أختٍ له نذرت أن تحج حافيةً غير مُخْتَمِرةٍ، فقال: «مُرُوها فلتَخْتمِرْ ولتَركَبْ».

قال: إن الأمرين جاءا في سياق واحد فهما إما للوجوب معًا أو للإرشاد معًا.

قلت: قال أبو حامد الغزالي في المستصفى: المختلفات قد تجمع العرب بينهما فيجوز أن يُعطف الواجب على الندب.

ومثل لذلك بقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} إباحة، وقوله بعده: { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام:141] إيجاب اهـ.

فيكون: (لتختمر) أمر للوجوب، وقوله: (ولتركب) للندب أو للإرشاد.

ولا يبعد أن يكون الأمران للوجوب، الاختمار حفظًا للدين، والركوب حفظًا للنفس، وقد جاء في حديث ابن عباس: أن أخت عقبة بن عامر، نذرت أن تحج ماشية، وأنها لا تطيق ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد بدنة».

6. تطرق الدكتور الهلالي بعد ذلك إلى أدلة القرآن التي توجب الحجاب (الخمار) على الحرة البالغة وهما آية النور وآية الأحزاب.

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ…. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}[النور:31].

حاصل كلامه أن {إلا ما ظهر منها} لم يبين القرآن حدود ما ظهر منها، وأن المفسرين أضافوا ما يبين المعنى؛ وهو إما ما ظهر منها ضرورة، أو حاجة، أو عرفًا، وكل هذه الإضافات بشرية، وأن الشرع ترك تحديد الضرورة والحاجة والعرف للمكلف وهو المرأة.

وأن {فليضربن بخمرهن على جيوبهن} قد يكون المعنى إزالة الخمار من على الرأس وتغطية الجيب به، أو إطالة الخمار حتى يغطي الجيب.

قلتُ: نقر له باختلاف الصحابة والتابعين، ومن بعدهم الفقهاء والمفسرون في معنى (ما ظهر منها)، فهذا شيء من المعلوم من العلم بالضرورة، وكل من قرأ في أي كتاب تفسير مهما صغر حجمه يعلم الخلاف في تفسير ما ظهر منها، وفي تفسير الزينة هل هي محاسن الخلق التي خلقها الله عليها، من قولهم: فلان زين، أي حسن الخلقة، أم هي الحلي والكحل والخضاب وفضل الثياب، أم هي الثياب نفسها (من قوله تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد) أم هي مواضع الزينة الظاهرة من الكحل والخاتم؟

لكن لا نقر له بما قال في قوله تعالى: {فليضربن بخمرهن على جيوبهن}، فالخمار ما غطَّى الرأس من الرجل والمرأة، فإن نزع من الرأس فليس خمارًا حينئذ، كما أن من اتسخ إزاره، فخلع رداءه وائتزر به لم يصر رداءً وصار إزارًا، ومثل ذلك العمامة – وهي ما يلفه الرجل حول رأسه – فلو خلعها من رأسه وشدها على وسطه فليست عمامة بل نطاقًا أو حزامًا.

والمتأمل في الآية يدرك أن الآية ليست بهذا الإطلاق الواسع الذي يجعل للمرأة أن تختار ما يناسبها ويتماشى مع العرف حتى لو أبدت رقبتها أو بعضها ساقيها وذراعيها وما فوق ذراعيها، فالآية تأمر المؤمنات أن يضربن بخمرهن – وهي أغطية الرؤوس – أي يجعلنها ويضعنها ممكنات لها – من ضرب الخيمة أي مكنها في الأرض – على فتحات جيوبهن، وهي فتحة القميص التي يدخل منها لابسه رأسه.

وبهذا تكون الآية قد قيَّدت إطلاق ما ظهر منها، فلا يجوز للحرة البالغة أن تظهر شيئًا من شعرها بدلالة (خُمُرهن)، ولا أعناقهن لقوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) ولا سوقهن، بقوله: في آخر الآية: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)، فزينة الأرجل المعروفة وقت النزول هو الخلخال، وهو يلبس في السوق.

