القسم الثاني: «القلب الفارغ»

(7)

سأرى عمتي مرة أخرى.

قال «مصطفى» وهو ينظر من نافذة القطار.

هذه المرة، ستكون مختلفة. لن يجلس مع عمته في الشرفة الواسعة المطلة على الشارع الجانبي، ويشم الرائحة البعيدة للبحر، لن تُحدِّثه عن أن يكف عن تضييع حياته، ويكون ذكيًا وناجحًا مثل أخيه. هذه المرة لن يكون هناك مجال لكل هذا، ولن تتمكن من الشكوى من صمت «نفيسة» وعصبيتها بعد الطلاق.

كانت أحيانًا، تُحدِّثه في التلفون قائلة بلهجة ودودة آمرة: «تعالَ يا ولد عاوزة أدردش معك». لا يستطيع أن يُخالِف هذا الأمر المتعجرف، لا يقدر على أن يخذلها. كان يحبها ويُعجب بقدرتها على فهم الأخطاء والتسامح معها. لكنها عندما تتحدث عن طلاق «نفيسة» تصبح ملامحها رقيقة وصوتها خافتًا؛ تتصنّع الخفوت والهمس بحجة أن «نفيسة» قد تسمعها، لكنه يدرك أنها لا تقدر على الحديث، في هذا الموضوع، بصوت مرتفع، حتى ولو كانت تحدث نفسها.

تقول وهي تعتدل على الكرسي الخيزران: «خطئي، المرة الوحيدة التي فقدت عقلي»، فكان يعرف أنها غير قادرة على أن تُسامِح نفسها، ويتعرّف على الجانب القاسي في تكوين أبيه.

هذه المرة لن تكون قادرة على المزاح. كان غريبًا أن يراها مريضة في فراشها، لكن الأغرب أنه لم يشعر بالحزن. وبدا له أن ما يحدث في ذهنه، صورة مُسطحة لا تحمل ما يُفترَض من المشاعر. ربما تحوّلت مشاعره إلى أفكار وصور، وغدا لا يستطيع الانفعال بشيء. من المريح أن يعيش الإنسان بهذا الذهن السطحي الخالي من الانفعال، لكنه أمر مؤلم؛ فالمرء يحن أحيانًا إلى الأحزان كما يحن السجين إلى الشوارع.

كان شقاؤه واضحًا هذه المرة. لا مجال للخلاص منه، إذا كانت مشاعره قد كفت عن الوجود، وأنه يتحرك فقط، بحكم الواجب والعادة، فمعنى ذلك أنه فَقَد اتصاله بالعالم. هل تلك السنوات التي قضاها يصطاد على البحر هي التي أدت إلى هذا الانفصال، هل عدم رغبته في مشاركة من حوله طريقتهم في الحياة، هي التي تركته بلا مشاعر؟

انقلبت أسئلته لتسخر منه: هل أنا حقًا خالٍ من المشاعر، خالٍ من الرغبة في الحب والجنس والحياة، خالٍ من الغضب والكراهية، إذن لماذا حكمني موت أبي، ولماذا ألهث وراء «منار» كالكلب الذي لا مأوى له؟

من نافذة القطار، رأى الليل يغطي مساحات لا تنهى من الحقول والبيوت الطينية والمدن الريفية الغارقة في كابوسية عوالمها. هذا الاتساع الكئيب هو ما يُطلقون عليه الوطن. قال لنفسه إن كل الأفكار تقودني إلى نفس الفكرة. وفكّر أن الرعب نوع من المشاعر، لكنه بلمحة خاطفة إلى محتوى رعبه الخاص، وجده مجرد فكرة، صفحة بيضاء مكتوب عليها ثلاثة حروف بقلم رصاص باهت. «لا فائدة من التفكير في عمتي ومحمد»، قال لنفسه بصوت مسموع.

لم تكف فكرته عن جفاف روحه وخلوها من المشاعر، عن مطاردته، فعندما فكر: «إلى جانب أيهما سينحاز»، اكتشف أنه لا يميل لشيء. بحكم ارتباط غامض لن يتخلى من مساندة عمته، ومن جانب آخر، بدا أن مليون جنيه أمر ليس بالهين، فعلى الأقل سوف تسمح له النقود بالحرية، والسفر، سوف يتخلص من الكآبة، ستسمح له تلك الثروة أن يُغيِّر أجواء حياته.

