القسم الأول: «ما وراء المرايا»

(3)

أختبئ من أصوات تتحرك في جنبات المكان، من أفكار تتردد بأصوات لا أعرفها، كأنما بلغات ميتة. صوت «حسين» حيًا يستعيد حيويته أثناء شرودي، يروي بالكامل أحداث يوم موته. صوت المصعد يطل من أعماق مجهولة. لم أعد قادرًا على مفارقة الصور التي تستبد بعقلي.

لم يكن القتل قد حدث نتيجة لتفكير مدبر. لكنه تم فجأة، كفكرة مُلحة هبطت وتلبّستك، لن تفارقك إلا عندما تتحقق. لا أزعم أنني كنت عارفًا بهذا كله. كنت مُسيَّرا. كل شيء يعبر خيالي كطيور تفر مني وتحترق، إلا هذه الصور التي ظلّت تتفحص نفسها في عقلي. لم أعرف كيف تم ذلك على وجه الدقة، لكني أذكر دخوله المقهى، وقد حلق شعره بالموس وبدا وكأنه آتٍ من سجن في أحد المعسكرات.

الانتقال من شعر طويل يصل الرقبة، إلى حلاقة الشعر بالموس، يوقع المرء في حيرة. تخطّى «حسين» باب المقهى. تعرّفت على ملامح وجهه وهو يقترب من منضدتي. جر كرسيًا وجلس مواجهًا النافذة، مُطلًا على الشارع. لا يجب أن يغيب نهر الحياة المتدفق عن نظره! فكّرت في طابعه المسرحي. لم يشر إلى حلاقة شعره، ولا إلى اختفاء الكوفية. بحث عنّي طوال الأسبوع الماضي، وظن أنني في الإسكندرية وأعدّ نفسه كي يزورني. لاحت على وجهه ابتسامة. حسب حديثه العابر لم يكن هناك شيء مهم، يرغب في مجرد دردشة. لم أصدقه، فقد كان جادًا وبعينيه بريق أسود يزيدهما اتساعًا. نحول وجهه ورأسه الخالية من الشعر، أكدا هذا الانطباع.

عرفت أنه يريد أن يحدثني عن مكالمة «منار».

اقترح أن نغادر المقهى. قطعنا عدة شوارع جانبية وهو يتحدث عن اهتمامه هذه الأيام بمشكلة «الشر». بدا جادًا، لا أثر للمرح الذي أحاط به في الأيام الأولى لعودته من أوروبا. روحه الأصيلة في حالة حضور. غامت الشمس في الشوارع، واشتد الهواء، وراح يلسع وجوهنا. السماء البعيدة سحبها قاتمة اللون.

في سنوات دراستنا، أيام كان زعيمًا طلابيًا كنت آخذ تأملاته الفكرية على محمل هيّن، أعرف أن وراءها أحداثًا صغيرة. في ذلك اليوم لم يحاول أن يحيط الأحداث الصغيرة بهالات من الأفكار. كان جادًا ومرهقًا، وراح يتكلم عن الخيانة باعتبارها نمطًا من السلوك المُخرِّب، شهوة كالأكل والشرب، لا يجب أن يصدق المرء كل ما يدعونه في الكتب، حول تقسيم الرغبات البشرية الأساسية، الخيانة إحدى هذه الشهوات، سبيل للهرب من جفاف الوجود، السبيل الوحيد الذي يجعل الوجود ممكنًا، إنها تنوع في المسارات التي تفرضها علينا تطور الحياة المدنية، أصلها الرغبة القديمة في الحياة المنطلقة في الغابات، الحرية المفقودة التي تسلّلت إلى جيناتنا الوراثية، تتحول إلى حنين، ثم تتحول إلى جنون إذا لم تجد متنفسًا حتى لو كان وهميًا.

