ها هم يلعبون معًا في تلك الربوع الخضراء الواسعة، تحت تلك السماء الصافية والشمس الساطعة، تملأ نفوسهم الحياة وقلوبهم الفرحة وابتساماتهم ما أجملها، براءة طفولتهم تأثرك، تشعرك بسعادة كبيرة، مشهد ما أروعه، وكأنك تنظر إلى لوحة فنية مفعمة بالحياة، ولكن لا تتعجل، فإن هذا المشهد لن يدوم طويلًا؛ فالحقيقة أن هذه الأرض إنما هي ساحة حرب.


دوافع الصراع

نحن فى جبال النوبة جنوب كردفان بدولة السودان، تلك الجبال التي تمتد على مساحة ٩٠ كيلو مترًا ويصل ارتفاعها إلى ١٥٠٠ متر، ويبلغ عددها ٩٨ جبلًا، تعاني فيها صعوبة في الحركة بالنسبة للمركبات بسبب طرقها الوعرة، والتي أنتجتها الأوضاع الجغرافية الصعبة، ولكن تستطيع الحركة خلالها عن طريق الطرق والممرات القديمة.

تغطي منطقة جبال النوبة مساحات زراعية شاسعة، تمثل نسبة ٣٥% من أراضي السودان الصالحة للزراعة، يقطن ولاية جنوب كردفان نحو ما يقارب ١٠٠٦٦٠ نسمة ما بين قبائل من أصول عربية وأخرى أفريقية، سكنت القبائل العربية تلك المناطق منذ القرن الخامس عشر واستقروا هنا مع السكان الأصليين.

وقد كانت المنطقة عبارة عن غابات وأحراش وحيوانات متوحشة ولم ينعزلوا عن السكان الأصليين، بل اندمجوا معاً وتزوجوا وأنجبوا أجيالاً متعاقبة حتى تغيرت الملامح فيما بينهم، حتى جاء ذلك الوقت الذي نزع فيه فتيل الصراع، صراع على الأرض والثروة كما يقول البعض.

يتحدث أهل جبال النوبة عن تهميش طالهم طوال العقود الماضية، وزاد الطين بلة عمليات نزع الأراضي التي تمت بواسطة الدولة ورجال الأعمال والمستثمرين تحت ما يسمى بالمشاريع الزراعية التى حولت ملّاك تلك الأراضي إلى عمال فيها.


بداية الصراع

هنا بدأ الصراع، كانت بدايته بين الرعاة والمزارعين، كان للحكومة دور كبير فى تأجيجه حيث إن ممرات الرعاة حسب الخريطة الجغرافية للولاية، فهناك مساحة ممتدة من بحيرة الجاو إلى أقصى شمال الولاية بها حوالي ( ٢٠٠ الى ٣٠٠ ) فدان للرعي، لكن الحكومة ضيقت مساحة الرعي مما اضطر الرعاة إلى التوسع في الأراضي الزراعية وهذا لا يتماشى مع الطبيعة الزراعية فنشب الصراع ، كان صراعًا بفعل فاعل.


ظهور الحركة الشعبية

وهنا كان للحركة الشعبية لتحرير السودان الظهور الأكبر في المشهد، حيث فوّض مواطنو جبال النوبة الحركة الشعبية لتحرير السودان للتفاوض باسمهم مع الحكومة في الحصول على حق تقرير المصير، ولما تم انفصال جنوب السودان أخذ الكثير من أبناء النوبة وبخاصة المنتمون للحركة الشعبية يشعرون بأنه تمت التضحية بهم واتخاذهم ذريعة لإكمال اتفاقية السلام الشامل الموقعة بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان.

هذه الاتفاقية حق تقرير المصير لجنوب السودان لم تمنح جبال النوبة سوى (المشورة الشعبية) وهو قانون خصت به اتفاقية السلام الشامل ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق المتاخمتين لجنوب السودان؛ بهدف تحديد النظام الإداري عقب الفترة الانتقالية.

ورغم غموض مصطلح «المشورة الشعبية» في اتفاقية السلام الشامل، إلا أنه تم قبوله من أبناء المنطقة كل حسب تفسيره، فالمنتمون إلى حزب المؤتمر الوطني يرونها استطلاعاً للرأي ولكنه غير ملزم، أما المنتمون للحركة الشعبية فيرونها تعبيراً مرادفاً لحق تقرير المصير.


نزوح بفعل الصراع

تحولت جبال النوبة إلى ساحة حرب، وللحرب عواقبها والتي تقتصر فقط على سكان النوبة، فقتل وتهجير واعتقال، تحولت تلك الربوع الخضراء إلى خرابات بفعل الصراع.