لو كان الإنسان لا يملك أي رغبة في الحياة، فإن هذا المبلغ يمكن أن يُنتِج هذه الرغبة. النقود عصير الحرية، تنفك إلى حيوات مُغايرة. لكنه أدرك أنه لن يجني شيئًا مختلفًا عن روحه، وتردد في ذهنه سطر من قصيدة للشاعر يوناني، «قنسطنطين كفافيس»:

وما من سبيل
ما دمت قد خربت حياتك هنا
في هذا الركن الصغير
فهي خراب أينما كنت في الوجود.

في المحطة، أعطت الأضواء البرتقالية للميدان الواسع، بمحطة ترامه ومقاهيه ومحلاته القليلة، إحساسًا بالهجر، رغم أن الساعة لم تكن قد جاوزت العاشرة. لم يجد في نفسه أي فرح كأنه هبط في مدينة مختلفة. استقل سيارة أجرة إلى البيت.

عندما سمعت «نفيسة» صوت البوابة الحديد أطلت من الشرفة، ثم أشعلت ضوء السلم فبانى واسعًا مضيئًا. كانت ترتدي ثوبًا منزليًا وفوقه روب أبيض. نظرت في وجهه «مصطفى» وقالت:

– ألا تأكل؟ وشك غريب.

هدوء كثيف، كدفء الصوف، ينتشر في الشقة الواسعة ذات الجدران العالية والأبواب الضخمة. قادته نفيسة إلى غرفة عمته، التي كانت راقدة على الفراش الواسع ووجهها الشاحب تحوّل إلى عظام بارزة. قالت عندما فتحت عينيها:

– تأخرت هذه المرة أيضًا.

قالت بصوت متقطع:

– طول عمرك ولد «بطّال»، ما من مرة أبعث لك فيها، إلا وتأتيني بعد يومين.

قضى الليل ساهرًا بجوار فراشها، يقرأ صحفًا قديمة، وعندما تستيقظ عمته تنظر إليه، مندهشة من وجوده، وتسأله عن الوقت الذي جاء فيه. وفي مرة استيقظت مُخضبة بالعرق وقالت:

– انضممت إلى حزب الشيطان، وأنا بعثت إليك من أجل إعانتي.

حاول أن يقول، إنه لن يوافق على بيع البيت ما دامت غير راغبة، فقالت بعنف وهي تُحدِّق في وجهه:

– اسكت يا ولد ولا تقل كلامًا فارغًا، أنت فسدت مثلهم.

وبعد إغفاءة سألته:

– لا تتعبني بحديث لا لزوم له، لا تهد فرحتي بوجودك معي يومين.

وسألته بوجه باسم:

– كم ستبقى معنا؟

في الفجر استيقظت تمامًا، وجلست في فراشها، جاءت نفيسة من غرفتها حيث ظلت ساهرة تعمل في أبحاثها.

قالت العمة:

– انتظروا. سوف أموت قريبًا وتصرفوا كما ترغبون. أتعرف؟ نفيسة لا تُكملني حتى لا أعرف موقفها، لكنني أعرف ما تريده، إنها تريد بيع البيت قبلكم جميعًا. انتظروا لن أتأخر عليكم.

نظرت في وجهه بحدة، وقالت:

– بلّغ أخاك ألّا يأتي بهم ليتفرجوا على البيت وأنا فيه، هذه إهانة لعمته، إنهم يعاينون جثتي.

بعد قليل نامت وهدأ كل شيء بالبيت. كانت غرفة نفيسة مظلمة ومغلقة الباب.

وقف في الشرفة. الصبح يُولد في الشوارع، الأشجار الكثيفة على الناصية، أوراقها ناصعة الخضرة، رائحة البحر بعيدة متلاشية في الفضاء، لكنها حيّة وموجودة في تكوين الضوء كأنها جزء منه.

تمشّي في الشوارع، واشترى الجرائد من رجل عجوز يُدير كشكًا على محطة الترام، وفى طريق العودة اشترى الفول والخبز بحكم عادة قديمة. عندما فتح باب الشقة، رأى «نفيسة» في الشرفة، وسحبًا داكنة تعبر السماء. ربما تُمطر اليوم، من زمان، لم ير المطر في مدينته.

قالت نفيسة وهي تعد الفول في المطبخ:

– لماذا نزلت؟

– قلت أشم الهواء، وأحببت أن أشتري الجرائد.