هل قابلت شخصًا واحدًا لا يحن إلى الخيانة، على الأقل لا يحن إلى خيانة كل ما تعلمه وكل ما عرفه والوصول إلى حالة من الانطلاق غير المحدود؟ كيف تفسر هذا الهوس الحسي الذي يجذب الناس هذه الأيام، الهوس بالغناء والرقص والجنس والمخدرات، أليس هو نفس الرغبة في مفارقة الحياة والوصول إلى أفق آخر؟ الغريب أن الناس قد لا تصدق هذه الأفكار وتعتبرها هامشية، لكن تأمل ما يحدث في الاقتصاد، ألا يقول لنا الاقتصاديون إن أساس كل آلة الاقتصاد العملاقة هو الربح؟ يقولون هذا دون خجل، من أن أمرًا تافهًا كالربح، هو السبب في كوارث البشر وحروبهم وموت الأطفال من الجوع، ولماذا ترغب فئة من البشر في الربح؟ قل لي بصراحة ولا تتحدث مثلهم: إنه يعني تطوير سبل الحياة. ولماذا يطورون سبل الحياة؟ من أجل مزيد من الربح؟
أيام مرض أبي حملته إلى طبيب مشهور من أطباء المخ، قرر أن العملية الجراحية سوف تتكلف عشرة آلاف جنيه، في تلك الليلة دخلت ابنة الطبيب العيادة، كانت فتاة في العشرين من عمرها، لها جسد مغسول ومُضمَخ بالعطور وبالشهوة، وعرفت أن القراريط التي آلت إلى أبي من جدوده، والتي استند عليها طول حياته، وارتبط بها كما يرتبط المرء بأمه، تحلّلت إلى ورق بنكنوت من أجل عطور لهذه الفتاة وثياب تأتي من لندن. تحلّلت حياة كاملة: مواعيد حصاد وفرح وعمل، وتحولت إلى بنكنوت من أجل أن تسافر هذه البنت إلى «مجاويش» لكي تصطاد أكبر سمكة في المسابقة القومية للصيد، أليس هذا جنونًا؟ ألا يخجل الاقتصاديون من أن يقولوا بقناعة نهائية: الربح. إنهم لا يريدون أن يمضوا خطوة أخرى. ما معنى أن يكون الربح هو المُحرِّك الأساسي للحياة البشرية؟

تذكرت أنه في إحدى المرات، أحرق كل الأعداد التي وصلته من جريدة حزب شيوعي سري، كان أحد كوادره في ذلك الزمن القديم. أحرقها بسعادة وجاءني فرحًا، حدّثني عن القدر المتساوي من الفرح والحزن، والروح الغامضة التي تدفعه إلى الرقص فوق الخرائب، قبس من روح آلهة الخراب القديمة. كان ميالًا لتلك التفسيرات، مُغرمًا بأفكاره عن نفسه. لا يستطيع المرء أن يعرف هل يرددها باعتبارها مُزحًا أم حقائق. كان يقول عن نفسه إنه شخص لا يمكن أن تحدّه الحدود البسيطة للجسد. كان على حد زعمه، يحمل في دمه كل مراحل التاريخ، كلنا نحمل تلك المراحل، كما تحمل أجسادنا التطورات البيولوجية التي حدثت للمملكة الحيوانية، لكنها في حالة كمون.

«الذرات التي تُشكِّل ذلك التاريخ في دمي، ذرات نشطة»، قال يومها وهو يحدق في وجهي: «أليست روح مُخرِّب؟» برقت عيناه بريقًا نافذًا كأشعة ليزر، كأنه لمس آخر أسرار الحياة، ورأى آخر حد يفصله عن حياة أخرى. كان مغمورًا طوال الوقت بهذه النزعات الغريبة. روح مرهقة ولم يكن شخصًا مسرحيًا بالكامل كما ظننت.

انتقلنا إلى مقهى آخر، مفروش بسجاجيد لونها مثل لون النبيذ. كنت أعرف أنه يريد أن يتحدث عن مكالمة التليفون.

