في قرية نوبية كانت قبل التهجير في قلب أسوان، والآن تقع خارج حدود أسوان بمحطتي قطار، وعلى جدران من الطين يتفتت كلما اتكأنا عليه، أسند رأسي على كتف جدتي التي أتشوق لرؤيتها وأنتظر إجازة نصف العام للسفر لأسوان والمكوث معها.

كانت العطلة المدرسية التي أقضيها في أسوان تحمل في صدري الكثير من الأسئلة لجدتي، ومقارنات عدة أريد منها أن تجاوبني عليها: «ليه يا ستي البيوت هنا دور واحد؟»، «ليه يا ستي العيال في المدرسة بيقولوا على ستهم: نينه؟ ومش بيقولوا زيي: ستي»، «ليه هنا محدش بيقولي يا شوكولاتة؟ حلوة الشوكولاتة ومش عارف ليه فاكرني متضايق من الكلمة وبيضحكوا؟».

النوبة, مصر, بيت نوبي
بيت نوبي

كان وابل الأسئلة لا يسع طاقة جدتي ولغتها للإجابة، وكانت تتنقل بين النوبية والعامية المصرية بلكنة نوبية في الرد على أسئلتي، وكانت تمسح على وجهي بشالها الأسود الكبير الذي ألتفّ به مرات عدة ويظل فضفاضًا على جسدي. كانت تتوقفها كلمات مثل: شوكولاتة، وأسود، و«انت نسيوك واتحرقت في الفرن ولا إيه».

كانت تمسك بيدي ونمشي سويًا حُفاة على رمال قريتنا، كانت رمال أرض القرية تعرفها جيدًا لا تؤذيها في قدمها، وربما كانت تكرمني من أجلها ولا تؤذيني أنا أيضًا. تقول لي: «اللي يقولك إسود، قوله: هو انت يعني اللي شق اللفت!».

كانت تُكرر تلك العبارة وكنت لا أفهم معناها، ومن جديتها المصبوغة بالسخرية كنت لا أكترث في البحث عن معناها، وربما كنت أشعر أنها شيء عصي على أي شخص أبيض أن يصل إليه، وأقول لها «احنا شق اللفت يعني؟»، تبتسم ابتسامة واسعة تُظهر بعضًا من أسنانها التي سقطت مع مرور الزمن، وتضع يدها على فمها خجلًا، ثم تقول لي «لأ احنا شوكولاتة آه زي ما بيقولولك بس الشوكولاتة غالية واللبن رخيص».

أستيقظ مبكرًا على رائحة الخُبز الذي تستيقظ جدتي قبيل الفجر لصنعه، كانت رائحة الدقيقة ممزوجة بنسمات الصباح الباردة، كأنها تخبز الصباح نفسه لنا وليس الخبز فقط. أقف في باحة البيت المُرصّعة جدرانه بنقوش وألوان باهتة من التراث النوبي، وصورة ببرواز مكسور لجدي وهو في منتصف الأربعينيات، وصورة جدتي المخبأة داخل فتحة في الحائط، وضعت جدتي صورتها بها بجانب بعض أواني الفخار الغالية وأوراق شجرة في وسطهم، لا أعرف هل وضعتها جدتي أم جاءت وحدها مع الريح المحملة برائحة الخبز لتزينها. كانت باحة البيت دون سقف، تُطل على السماء مباشرةً، سماء تسمح بمرور السُحب فوق البيت لكي تحمينا من أشعة الشمس ولا تسمح بمرورها في الشتاء لتلقي علينا الأمطار.

النوبة, مصر, بيت نوبي
أحد بيوت النوبة المطلة على محمية سالوجا وغزال.