يعيش سكان جبال النوبة أوضاعاً إنسانية صعبة، ذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها أن عمليات القصف العشوائي من قوات الحكومة السودانية أجبرت سكان المنطقة على النزوح، اضطر الآلاف من المدنيين إلى النزوح للاحتماء بالكهوف هرباً من القصف والقنابل والصواريخ، وباتوا يخشون العودة إلى ديارهم.

وقال كثير من النازحين الذين تحدثت إليهم هيومن رايتس ووتش إن منازلهم قد دمرت نتيجة القصف والقتال، وإنهم فقدوا كل متعلقاتهم وممتلكاتهم بما فى ذلك الماشية وحيوانات أخرى نهبها جنود الحكومة، على حد قولهم.

ويقدر عدد النازحين داخل جنوب كردفان فقط بما يزيد على نصف مليون نازح حسبما أعلنت منظمات إنسانية ومنظمات تعمل في مجال المجتمع المدني في السودان، كما فر ٢٥٠٠ شخص على الأقل إلى معسكرات اللاجئين في جنوب السودان.

ووفقاً لما أوردته المفوضية السامية لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة فإن متوسط عدد الذين كانوا يصلون يومياً إلى معسكر «ييدا» تجاوز الـ٢٠٠ شخص، ويتواجد في هذا المعسكر فقط ما يقارب الـ٧٢ ألفًا من مواطني جبال النوبة، أما معسكرات الحكومة الأربعة وهي معسكر (جندراسة) و(كايا) و(يوسف تل) ومعسكر (دورة) ويقطنها نحو ما يزيد على ١٣٠ ألف مواطن، فضلاً عن حوالي ٨٥ ألف لاجئ على الحدود مع إثيوبيا، فأكثر من ثلثي السكان إما نازحون أو لاجئون، أصبح المشهد مأسوياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، هكذا هي الحرب .


الأوضاع الإنسانية في جبال النوبة

ونجد أن الأزمة في تطورها الخطير هذا أدت إلى مناشدة المنظمات الإنسانية الدولية للحكومة السودانية بفتح ممرات آمنة لإيصال الغذاء والدواء للآلاف من السكان الذين يعانون الجوع والمرض والقصف اليومي الذي أدى إلى مقتل الآلاف وحرق المزارع والماشية في حرب باتت تقضي على الأخضر واليابس وقبلها الإنسان الذي لا جرم له فيها.

أما عن الأمراض فأصبحت تلك المناطق أراضي خصبة لانتشار الأوبئة وبصورة كبيرة وسريعة، بفعل القصف المتزايد لحقت بالمستشفيات والمؤسسات الصحية أضرار كبيرة إن لم تقض عليها نهائياً، أصبح الوضع مخيفاً، فهناك مخاوف من احتمالات تفشي الأمراض المعدية بما في ذلك الحصبة، والتي يمكن أن تكون خطيرة على النازحين وعلى الأطفال خاصة، وعلى إثر ذلك وجه أطباء عاملون في منظمات تابعة للأمم المتحدة تحذيرات من أنهم منعوا من إيصال أمصال وعلاجات مهمة جداً للأطفال اللاجئين الفارين من الصراع.

ومن ناحية أخرى أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسيف تقريرها أواخر يناير من العام ٢٠١٤ حول صحة الأطفال في العالم إذ جاء السودان فى المرتبة الثالثة والثلاثين ضمن أسوأ بلدان العالم في وفيات الأطفال تحت سن الخامسة، وذكرت أن من بين مليون ومائتين وثلاثة وستين ألفاً هم عدد مواليد أطفال السودان سنوياً منهم تسعة وثمانون ألفاً يموتون قبل سن الخامسة، فلا توجد ممرات آمنة لإيصال الغذاء والدواء وتطعيم هؤلاء الأطفال، إنها حقاً عملية إبادة صنعتها الحرب، حتى الأطفال لم يسلموا منها.

أصبح السلام والأمن فى جبال النوبة من الذكريات التي تحكي للأجيال الحاضرة بالتالي لا تستوعب تلك الأجيال ذلك التغير الذي أحدث كل هذا في أرضهم ولكنها الحرب تحصد الأرواح وتقضي على القيم وتصنع الفوضى.