قال: «كان لا بد أن أراك قبل سفري».

ثم قال محاولًا أن يجعل نبرته صادقة قدر الإمكان: «لم أكن أعرف أنه أنت. أنت تصدقني. لم أكن أعرف أنه أنت منْ كانت تتحدث معه منار».

استفزتني طريقته المباشرة في الحديث: «وماذا بعد أن عرفت أنه أنا؟».

«لا شيء… كنت أريد أن أخبرك بأنني لم أكن أعرف».

«وما الفرق؟»

«لا أعرف الفرق، ولكنه يكمن في أنني أعرفك، تحوّل الأمر إلى شيء كريه حتى أنني ضربتها لو كان شخصًا غريبًا. لو كنت أعرف أنه أنت، لتحوّل الأمر إلى نكتة، وكنت استمتعت».

بدا كأنه ينتظر أن أتحدث، ولما بقيت صامتًا، قال بصوت عالٍ: «طول عمرك يأخذ وجهك نفس هذا الالتواء والتعالي المقرف، وتظن أنك بهذا تنتصر، اصحى، ألا تشعر بالإهانة من امرأة تُسمِعك أصواتًا تَمتعها مع رجل آخر؟»

«لا أشعر بالإهانة».

بدا حائرًا وهو ينظر إلى وجهي.

قلت: «غضبت قليلًا، وكرهت نفسي، وفي الأيام التالية لم أشعر بغير الإرهاق، أمر تعس أن تكون حيًا».

«ولماذا لا تنهي حياتك؟».

«لا أدري».

كانت فكرة القتل، في تلك اللحظة، في أخفت صورها. فكرة هشة، تجلت في أن الاقتراب من الموت أمر هين، وفي نفس الوقت بدا لي أن بيتنا بنوافذه القديمة عزيز كصديق، أليس ما يربطنا بالحياة أمور صغيرة، مثل صور النوافذ والمشاعر العائلية وأيام الشتاء والأحاديث الخافتة في ليالي الصيف؟ أليس ما يربطنا بالحياة محض لحظات هشة، تُشكِّل ماء وجداننا الخبيء، تُشكِّل روحنا السرية التي لا يمكن الوصول إليها؟

قال حسين: «منار تحبك».

«فعلًا!».

«هناك نوع من الحب يهدف إلى الإيذاء».

«أتعرف؟ ما يسيطر على هذه الأيام هو الإرهاق. تعبت».

لاحظت ارتعاشًا في أصابعه راح يداريه بسرعة كأنه عارٍ، وبدا ظل جديد من الخوف يطوف على وجهه.

قلت: «هل أنت خائف؟».

«كنت أضربها بجنون. وصل الأمر إلى الشرطة وتوسط بيننا بعض الأصدقاء وتنازلَت عن المحضر».

في الطريق إلى شقة أحد أصدقائه في وسط البلد، قلت: «لا ألومك. هي التي تكلمت وهي التي كانت تعرف أنني على الطرف الآخر».

لم يصدقني، وفي تلك الأثناء لم تكن رغبتي في القتل موجهة ضده، كنت أرى منار مقطوعة الرأس، جسدها مفرود على منضدة تتوسط غرفة واسعة تُمارِس فيها الرسم. يدخل الضوء من نافذة زجاجية تحتل مساحة واسعة من الحائط، يفرش المكان هدوء صباحي خالٍ من الحياة، ويأتي خافتًا صوت مقطوعة الكمان التي تحبها من جهاز تسجيل في غرفة النوم البعيدة، فيعطى صفاءً إضافيًا للضوء، وثباتًا في المشهد، كأن الصباح تحوّل إلى أبدٍ. تستقر في خيالي هذه الصورة التي تشبه لوحة مرسومة، أدرك أن تلك الرغبة في القتل ما هي إلا عنصر حلميّ، صورة شعرية لم أكن قادرًا على إنتاجها.

