أزعم أن رواية «مزرعة الحيوان» للكاتب والروائي البريطاني الشهير «جورج أورويل» أكثر الأعمال الأدبية التي تُقرأ خارج إطارها وبعيدًا عن هدفها، أو بتجاهلهِ. أشبه بتجاهل متعمَّد!

أو كأنَّ العين تقرأ لتقرأ، كأن القراءة تأدية واجب، لا عملية تراكم، وليس الهدف منها النمو، بل البقاء حيث ذات المكان.

في «مزرعة الحيوان» تبدو كل الرموز واضحة، وكل الإسقاطات جلية، بل عايشناها منذ زمن قريب، وهي تتكرر على الدوام: لذاك لن يخفت ضوء هذا العمل أبدًا.

هي تتحدث عن فعل «ركوب الموجة»، «الصعود على الغضب» واستغلاله لتشريعِ هذا الصعود، وإضفاء صبغة الشرعية على هذا المنتهز المستغل الذي تحوَّل لشرير، لكنه شرير أفرزته الثورة!

في قراءتي الأولى لها كنتُ أقرأ وتعلوني ابتسامة مشمئزة، ابتسامة تقول: «نعم أعرف هؤلاء الخنازير»، أعرف كذلك «الخنزير» الأول (العجوز ميجر) الثوري الصالح إلا أن من خَلَفه من «الخنازير» لم يكونوا صالحين أبدًا.

أستذكر هنا شعر «عبد الله البردوني» الذي لا يفارق هذه الحالة، بل يصلح كتصديرٍ لهذه الرواية:

والأباةُ الذين بالأمس ثاروا
أيقظوا حولنا الذئابَ وناموا
حين قلنا قاموا بثورة شعب
قعدوا قبل أن يُتموا القيام
ربما أحسنوا البدايات لكن…
هل يُحسون كيف ساء الختام؟

ثم، نعم أعرف هذا «الحمار» الذي عاش سابقًا ورأى أن الماضي يتكرر ففضَّل السكوت على الاندفاع، ونسيَ معنى العنفوان، لقد جرفتهُ الانكسارات بعيدًا بعيدًا. ونعم أعرف هذا «الحصان» المناضل الوفي، الذي بموته يخفتُ ضوء القضية، وتضيع الوجهة قليلًا، ثم ما تلبث الجموع أن تنخدع وتنقاد لحفنة «الخنازير» برضاها التام، رضاها المخيف، رضاها الذي خلَّف وراءها جثة «الحصان».

نعم أعرفُ هذا «الحصان»، أعرفُ بشرًا كانوا أحصنة، ماتوا حزنًا على هذا الضياع.

أعرف هذا «الحمار» الذي فضَّل العزلة على الانخراط في حلمٍ كان يعرف نتيجته، لأنه حَلِم سابقًا، حَلِم قبلنا وخُذل، تُرك في منتصف الطريق، أو قبل منتصفه. كان يعرف من سيستولي على هذا الحماس، وهذا الخروج، وهذا العنفوان، أعرفه، إنَّ له نسخةً، ونسخًا بشرية تسكن بيننا، بل صارت تسكن فينا نحن الذين لم يحالفنا الحظ لتكون لنا نهاية تضع حدًّا لهذا الواقع كما كانت للحصان «بوكسر».

وأعرف «أحصنة» وَعَت هذا الاستغلال، ولا زالت تعيش، وترى هذه «الخنازير» تتكاثر وتتكاثر، لا ترغب بالتوقف.

من الظلم قول أنْ لا أحد يرغب في إيقافها، أو لا وجود لأحدٍ مدرك لما تفعل، خاصةً أنها كانت تفعلُ ما تفعل في السرِّ، أمَّا الآن ومعظم الساحة ملكها لا شيء يدعوها لمداراة «الأحصنة» المتبقية، ولا «الحمير» ولا «القطيع». بمعنى لا شيء يجبرها على افتعال دور المُراعي الصالح، لا شيء يدعوها للمجاملة والتمثيل، كل شيء صار واضحًا. لكننا نفتقد «الخنزير» الأول… نفتقده بشدة.

لماذا لا يصح قراءة «مزرعة الحيوان» بعين مغلقة؟

هذه الرواية لا تقبل القراءة السطحية، لأن فعل القراءة بسذاجة يتنافى مع نفسهِ فيها، إنني أتساءل عن قدرة الكاتب على خلق هذه الرمزية الواضحة جدًّا! إنه لجهد رائع… المزج بحرفية بين الغموض والوضوح. ربما كان هذا أحد أسرار فن الرواية، أو أحد أسرار «جورج أورويل» ذاته.