– هل عدت تهتم بالسياسة؟

ابتسم قائلًا:

– مضى ذلك العهد، من زمان.

– لم تتركني عمتك أحمل الكتب إيّاها، وأضعها في بلكونة المطبخ، بقيت على حالها تحت سريرها.

ابتسمت نفيسة وهي تنظر إلى وجهه:

– نسيت تلك الكتب؟

كان «مصطفى» قد نسى فعلًا، وبدا فرحًا أن هذه الكتب ما زالت موجودة، من الممكن أن يختبئ شيئًا من روح الأيام القديمة ويظل هناك ينتظر البعث.

قال مبتسمًا:

– صحيح؟ ما زالت تحتفظ بهم.

– في مكانهم منذ خمس عشرة سنة.

حملت الأطباق إلى المائدة الواسعة في الصالة، وأعادت إغلاق زجاج الشرفة الذي فتحته هبات الريح، وقالت:

– ذات يوم شممت رائحة تراب، كنت خائفة أن تُصاب بقرحة فراش، رغبت في تنظيف الغرفة، لكن عمتك لم تسمح لي أن أحمل كرتونة الكتب بعيدًا، وأمرتني أن أضع فيها حبات نفتالين.

عاد زجاج الشرفة ينفتح، كلما هبّ الهواء، قامت نفيسة، وعالجت الأُكرة القديمة بعصبية وهي تدفع الباب بقوة. بدأت الشمس تطلع؛ ضوؤها ناعم، لكن حبال الغسيل، ظلت تتأرجح مع الهواء، وجاءت عصافير وحطت على حديد الشرفة وسمع الزقزقة عالية، كأنها عراك. تركت نفيسة كوب الشاي، ودخلت لتغير ملابسها، حتى تلحق بعملها في المستشفى. كانت الساعة تقترب من الثامنة والنصف، والضوء يزداد حدة، وخُيِّل إليه أن السحب فارقت السماء، وراح يشم عطرًا خفيفًا شفافًا ينتشر في فضاء الغرفة رغم الباب المغلق.

عندما خرجت، قال، كأنما فاجأه جمالها:

– أنت جميلة جدًا.

قالت دون أن تنظر إليه:

– الجمال الآن غير مهم.

– ما المهم؟

– أنت تعرف.

– المال؟

لم ترد، وراحت تأخذ رشفات سريعة من الشاي وهي تقول:

– لا شيء مهمًا.

– ظننت أنكِ توافقين محمد.

قالت نفسية:

– أتمنى أن توافق أمي، لكنى لا أستطيع أن أتحمّل حزنها، قلت لها ذات يوم سوف نأخذ شقة تمليك واسعة على البحر، وسيبقى معنا فلوس كثيرة، نعيش مستريحين، لكنها نظرت إليّ ولم تقل كلمة واحدة. لم أعد للحديث في هذا الموضوع، لو فتحت فمي بكلمة واحدة ستشعر بالإهانة، وبأنني ضدها. لا أستطيع. كلّمها أنت. هي تسمع كلامك.

– أكلمها؟ أنت تعرفين أنه لو باع البيت فستموت، مرضها سببه الرغبة في بيع البيت، تعرف أنكم لا تريدونها، هي العقبة الوحيدة في طريقكم، إنها تتعجّل موتها.

كانت نفيسة قد فتحت باب الشقة عندما قال:

– أريد أن أرى كرتونة الكتب.

قالت، بعد أن هبطت عدة درجات:

– تحت السرير.

خطرت في باله كلماتها: «لا شيء مهمًا»، كأنها كلماته، منطوقة من فم «نفيسة»، مغموسة في عوالم أخرى، نوع الرنين، والنبرة الجادة التي نطقت بها الكلمات، حملت معاني مغايرة.

منذ عدة سنوات لم تكن نفيسة بهذا الشكل، كانت تتحرك بخفة، تلمع عيونها العسلية ببريق حاد، الآن اكتست ملامحها بجدية صلبة، تظهر في انضمام شفتيها وتحديقها الثابت المستغرق.

هل بسبب زواجها من مهندس بخيل كان يُعذِّبها، لن تعود نفيسة أبدًا إلى نفسها؟ لن تعود الفتاة المرحة التي حفظت دروس الطب دون أن تُصيبها كآبة منْ يتعاملون مع الكتب لفترات طويلة.