عندما وصلنا إلى الشقة، دخل حسين ليستريح قليلًا وتركني في غرفة واسعة ذات شرفة، أقلب في كتب التصوير التي تمتلئ بها أرفف مكتبة صغيرة وأنيقة. استغرقت في تأمل شخصيات «مايكل أنجلو» الغاصة بالمعاناة، والصمت الذي يشع من الألوان المتوهجة في صور فان جوخ. المرء يخسر كثيرًا إذا كان لا يستطيع الرسم أو عزف الموسيقى، المرء يخسر كثيرًا إذا كان بلا عمل، قلت في نفسي عندما رأيت حسين آتيًا من نومه مثل شخص أرهقته الأحلام.

طول وجودي وحدي لم أفكر في القتل. كانت الفكرة بعيدة ولم أرغب في قياس مدى تجسدها، خفت أن يكون هذا النهار الغريب قد دفعها إلى التلاشي، وخفت أن تهتز حياتي تحت تلاشيها، فقد كانت حتى هذه اللحظة هي سندي في مواجهة الحياة.

يحاول المرء نسيان أفكاره الحبيبة حتى لا يبتذلها، يتركها في الداخل، تشرب من الينابيع السرية وتتغذى على لحم الأفكار السوداء العميقة. كانت تلك حججي التي تمنعني من الذهاب بخواطري تجاه فكرة القتل مع أنني كلما أشعر بتلاشيها أقول لنفسي، سيكون هناك وقت لتأملها. سيأتي هذا الوقت.

شرب حسين فنجان القهوة، ثم جاء وجلس في ظلام الشرفة ومد قدميه على السياج: 

«كيف عرفت أنني خائف؟».

«من رعشة أصابعك».

«وممّا تتصور خوفي؟».

«لا أعرف».

كذبت عليه. لقد خمّنت أنه ربما كان خائفًا من تلك الحيوات التي خرّبها، ربما كان ينظر خلفه فيجد كمًا هائلًا من نثار الحياة التي دخل فيها وتركها أشلاء.

«الخوف شيء لا يمكن تأمله أو معرفته. هو هلام، لا شيء محدد، أثير يحيط بك من لحظة اليقظة حتى لحظة النوم، وأحيانًا يتسلل إليك في النوم بل إن منابعه الأصلية في النوم».

أصر على أن أصحبه إلى حفل صغير أقامه أصدقاؤه بمناسبة عودته من الخارج. طمأنني بأن «منار» لن تكون موجودة. ركبنا سيارة أجرة من الميدان. الجو شديد البرودة وخُيّل إليّ أنها أمطرت. فكّرت أن اليوم هو الأحد، عندما لاحظت أن الشوارع خالية والمحلات على الناصية أمام مدخل الكوبري العلوي مغلقة، وبقيت أضواء المقهى ومحل الكشري لتعطي الميدان حسًا خافتًا بالحياة.

دارت السيارة في عدة شوارع ذات شجر كثيف ثم سارت بنا بجوار النيل. كان ينظر عبر زجاج النافذة، بدت لي، فجأة، أحاديثه مبالغًا فيها، وأحزانه فجّة مثل طريقته في السير والحديث والاستعراض. ركزت انتباهي على الطريق، حتى وصلنا إلى شقة في الدور الأرضي في أحد الشوارع الهادئة. عندما نزل من السيارة حدق في البيوت ذات الطوابق القليلة والشوارع ذات الشجر الكثيف وقال: «ما زالت القاهرة لها طعم قديم».

رأيت أصدقاء لم أرهم منذ سنوات طويلة، بعضهم كان معنا في السجن عام 1977، والباقي مجموعة من الشباب والبنات يُدخِّنون سجائر البانجو ويرقصون. راح يشرب كميات كبيرة من الخمر وعندما تابعته قليلًا، لم يكن أمامي غير أن أكف عن الشرب. بدت تلك الحفلة محاولة بائسة لاستعادة طعم قديم وأيام قديمة، ورغمًا عني لم أكف، طوال الوقت، عن البحث عن «منار»، وانتظرتها في كل لحظة.