لا شيء في هذا البيت يستحضر شيئًا من التاريخ الذي عرفناه في المدرسة، وذلك لأن جدتي أيضًا انقطعت عن التاريخ بعد التهجير، لقد حملت في جلبابها الأسود أباريق الشاي وأواني الطهي وحبيبات ذرة كذكرى وامتنان لمحاصيلها الزراعية التي غرقت تحت ماء السد العالي، وفوقها تهليل شعب جاع، وآمال بمستقبل من أجله يجب أن تُقتل ذاكرة أهل النوبة.

كان الراديو هو الموسيقى التصويرية لمشاهد بيت جدتي، ربما تنسجم فقرة القرآن مع الخبيز ورائحة غليان حبيبات الفول وصوت جدتي وهي تطرق الباب على غرفة الفراخ بشكل تلقائي تمامًا كأنها تستأذنهم لكي تعطيهم الخبز والماء، وينقطع هذا الانسجام بنشرة الأخبار التي تنتهي بجملة «عجلة الإنتاج»، والتي يلازمها مباشرة دخول حمار الخال. رجل يخطو نحو السبعين من عمره بجذع شجرة جعلها عصًا يتكئ عليها، ويمتطي حمارًا أقرب إليه من البشر جميعًا. لا يعرف الخال حقوق الحيوان ولم يحضر يومًا لقاء للمطالبة بحقوق البطاريق في القطب الشمالي، ولكنه بالفطرة كان يُصادق الدواب تامة.

تَعلم الخال في الكُتاب من الصغر واشتغل بالفقه المالكي، وذلك لأن مذهب الإمام مالك هو الذي اختاره أهل الجنوب في مصر وعموم البلدان الأفريقية، ما عدا بلدان قليلة مثل الصومال (بلدان الساحل الشرقي لأفريقيا)، لأنها قريبة من اليمن، واليمن يتبع المذهب الشافعي. وبعد وفاة الخال وقف الحمار أمام باب البيت في انتظاره للذهاب للغيط، ولكن لم يأت وظل الحمار واقفًا طوال الليل ولا يريد التحرك من مكانه حتى مات بعد ذلك بأسبوع بعد أن أخذه أحد الأقارب عنوة.

نجلس في ساحة كبيرة في قلب القرية لنحتفل بالعروسين، نجلس على هيئة نصف قمر يأمل أن يكون هلالًا قريبًا، ونستمع إلى أغاني النوبة التي يغنيها بعض شباب القرية ذوي الأصوات العذبة، أستمع إلى الأغاني، أردد مع المُغني كما يفعلون، وأتمايل مع إيقاع خطواتهم ورقصهم المفعم بالانسجام والتلاحم.

كانت بداية الأغاني أغنية ذات إيقاع مميز للغاية اسمها «واه حنينة»، وكنت أشعر أنها أغنية رسمية للأفراح النوبية لأنهم جميعًا يعرفونها حتى الصبية الصغار الذين بالكاد لديهم مفردات للحديث مع آبائهم، ولكني عرفت بعد ذلك أنها أغنية عن التهجير من ضمن أغنيات كثيرة تُظهر قصة التهجير ومشاعر النوبيين تجاهه، ومن تلك الأغاني: أغنية «واه حنينة» للفنان الراحل «سيد جاير»، الذي ولد عام 1930 في نجع «سلماندية» بقرية فرّيج «أبو سمبل» بالنوبة القديمة، وشاهد التهجير عام 1963 وتوفي في يوليو/ تموز عام 2005.

النوبة, مصر, بيت نوبي, أغاني النوبة
فرقة غناء نوبية

تحكي الأغنية قصة شاب نوبي ذهب إلى أرضه بعد سنوات من التهجير ووجدها غارقة تحت الماء باستثناء مرتفع صغير يطفو على سطح النيل، ويصف الحالة المؤلمة التي تأتي فيها الجبال والطيور. ولأني صبي قاهري انقطعت جذور من النوبة لتنبت في زحام القاهرة، لم أفهم الكثير من الكلام النوبي، ومصادفة كان هناك مقطع يتردد في إحدى الأغاني أردت أن أعرف معناه، وعندما سألت جدتي قالت معناه «أيها الغريب.. ما الذي أتى بك إلى هنا».

