لم تكد تهدأ قليلًا العاصفة التي أحدثها مسلسل «تشيرنوبل» الذي أنتجته شبكة «HBO»، وتناول أحداث وتداعيات انفجار المفاعل النووي السوفييتي، في تشيرنوبل، عام 1986، ومحاولة الحكومة السوفييتية آنذاك التعتيم على الأنباء داخليًا وخارجيًا في بادئ الأمر، حتى تفاجأ العالم يوم الخميس الماضي، 8 أغسطس/آب، بأنباءٍ عن مصرع 5 مهندسين روس يعملون في مجال الطاقة النووية، في انفجار كبير وقع أثناء تجربة إطلاق لأحد الصواريخ، الذي يعمل بالوقود السائل، كما ذكرت وكالة روس-أتوم النووية الرسمية الروسية. كما ارتفعت حصيلة الضحايا لاحقًا إلى 7 أشخاص.

أعادت الحادثة المفاجئة، والتي وقعت في أقصى شمال روسيا، على بعد أكثر من ألف كم من العاصمة موسكو، والبيانات الرسمية الروسية المقتضَبة بخصوصها، إلى الأذهان، واقعة «تشيرنوبل» بحذافيرها، رغم تباعد الزمكان. مرَّ أكثر من 33 عامًا، وتغيَّرت عقيدة النظام السياسي الحاكم هناك جذريًا، لكن شعر معظم المراقبين والمتابعين ألا جديد تحت شمس روسيا الغائبة معظم فصول السنة. 

تعتيم إعلامي كبير في الأيام الأولى بعد الواقعة، وتأخر من السلطات الروسية في توضيح تفاصيل الأمر، خصوصًا مع تسرب أنباء عن التقاط نشاط إشعاعي زائد في مدينة «سيفيردوفنيسك» القريبة من الموقع العسكري الذي كان يحتضن تجربة الصواريخ، في مقاطعة «أرخانجلسك» المطلة على البحر الأبيض، الواقع أقصى شمال غربي روسيا، وصل هذا النشاط في ذروته إلى 20 ضعف المعتاد، لأكثر من نصف ساعة، كما صرح مسئولون روس محليون على موقع البلدية على الإنترنت. جدير بالذكر، أن المقال الذي سجَّل حدوث هذا النشاط الإشعاعي، قد حُذف بعد ساعات، لكن كان الاضطراب قد وصل إلى سكان المناطق القريبة، والذين هرعوا إلى الصيدليات لابتياع أقراص اليود التي تحمي الغدة الدرقية من آثار اليود المشع، الذي قد ينتج عن التسربات النووية.

اقرأ أيضا: كل ما يجب أن تعرفه بالضرورة عن التسمم بالإشعاع النووي.

صباح السبت 10 أغسطس/آب، وبعد يومين من الواقعة – أقرت روس-أتوم في بيانٍ لها بأن التجربة التي وقعت خلالَها الحادثة، تضمنَّت استخدام مواد نشطة إشعاعيًا. كما أكدت في البيان أن ضحايا الواقعة أبطال قوميون، كانوا في مهمة وطنية نبيلة.

مفاعل نووي صغير

جاء التطور الأبرز منذ حدوث الواقعة، عندما تناقلت العديد من وسائل الإعلام العالمية الإثنين 12 أغسطس/آب 2019م تصريحاتٍ أدلى بها المدير العلمي للمعهد النووي الفدرالي الروسي، الذي كان ينتسب إليه ضحايا الانفجار الغامض، إلى وسائل إعلام محلية روسية، استُنتِج منها أن ما انفجر أثناء التجربة كان مفاعلًا نوويًا صغيرًا، يتم تجريبه كوقودٍ بديل للصواريخ.

ذكر «سولوفيوف» أن الهيئة العلمية التي ينتسب إليها تركز في أبحاثها، مؤخرًا، على مصادر طاقة متناهية الصغر، تعتمد على المواد النشطة إشعاعيًا، وصرَّح نصًّا في تلك المقابلة التي تداولتها وسائل الإعلام العالمية كافة، أن تجارب مماثلة على مفاعلاتٍ نووية شديدة الصغر تُجرى في الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا، وأكدت أن السلطات الروسية تعكف على دراسة ما حدث يوم الانفجار، وتتابع الأخطاء الذي أدت لوقوعه. لم يحدد سولوفيوف كمية المادة المشعة التي استُخدمَت، كما لم يعطِ تفصيلات أكثر عن الواقعة.