أثناء عودتنا في الشوارع الواسعة لوسط البلد، كان يُثرثر بأفكار غير مترابطة، راغبًا في الحديث عن أمور صغيرة حدثت له في طفولته، واستخرج دلالات فلسفية من تأمله للحياة. كان يصف ليل الشتاء وأوان جمع القطن والأحاديث بجوار الساقية، وقد غدت بالنسبة له، ذات صبغة ميتافيزيقية. أحداث -لأنها لم تعد من نسيج العالم الذى يعيشه المرء- فقد خُيِّل إليه أنه لم يعشها، وظل يشرح لي أن نسيج الحياة: المناظر والأحاديث وطبيعة الأزياء وشكل وسائل المواصلات، كل هذا عندما يتغير بالنسبة لشخص اعتاد على أنه الحياة فإنه يفقد توازنه النفسي، تصبح المشاهد كلها حلمية، لأنه لا يعرف أيهما الحياة. كان ذلك استكمالًا لحديثه عمّا فعلته الحياة في مدينة غربية في روحه، فقد جعلته يدرك أن الحياة التي يعيشها هنا حلم، والحياة التي عاشها في وطنه كانت حلمًا، إن تبدل العوالم بهذه الدرجة يُوقع المرء في حيرة بخصوص وجوده، تدفعه أحيانًا للشك في أنه يعيش.

من فوره، عندما دخلنا البيت، نام دون أن يُغيِّر ملابسه، ولاحت لي، مرة أخرى، فكرة القتل، كأنها فكرة شعرية لا يمكن تنفيذها، لا ضد حسين ولا ضد نفسي ولا ضد منار، كشفت هشاشتها، وصدق ظني بأنها مجرد حلم يقظة، وأنني غير قادر بالفعل على تنفيذها، وواجهتني فكرة الخصاء كمرادف لحياتي.

تسلّل الخوف من أنني سوف أواجه انتكاسة مرضية أخرى إذا لم أستطع تنفيذ القتل، سوف أواجه فراغ حياتي وإرهاقي كرمل سيغمرني. لن أستطيع تحمل الفيافي التي ستحيط بي، وبدا لي أن فكرة القتل هي ما ساعدتني على الحياة حتى الآن. كنت جالسًا في الشرفة مُستغرقًا في أفكاري، عندما سمعت الشخير الآتي من الغرفة. كان شخيرًا خافتًا، لكنه اشتد وأصبح مُناقضًا للجو الشفاف الذي ينثره الفجر، كأنما رائحة تحلل جسد في قلب مشهد صافٍ لضوء الفجر يُولد في البحر، وكلما اشتد شخيره راحت أعصابي تفلت مني، ووجدت القتل وقد صحا كفكرة قابلة للتنفيذ لأول مرة منذ أن خطرت ببالي.

دخلت الحمام كي أغسل وجهي وأعد فنجانًا من القهوة، معتبرًا تلك المشاعر الباهتة ما هي إلا النفس الأخير لحلم يقظة استنفد جاذبيته. لكن بمجرد رؤيتي لأمواس الحلاقة اللامعة على زجاجة مغبرة عليها نتف من الصابون الناشف، حتى تجددت الرغبة وكأنما وجدت أداتها، وأدركت أنني قادر، حتى ولو بصورة نظرية، على القتل.