لم تصل رائحة غاز ميدان التحرير في ثورة يناير إلى النوبة، ولم يخرج النوبيون في الميادين للمطالبة بسقوط النظام، فقد انقطع الانتماء لتلك الدولة وظل التعلق بالتراث الغارق والأرض المسلوبة، وذلك الشعب الذي هلل لعبدالناصر وما زال يهلل له من أجل السد العالي.

أقول لجدتي بحماس شديد عن الثورة وما يحدث، وتقول لي شباب القرية دقوا الخيام أمام مبنى المحافظة للمطالبة بحق العودة إلى أراضينا. ولا يمكن القول إن الجيل الجديد بأكمله يتبنى نفس النهج، ففي الوقت الذي لم يستطع فيه الكبار أن يتخلوا عن حلم العودة وإعادة التوطين في أراضٍ تشبه أراضيهم على أقل تقدير، تضاربت مواقف الأجيال التالية ما بين من أخذ إرث الحلم كاملًا، وأصبح يدافع عنه بالاعتصام والتظاهر وهي الأبجديات التي يجيدها جيله، وآخرين مثلي لا يعرفون عن القضية شيئًا لأنهم عاشوا في زحام القاهرة وسط معارك بقاء ذاتي.

عبرت، مؤخرًا، البحر المتوسط ووصلت إلى شرق ألمانيا، كنت أعلم جيدًا أن العيش في الشرق لم يكن بالشيء اليسير، لم يكن لدي مخزون من المواقف يشرح لي الوضع هناك، وعند وصولي إلى بريمن، إحدى مدن الشمال لزيارة أحد الأصدقاء، ثم الانتقال إلى «الشرق الجاف» على حد تعبير صديقي الذي أخذ يقص عليّ ما سمعه عن الشرق، وكنت أقول له بتهكم: إنني «مسلم، عربي، أسمر»؛ لذلك ستكون العنصرية ثلاثة أضعاف.

بدأ القلق يخطو نحو عقلي وبدأ الخوف يتسرب إلى قلبي عندما وجدت في ساحة جامعة بريمن لافتة مكتوب عليها «النازيون في ساكسونيا»، كانت بجانب عدة لافتات مكتوب عليها كلمات ألمانية معادية للعنصريين في الشرق، جالت في خاطري مشاهد من فيلم «American History x»، الذي تدور أحداثه حول ديريك، الشاب النازي الذي دخل السجن بسبب قتله شابًا أسمر، وشاهدت نفسي في مشهد القتل مُلقى على الطريق وإدوارد نورتون يكسر رأسي على حافة الرصيف مثل ما حدث في الفيلم، ولكن هذه المرة لن يتم القبض عليه. تحدث أشياء بكثرة يوميًا لي ولم تسعني طاقتي ومفرداتي أن أكتب كل شيء.

أكتفي بالتقاط صور وتدوين تواريخ، والقراءة يوميًا لمدة ساعة، وهي المدة التي يستغرقها القطار ليصل بي لمكان درس الألماني.. ربما أضيع تلك الساعة دون قراءة عدة مرات بسبب مشهد أرض زراعية خضراء تحولت إلى قطعة أرض مبيضة تمامًا، أو مشهد لأم تحاول أن تلتقط نشوة سؤال طفلها الصغير عن الألوان والمطر والثلج والقطار، وذلك الطفل الذي يشير إليّ ليسألها عن لوني الأسود، وارتباك الأم ومحاولة تشتيت انتباه طفلها لشيء آخر، لم أنزعج نهائيًا من كلمات العنصرية عن لوني الأسود، وتتردد كلمات جدتي حينها عندما أقول لها: «بيقولولي يا ستي إن السمار نص الجمال»، وترد عليّ بثقة قائلة: «السمار كل الجمال يا واااد.. خليك جميل دايمًا».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.