بقي العضد، وهو لا يظهر من المرأة ضرورة ولا لحاجة ولا في العرف إلا في مثل العرض على الطبيب. ولاحظ أن الآية عبرت بـ(ظهر منها ) وليس (ما أُظْهِر) أي ما كانت العادة ظهوره أو الأصل فيه الظهور، أما الذراع فقد تحدثنا عنه قبل.

وهذا ما فهمته الصحابيات من الآية كما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} [النور: 31] شققن مروطهن فاختمرن بها. والمرط ملحفة يؤتزر بهَا».

وفي رواية: «أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها».

– آية الأحزاب: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.

قال: الإدناء غير محدد المقدار، فقد يكون إلى الركبتين أو إلى نصف الساق، وقد يكون الجلياب (نص كم).

قلت: القرآن يفسر بعضه بعضًا فآية الأحزاب تفهم في إطار آية النور، والدكتور هنا إما أنه مارس علينا الوصاية الدينية أو أنه حمل اللفظ القرآني على العرف اللغوي الحادث، فاستخدم الجلباب بمعنى ما نطلق عليه في العامية المصرية (الجلابية) – أو وفق الوضع اللغوي (القميص) – ونظرة في المعاجم العربية وكتب التفاسير نجد أنهم اخنلفوا في معنى الجلباب هل هو الخمار أو شيء يلبس فوق الخمار وتحت الرداء، أو الملحفة أو هو المقنعة، أو القميص!، أو شيء يلبس فوق الثياب يعم البدن كله؟، فلماذا اختار الدكتور (الجلابية) أو القميص وفق الوضع اللغوي من بين هذه التفسيرات؟، أهو الوصاية اللغوية أم أن العرف اللغوي المصري غلب الدكتور هنا أيضًا؟!

وحتى لا أكون ممن ينهى عن الشيء ويأتيه فلن أترك القارئ في حيص بيص يضرب أخماسًا في أسداس، بل أنقل له قول صاحب التحرير والتنوير ليوازن بين أسلوب أهل العلم وأسلوب المدعين. يقول صاحب التحرير:

والجلابيب: جمع جلباب وهو ثوب أصغر من الرداء وأكبر من الخمار والقناع، تضعه المرأة على رأسها فيتدلى جانباه على عذاريها وينسدل سائره على كتفها وظهرها، تلبسه عند الخروج والسفر.

وهيئات لبس الجلابيب مختلفة باختلاف أحوال النساء تبينها العادات، والمقصود هو ما دل عليه قوله تعالى: ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين.

والإدناء: التقريب، وهو كناية عن اللبس والوضع؛ أي يضعن عليهن جلابيبهن اهـ.

ويحسن هنا أن نعرف سبب النزول لنحسن فهم الآية وفق ما وضعه العلماء من منهج للتعامل مع نصوص القرآن. يقول صاحب التحرير والتنوير: كان لبس الجلباب من شعار الحرائر، فكانت الإماء لا يلبسن الجلابيب، وكانت الحرائر يلبسن الجلابيب عند الخروج إلى الزيارات ونحوها فكن لا يلبسنها في الليل وعند الخروج إلى المناصع، وما كن يخرجن إليها إلا ليلا فأمرن بلبس الجلابيب في كل خروج.

ليعرف أنهن حرائر فلا يتعرض إليهن شباب الدعار يحسبهن إماء أو يتعرض إليهن المنافقون استخفافًا بهن بالأقوال التي تخجلهن فيتأذين من ذلك وربما يسببن الذين يؤذونهن فيحصل أذى من الجانبين، فهذا من سد الذريعة.

والإشارة بذلك إلى الإدناء المفهوم من يدنين؛ أي ذلك اللباس أقرب إلى أن يعرف أنهن حرائر بشعار الحرائر فيتجنب الرجال إيذاءهن فيسلموا وتسلمن.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.