حملت موس الحلاقة غير مصدق أنني سأفعل أي شيء، واقتربت من الفراش، كان الشخير يصدر خافتًا وبعيدًا، وحسين في سريرته يُتمتم. هل خرجت على الفور لأنني اكتشفت أنني قادر بالفعل على تنفيذ القتل؛ فاليد اليسرى مفرودة، والشريان واضح، ولا يتطلب الأمر غير تحريك الموس على الشريان، أم أن القتل قد تم -وهذا ما تُصوِّره لي عزلتي الآن- عندما عثرت على حبل غسيل ربطت به حسين في الفراش ووضعت في فمه قطعة قماش وقطعت الشريان بهدوء، ثم غادرت الشقة.

تختلط عليّ الأمور منذ تلك اللحظة وتبدو لي كنتف من صور لا يملك المرء التيّقن منها، مثل الحياة التي تتحول إلى صور، في كل لحظة.

مشيت في شوارع بدأ يصحو فيها الصباح: الضوء الفضي والأتوبيسات والناس مسرعون إلى أعمالهم. بدأت أفيق إلى نفسي عندما لاحظت أن شخصًا ينظر إليّ بدهشة وهو يسرع في مشيه. أدرت رأسي لأتحقق مما حدث، وجدته يدير رأسه في نفس اللحظة. في التو، عرفت أن موس الحلاقة في يدي، وطرف إصبعي مجروح، تسيل منه قطرات داكنة من الدم. كنت قد وصلت إلى ميدان واسع تطول الشمس قمم عماراته العالية والضباب يتموج فوق الأتوبيسات العملاقة التي تتجه ناحية الكوبري. ألقيت الموس أمام باب المترو، وسمعت رنينه الخافت المتلاشي، وتعجبت من أن شيئًا بهذا الضعف له قوة نزع الحياة. لفّفت إصبعي بمنديل من الورق، وهبطت السلم.

أستطيع أن أرسم خريطة تقريبية لما بقي في ذهني عن تلك الأيام، أعرف أنني دخلت شقتي وتركت عتمتها دون إضاءة، واتجهت إلى المطبخ وفتحت الخزانة الخشبية، حيث أخفي دائمًا زجاجة من الخمر. ورحت أشرب منها جرعات كبيرة. كان الطعم مرًا حارقًا يترك في جسدي اهتزازات عميقة. فتحت الشرفة وأطللت على الشارع الجانبي. كان محل الفراخ مغلقًا، وأقفاص الحديد فارغة أمام الباب. ببطء أخذ الضوء يكسو الشرفات. كانت بعض النوافذ مفتوحة، والأرض بعيدة وراودني الحلم القديم عن أن السقوط ما هو إلا طيران معكوس. شربت جرعات أخرى، وحدّقت في لون الضياء. أفرغت بقية الزجاجة في جوفي، حتى شعرت بالضوء حبيبات رمل مشعة تتحرك في حدقة العين.

رحت أهز الزجاجة، متأملًا لمعان زجاجها الأخضر الداكن، ثم تركتها من يدي، وتابعتها وهي تتلوى في الفضاء المغمور بالضوء والنوافذ والشرفات، تمامًا مثلما كنت أسرق الشوك والملاعق وأقف وحدي في الشرفة وأتركها، أراقبها تتأرجح في الفضاء. سمعت صوت الانفجار العميق الذي صدر عن اصطدام الزجاجة الفارغة بالأرض، رأيت نافذة تفتح، وبوّاب العمارة المواجهة يخرج بالفانلة والسروال الريفي الطويل، ويتطلع إلى أعلى. كنت مُستغرقًا في منظر الزجاجة التي تتحرك في الهواء في طريقها إلى الأرض، كان تأرجحها له وجود خاص، وهي تذهب في طريقها الطبيعي، مُسرعة إلى تلك النهاية.

تعبت من أفكاري. دخلت، واستلقيت على الفراش.

