في يونيو/حزيران الماضي وبعد مناقشات طويلة طلب البرلمان الإيطالي من اتحاد كرة القدم، حظر رقم 88 من ملاعب الدوري الإيطالي. لم يكن الأمر تكريمًا لأسطورة سابقة، فقد اعتاد مشجعو كرة القدم على مثل هذه الأمور، ولكن الهدف هذه المرة كان سياسيًّا بشكل بحت.

كان الخامس من يونيو عام 2019 يومًا غير عادي بالنسبة لنادي يوفنتوس الإيطالي. تم الإعلان رسميًّا عن عودة جيانلويجي بوفون إلى السيدة العجوز بعد رحلة قصيرة في باريس سان جيرمان. حدث ما حدث وعاد الأخطبوط لناديه التاريخي وسط حفاوة من زملائه الذين نالوا فرصة مزاملته قبل عام، أو الوافدين الجدد الذين يستعدون لمزاملته للمرة الأولى.

كان كريستيانو رونالدو أول المرحبين ثم البقية، أشار جيورجيو كيليني لـ «جيجي» بالرغبة في الحديث معه منفردًا بعيدًا عن ضجيج الترحيب. اصطحبه المدافع إلى خارج الغرفة، وبدأ حديثه:

«جيجي، سأقدم لك عرضين أتمنى ألا ترفضهما».

رد بوفون مبتسمًا:

«عرضك الأول مرفوض. أعرف أنك تريد مني الحصول على شارة القيادة منك، لم أحضر هنا لإحداث أي تغيير. أنت القائد وستظل كما أنت. سألعب ما تبقى من مسيرتي معكم وتحت قيادتك يا كابيتانو».

ابتسم كيليني إعجابًا بسرعة بديهة بوفون الذي يعرفه جيدًا، فهو الشخص الذي يعرف ماذا يفعل، فقد اعتاد منه على ذلك خلال مسيرتهما في يوفنتوس التي اقتربت من 12 عامًا.

لهذا انتقل سريعًا إلى عرضه الثاني:

«العرض الثاني ليس مني، بل يخص الحارس فوتشيك تشيزني. يريد التنازل عن الرقم 1 من أجلك، فهو علامة مسجلة خاصة طوال مسيرتك، هل ستقبل ذلك؟»

رد بوفون:

«لن يحدث ذلك يا جورجيو، فقدت اتخذت قراري بالفعل، سأرتدي القميص 77. القميص الذي كان فأل خير كما قلت في وسائل الإعلام اليوم، إنه يعبر عن تاريخي، وأريد وضعه على القميص مرة أخرى».

كان اختيار بوفون للرقم 77 غريبًا للوهلة الأولى. على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت جماهير رونالدو أعلنت خلع قميص ريال مدريد وارتداء قميص اليوفي من أجله. كان الجميع يتوقع ذلك من المهووسين به، ولكن ما لم يتوقعه الكثيرون هو ادعاء البعض أن الحارس المخضرم اختار هذا الرقم من أجل رونالدو صاحب القميص رقم 7 الأيقوني!

قطعًا لم يكن هذا هو السبب الحقيقي، ولكن أصل الحكاية يعود إلى زمن بعيد. منذ أيام بوفون الخوالي مع بارما، والرقم 77 الذي لو لم يختره بوفون لربما انتهت مسيرته إلى الأبد.

بوفون نازي؟

يستعد الجميع لموسم 2000-2001 في إيطاليا. قبل موسمين، حقق بارما لقب كأس الاتحاد الأوروبي فيما يشبه المعجزة. يريد كل أعضاء الفريق تكرار الإنجاز، خاصة أن العروض بدأت تنهال على نجوم الفريق الصاعدين. رحل هيرنان كريسبو وسيباستيان فيرون، وتكمنت إدارة بارما من الحفاظ على ليليان تورام وفابيو كانافارو والحارس جيانلويجي بوفون. ربما تكون الفرصة الأخيرة لأن الرحيل لأندية أكبر بات مؤكدًا.

وعلى الرغم من الترقب من كل جماهير إيطاليا، كان بوفون بطل الموسم منذ اللحظة الأولى، ليس لتصدٍ إعجازي أو لقطة فنية، ولكن بسبب رقم القميص الذي كان مثيرًا للبعض: 88!

الرقم 88 هو رمز مهم لحركة تسمى «النازيون الجدد». هي حركة سياسية نشأت بعد الحرب العالمية تهدف إلى إحياء الفكر النازي من جديد، والذي كان قائده الزعيم الشهير لألمانيا في الثلاثينيات من القرن الماضي أدولف هتلر، أما هذا الرقم تحديدًا يشير إلى حرفي HH، وهي الحروف الأولى لـ «هايل هتلر» التي استُخدمت للتحية.

أثار ظهور هذا الرقم الذعر بين الجالية اليهودية التي بدأت في إطلاق الاتهامات صوب الحارس الإيطالي، والذي بدوره خرج سريعًا يبرر ما رآه مبالغة كبيرة.