في كتاب «الروائي الساذج والحساس» لـ «أورهان باموك» يقول:

إن القراء –كما الكُتَّاب- ينقسمون لنوعين: ساذجون وحساسون. بحثت عمَّن يغفل «محور» هذه الرواية وموضوعها الذي لم يبقَ إلا أن يتكلم ليخبر عن نفسه من شدة الوضوح، بحثت عنهم بين هذين النوعين، لم أجدهم، لا ساذجين ولا حساسين، هل هم حالة ثالثة؟ أم رابعة؟ لست أدري، وأزعم أنهم كذلك لا يدرون.

يحدد باموك كذلك عددًا من العمليات التي يقوم بها عقلنا عندما نقرأ الرواية، منها أن عقولنا تبحث بشكل مستمر عن الدافع والفكرة والمحور السري خلف هذا العمل (الرواية)، وأن القراء يُكملون القصة من خلال البحث عما يريد الراوي قوله، وما الذي ينوي أن يقوله. وأننا –معشر القراء- نكون في حالة تساؤل دائم أثناء القراءة.

وأنا هنا أتساءل: منْ يغفل جوهر رواية «مزرعة الحيوان»، لماذا يقرأها؟

يقول باموك أيضًا عن فعل القراءة:

قراءة الرواية هي فعل تحديد المحور الحقيقي والموضوع الحقيقي، وفي غضون ذلك استخراج المتعة من التفاصيل السطحية. اكتشاف المحور -أو الموضوع الحقيقي للرواية- يبدو أكثر أهمية من كل تلك التفاصيل.

وحتى حين يكون محور الرواية غامضًا بعض الشيء، فإن القارئ المهتم والمُقدِّر لقيمة الكتاب الذي يقرأه يبذل جهدًا كبيرًا لاصطياد المحور، ويبحث عن جوهر أو موضوع الرواية في كل سطر، فلماذا ومحور «مزرعة الحيوان» جلي الوضوح تُقرأ بسطحية هكذا؟

لا أريد لأحد أن يفهم أن في طرحي هذا تعاليًا، أو ادعاءً أنني أتحدث نيابة عن كاتب الرواية! لم أقصد ذلك، ما قصدته هو: أن القراءة فعل قيم، فعل يُمارس لنخرج منه بنتيجة، لا ليُقال إننا مارسناه.

القراءة مهما أخرجتنا من بؤس واقعنا، تبقى صورةً من صوره.

إن عدم حدوث المشهد الممتد في «مزرعة الحيوان» في إحدى البيئات، لا ينفي أنه وقع وبكثرة في المحيط القريب، لا ينفي أنها حالة تستحق الدراسة، كيف لشخص خرج رافضًا للظلم أن يصبح ظالمًا بشدة؟ كيف تجاوز صوته صوتنا واعتلى علينا؟ كيف صارت الأربعة اثنين؟! وكيف استحقت بعض الحيوانات مساواة أكثر من غيرها؟!

فلنعي أن القراءة ليست ظاهرة، بل عملية تثقيف صالحة، لا بد لها أن تكون صالحة، وجيدة، والأهم مثمرة، حتى لا نكون «نابليون» في هذه الحياة. ولا نسمح لمن حولنا بأن يكونوا نسخة بشرية منه.

ستبقى دموع «كلوفر» رفيقة الحصان «بوكسر» خير تعبير عن قوة الشر، وانقلاب الحلم، حين عبَّرت عن ملايين ثوار هذه الأرض وعيناها تفيضان دمعًا:

ولكننا ليس هذا ما كنَّا نتطلع إليه حين فكرنا في الانقلاب على الجنس البشري. فهذه المشاهد المرعبة وهذه المذابح، ليست هي ما كنَّا نتمناه ليلة أشعل فينا العجوز «ميجر» جذور الثورة.

سيبقى الوعي سلاحنا الوحيد لمنع تكرار هذه الدموع، ستبقى «مزرعة الحيوان» تشعل فينا التمييز بين الثائر الحقيقي والثائر المتسلق، لأنها لأجل ذلك كُتبت، ولم تُكتب لتوضع على رف المكتبة، أو لأخذ صورة لها، أو ليتبجح أحد نسخ «نابوليون» وبِطانته بقراءتها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.