استيقظت على صوت مجموعة من القطط تصطدم بباب الشقة، وتصدر ذلك المواء المُخيف أثناء عراكها. كانت الشرفة مفتوحة، والهواء باردًا، وكنت متيبسًا من البرد، والظلام لا يمكن تحمله. لم أصدق أن يومًا كاملاً قد مضى وأتى ليلٌ آخر. خُيل إليّ أنني فارقت جسدي، وجلست أمامي على مقعد مواجه لسريري، ورحت أتاملني. شعرت أنني سوف أتبع نفسي وسوف يكون هناك على الدوام مسافة فاصلة بيننا.

رائحة الخمر تتحرك في جوفي كدوامات من الهواء المكتوم، عفن الرائحة، والصداع شديد. كلما حرّكت رأسي، من فوق المخدة، تحرك الألم وأرجعني إلى مكاني. صوتي واهن، أقول لنفسي: ألن تقوم؟ أتحب أن تموت؟ أبي يجلس «مُربعًا» على الكنبة ويقرأ القرآن. صباح بعيد، ولحية طويلة بيضاء، تصل حتى الكتاب المفتوح. يُعيدني الألم إلى مكاني كلما هممت بالتحرك، لكن رغبتي في أن أنقذ نفسي من هذا الدوار ومن الصور العبثية، استيقظت عندما عاد من جديد صوت القطط.

ماء الدش البارد خلّص جسدي من أشباحه. بمجرد خروجي من الحمام بدأت أرتعش؛ تهتز ملابسي في يدي وأسناني تصطك. ألقيت بنفسي في سيارة أجرة إلى المحطة، ووجدت قطارًا سريعًا يتحرك في اللحظة التي دخلتها. عدوت لأتخلص من رعشتي. وعندما وصلت إلى مقعد خالٍ بجوار نافذة كانت أنفاسي المتلاحقة تحطم رئتي. نمت قليلًا وصحوت لأن صوت القطار اتحد بآلام جسدي. شممت رائحة الهواء النقي، لكنه لم يقدر على محو الروائح الكريهة التي تتحرك في أمعائي.

أحلام أيام مرضي كانت مرهقة. ما إن أغمض عيني، حتى تتسلل الصور، وتبقى معي عندما أستيقظ. لا يُبددها شيء. ظننت أن هذه الأشباح لن تتركني أبدًا، لن أعرف صفاء الرؤية الذي يعرفه الناس، حين يرون بوضوح الحد الفاصل بين عالم الواقع وعالم الأحلام، كما لو أن ثقبًا في الجدار الذي يفصل المنطقتين قد انفتح، وتسلّلت منه أشباح لن أكون قادرًا على التخلص منها، بعد ذلك.

لا مجال لاستعراض الكوابيس التي طاردتني في تلك الأيام، ولا مجال لفهم التشوش الذهني، ولا التبدل الذي حدث في خيالي لكل من عرفت. أخذت «نفيسة» صورة «منار»، وأبي أخد صورة فلاح عجوز، و«حسين» كان يتمشى في الشوارع مرتديًا زي الجنود. اختبأت «منار» داخل سلك تليفون ومن هناك كانت تتأوه كأنها موشكة على الموت. لن أرى رعبًا أشد من رعب تلك الأيام. مسرحية «ماكبث» بصورها المرعبة ومشاهد القتل كانت محفورة في أحلامي. مشهد الساحرات ومقتل «دنكان» وانفصال رأس «ماكبث» تجسدت بشكل مرعب، وفي إحدى المرات، رأيت النبي إبراهيم يدخل مع ابنه في الشرفة، يفرش جريدة يومية على البلاط، ويقول بصوت عميق: «يا بني لقد رأيت في المنام أني أذبحك».

لكن أكثر الأحلام حيوية كانت تطير فيها أسماء «ناسيت»، «لندن بريدج»، «أوكي»، «لورد»، في فضاء الغرفة كعصافير صغيرة مُلونة بالأزرق والأخضر والبنفسجي، وتظل تتحرك كطيور تُزقزق، وأنا أحاول أن أغُريها بالدخول إلى القفص المفتوح في الشرفة.