جدير بالذكر أن السلطات الروسية أغلقت خليجًا قريبًا من موقع الحادثة لمدة شهر، مما ضاعف الشكوك حول وجود تسرب إشعاعي يتم التعامل معه. مثل تلك الأنباء، مع المناخ العام من التسويف في الإدلاء بتفصيلات حول الواقعة، يزيد الواقعة غموضًا، ويرفع المخاوف على النطاق العالمي، رغم أن الحدث يبدو أقل خطورة بكثير من واقعة «تشيرنوبل» الشهيرة، فالبلدان القريبة من روسيا كالنرويج وفنلندا وغيرها لم تعلن عن رصدها لارتفاع في معدلات الإشعاع النووي في أجوائها.

خبر غير صحيح:

نقلت بعض المصادر الصحفية المصرية أن مفاعل ديمونة الإسرائيلي قد رصد ارتفاعًا في النشاط الإشعاعي، ولا يوجد أصل لتلك الادعاءات.

جيل جديد من الصواريخ العابرة للقارات 

لدينا شكوكُ بأن الانفجار الغامض وقع أثناء اختبار صاروخ روسي بعيد المدى، مزود بوقودٍ نووي.

جوفري لويس، الخبير الأمريكي في مجالات التسليح، بمعهد ميدلبري للدراسات الدولية

صرَّح ديفيد كولن، مدير هيئة المعلومات النووية بالمملكة المتحدة، بأن تجربة الصواريخ الروسية، التي تخلَّلها ذلك الحادث الأليم، كانت لجيلٍ جديد من الصواريخ العابرة للقارات، من طراز يسمى «skyfall SSC-X-9»، والذي يريد العلماء الروس تزويده بمفاعل نووي صغير كمصدرٍ للطاقة، يسمح له بالطيران لأبعد مدى ممكن، مما قد يعني نظريًا قدرته على استهداف أي بقعة في العالم حرفيًا.

لا يبدو الحديث السابق من قبيل التكهنات غير الواقعية، إذ كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد صرَّح في مارس/آذار 2018، قبل الانتخابات الرئاسية بـ3 أسابيع، وفي أجواء دعائية حماسية، بأن روسيا تعكف على تطوير صواريخ جديدة، قادرة على التغلب على كافة الوسائل الدفاعية الأمريكية والغربية، والوصول إلى أي بقعة على الخارطة.

 أوضح بوتين أن التقنية الجديدة وراء هذه الأسلحة المتطورة، هي تزويد الصواريخ البالستية الحاملة للرؤوس النووية، بمفاعل نووي صغير، يقوم محل الوقود المعتاد، مما سيمكنها من الوصول لارتفاعاتٍ وأمدية قياسية لا تصل إليها الطرازات الحالية. وحينها اتهم بوتين الولايات المتحدة الأمريكية، بأنها مسؤولة عن إشعال سباقٍ للتسلح، بإصرارها على تطوير القدرات المضادة للصواريخ، ونشرها على مقربةٍ من روسيا. لكن شكك بعض العلماء الغربيين آنذاك في مدى فعالية التقنية التي أعلن عنها بوتين، وصلاحيتها للتطبيق.

يخشى الكثير من المراقبين في أعقاب تلك الحادثة، أن يكون العالم على أعتابٍ سباقٍ جديد للتسلح الصاروخي والنووي، ينذر بعودةٍ أجواء الحرب الباردة التي طغت على النصف الثاني من القرن العشرين، ووضعت العالم على شفير الدمار الشامل في أكثر من موقف، كادت فيه القوتان العظميان آنذاك، الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي، ينجرَّان إلى الحرب النووية.

وبدأ الإخلاء…

في تطورٍ لافت اليوم، صدرت تعليمات إلى سكان إحدى القرى القريبة من موقع الحادثة، بمغادرة المنطقة، دون أن يتم تحديد الأفق الزمني لذلك. لكن أكدت وكالة انترفاكس الروسية للأنباء، على لسان مسؤولين محليين في المنطقة، أن هذا الإخلاء ابتداء من 14 أغسطس/آب، كان مقرّرًا منذ الإعلان عن التجربة الصاروخية، ولا علاقة له بحدوث الانفجار.

سيتم تحديث التقرير حالة وجود خبر جديد متعلق بالانفجار.