وفي تقريرها السنوي وثقت منظمة العفو الدولية انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان بما في ذلك الهجمات الجوية والبرية التي تستهدف المدنيين والأهداف المدنية، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، إن عدم وصول المساعدات الإنسانية يديم الانتهاكات الأخرى لحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في الصحة والتعليم والغذاء والمياه الصالحة للشرب والسكن الملائم، وخلصت منظمة العفو الدولية إلى أن ما يحدث في جنوب كردفان إنما هي جرائم حرب، كما حصلت منظمة العفو الدولية على أدلة تشير إلى أن هناك قصفا متعمدا للطائرات على المستشفيات والمرافق الإنسانية الأخرى كما ألقت الطائرات قنابل عنقودية على مناطق مدنية في جبال النوبة في العام ٢٠١٥، و٣٧٤ قنبلة على ٦٠ موقعاً في جنوب كردفان وقصف ٢٦ مرفقاً صحياً ما بين مستشفيات وعيادات ووحدات صحية.

بحلول العام ٢٠١٥ لم يكن هناك سوى مستشفيين اثنين فقط يعملان لخدمة سكان تخطى تعدادهم أكثر من ١.٢ مليون نسمة، أصبح الأمر خطيراً لا يمكن السكوت عليه، فالقتل والتشريد والمرض والخوف كل ذلك يحاصر المواطن في جبال النوبة، أصبحت الحياة هناك معلقة في انتظار بزوغ شعاع أمل يعيد لهم الحياة مرة أخرى كما كانت في السابق.


جبال النوبة بلا تعليم

أما عن التعليم في جبال النوبة في ظل الصراع القائم فقد ذكرت منظمة العفو الدولية أن انعدام الأمن أثر بشكل كبير على العملية التعليمية، فعندما بدأ الصراع كانت هناك ست مدارس ثانوية في المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية، أما في العام ٢٠١٥ لم يبق منها سوى ثلاث مدارس فقط، وتناقص عدد الأطفال في المدارس الثانوية في المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية من ٣٠٠٠ إلى ما بين ٣٠٠ – ٥٠٠ طفل، في حين أغلقت ٣٠ مدرسة ابتدائية مع انكماش أعداد التلاميذ المسجلين بالمدارس منذ عام ٢٠١١ بمقدار ٢٣ ألفا عما كان عليه من قبل.

وجهت اتهامات كثيرة إلى الحكومة بأنها لم تبذل أي جهد في محور التعليم بالإقليم بل إن المدارس تحولت إلى ثكنات عسكرية، في المقابل شح المياه منع الكثير من الفتيات في جبال النوبة من مواصلة التعليم، حيث إن الأسرة تفضل أن تذهب البنت إلى جلب المياه بدلاً من أن تذهب إلى المدرسة، حيث إن مياه الشرب تشكل أكبر هموم المواطنين في جبال النوبة.

وبسبب الصراع فإن أكثر من ١٥٠ ألف طفل في سن الدراسة في إقليم جبال النوبة لم يجدوا مقاعد للدراسة، هذا الفاقد التربوي والتعليمي ينذر بخطر كبير على المستقبل السلمي الذى تنشده تلك المنطقة.


وضع المرأة النوبية

أما عن أحوال المرأة في منطقة جبال النوبة، فحالها كحال كل النساء اللواتي يعشن في أماكن تنهشها الصراعات، فبين قتل وتشريد وفقر وجهل واغتصاب تحيا المرأة في جبال النوبة، فقد فقدت المرأة في جبال النوبة بيتها بفعل القصف وانقسمت أسرتها بين قتيل وجريح ومشرد، معاناة لا توصف، أصبحت المرأة في جبال النوبة تكابد من الحياة رغم ما تعيشه من دمار وخراب طال كل مكان حولها.

في أحد الأبحاث التي خرجت عن وضع المرأة في الصراعات الموجودة في قارة أفريقيا، سجل هذا البحث أن نسبة ٨٥℅ من النساء في ظل الصراعات يقمن بدور الأب والأم معاً ولذلك لغياب الأب أو لعدم قدرته على القيام بمهامه كرب الأسرة، من ناحية أخرى سجلت منظمة حقوق الإنسان والتنمية بعضاً من حالات الاغتصاب بحق النساء في جبال النوبة، فقد سجلت المنظمة ٤ حالات اغتصاب خلال شهر يناير من العام ٢٠١٥ في مدينة كادقلي، إضافة إلى حالة أخرى في منطقة خور الدرنقيس.


النداء الأخير

أصبح الأمر كارثياً، يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ومازالت المنظمات الحقوقية الدولية منها والإقليمية تنادي بخطورة الموقف بجبال النوبة وتنذر المجتمع الدولي بتفاقم تلك الكارثة الإنسانية يوماً بعد يوم، وما زال سكان تلك الجبال على أمل بتحسن الأوضاع، وهم كل يوم يستشرفون فجراً جديداً، فجراً يحمل لهم السلام والأمن، وأن يعيد لهم من ذكريات ماضيه تلك الحياة الهادئة التي فقدوها، حياة هادئة وسط مزارعهم الخضراء في أمن وسلام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.