اخترت هذا الرقم لأنه مكون من 4 كرات وتعبيرًا عن عشقي لكرة القدم. في البداية أردت اختيار الرقم «صفر» ليخدم هذه الفكرة، ثم اقترحت الرقم 01، ولكن هذا لم يكن مسموحًا، فاخترت 88. لم أقصد أبدًا ما ظنه البعض.
تصريح بوفون لشبكة سكاي سبورت الإيطالية

هل تعتقد أن هذا كافٍ لمن وجَّه الاتهامات إلى بوفون؟ بالتأكيد لا، حيث طالبوا بشطبه، بل محاكمته. فلو كان هذا صدفة، فهل ما كُتب على قميصه قبل أشهر كان محض صدفة أيضًا؟

ماذا كُتب على قميص بوفون؟

قبل أشهر وخلال إجراء بوفون لحوار تلفزيوني بعد إحدى مباريات الدوري الإيطالي، فوجئ الجميع بجملة مكتوبة على قميص الحارس بشكل لا يلاحظه إلا من يدقق. بوفون كتب «boia chi molla»، أي «الموت للجبناء».

مقولة تبدو عادية لمن لا يعلم، ولكنها حساسة بالنسبة للفئة نفسها، الجالية اليهودية مرة أخرى!

كانت هذه الجملة الشعار الأساسي للمؤيدين للحاكم الفاشي بينتو موسولوني، وهم ينتمون بالتبعية للنازيين الجدد الذين أرادوا إحياء أفكار الفاشية الإيطالية مرة أخرى. لا تزال بعض المجموعات المتطرفة تستخدمها في تحركاتها حتى يومنا هذا.

نعرف جميعًا أن كثيرًا من الشباب يستخدمون بعض “التقاليع” دون الإلمام بالخلفية التاريخية لبعض القمصان أو الشعارات، ولكن من أطلق نيران النقد صوب بوفون وقتها لم يكن ذلك مقنعًا له ويتساءل: «هل من الطبيعي أن الشخص الذي يستخدم هذه الجملة يضع هذا الرقم تحديدًا بعدها؟»

تم تصعيد الأمر للبرلمان الإيطالي، وطالبه برلمانيون وسياسيون وقادة لليهود أن يغير هذا الرقم فورًا.

رأى «كاليستو تانسي» رئيس بارما آنذاك أن كثرة الحديث في هذا الأمر هراء ومضيعة للوقت. أما بوفون فكان مضطرًّا للتوضيح أكثر.

لطالما شعرت بألم للمحرقة التي حدثت لليهود، كنت مشمئزًا. أشعر بالغباء لاختياري هذا الرقم، لذلك فإني مستعد لتغييره.
بوفون في تصريحاته لصحيفة الجارديان.

ماريا ستيلا بوفون، وهي والدة بوفون نادرة الظهور الإعلامي، بالرغم من كونها لاعبة كرة طائرة سابقة فإنها ظهرت في هذه القضية للدفاع عن نجلها والتأكيد على صدقه.

هل يقصد بوفون؟

بالتأكيد هناك بعض الأمور التي تدور في رأسك الآن تتعلق بنظرية المؤامرة. ما بين احتمالية الصدق والمبالغة في صناعة حدث ربما يؤمن بعض الأطراف فيها أن العالم كله ضدهم.

في الأوساط الإيطالية هناك من يؤمن أن بوفون لم يقصد شيئًا، وأن حاله كحال أغلب لاعبي كرة القدم لا يقصدون كل ما يفعلونه. لكن هناك من يؤمن أن بوفون كان مخادعًا ويدعي البلاهة، وأنه حقق هدفه ببعض الرسائل المثيرة، وقد أتم مهمته بالفعل.

إن كانت الإجابة نعم، فبالطبع لن يكشف بوفون عن ذلك أبدًا. فالعقوبات في مثل هذه الأمور صارمة وتصل إلى السجن، ولكن أصحاب نظرية المؤامرة يؤمنون أن بوفون مخادع بِناءً على تاريخه في مثل هذه الأمور.

تزوير شهادة تعليمية

في العام نفسه، كان بوفون مُهددًا بعقوبة سجن تصل إلى 4 سنوات بعد ثبوت التزوير في شهادة الثانوية للمحاسبة، وقد اعترف بوفون بما فعله، وتم تخفيف الحكم إلى غرامة مالية.

كشف بوفون أنه كان يتمنى دراسة القانون؛ لذلك اتجه لهذا الطريق الذي شعر بالندم بأنه سار فيه. وبالرغم من أن الحارس الإيطالي ليس لديه أي تاريخ سلبي في الملاعب وعُرف عنه الالتزام الدائم، فإن عام 2000 كان مليئًا بإثارة الجدل خارج الملعب.

من يريد أن تكون النتيجة إدانة بوفون في قضية النازية، يستخدم قضية ثانوية المحاسبة ضده، ولكن الإجابة القاطعة لن تراها إلا من بوفون نفسه، وهي لن تحدث أبدًا.

عاد بوفون إلى بارما في محطته الأخيرة قبل الاعتزال، لعب في دوري الدرجة الثانية بعيدًا عن الأضواء مرتديًا القميص رقم 1 في هدوء. فالحارس صاحب الشعر الطويل أو الملون قبل 23 عامًا، يظهر بعض الشعر الأبيض على رأسه ولحيته، كان رمزًا لحراسة المرمى طوال تاريخه وصُنف الأفضل على الإطلاق في مركزه، لم يكرهه أي منافس، ولكن كرهه آخرون بعيدًا عن كرة القدم.