يعيش المغرب على وقع استحقاقات تشريعية فاصلة في تاريخه المعاصر وهي العاشرة منذ 1963م، حيثُ نُظِّمَت سِتٌّ منها على عهد الحسن الثاني (63، 70، 77، 84، 93، 97)، وأربعةٌ لاحقة في عهد الملك محمد السادس (2002، 2007، 2011)، وانتخابات 2016م التي تشهد متابعة واسعة من الدَّاخل والخارج نَـظرا للرهان الكبير المُنتَظَر منها إذ تأتي بَعد ستّ سنوات من اندلاع ثورات الربيع الدِّيمقراطي العربي، وخمس سنوات مِن تصدّر حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية لحكومة ائتلافية، ولإثباتِ قُدرة خيار الإصلاح في ظلّ الاستـقرار على الاستمرار، بعدما تمكّن من انتزاع الامتياز في منطقة متوتّـرة وحكومات مُنقَلَب عليها غَصْباً أو منسحبة اضطراراً.

وإنّ تتبّعَ تتالي الأحداث والتغيّرات وطبيعة الاشتغال السِّياسي والحكومي في الخمس سنوات المنصرمة وما رافقها من عُسْر الحَسم مع مجموعة من المِلفّات والقضايا، وبُروز مظاهر انْشداد أطراف في الدّولة إلى زمن ما قَبل الوثيقة الدستورية لسنة 2011م ودَعمها المتعدّد الأوجه لحزب البؤس واستثمارها في نوعية قادة أحزاب المعارَضة، وسَعي هته الأخيرة (قبل أن يفُكَّ حزب الاستقلال الارتهان بها) إلى تشكيل حِلف لمواجهة ما تُطلِق عليه (الأصولية السياسية) وخَوض معركة غير شريفة ضدّ العدالة والتنمية والقوى الدِّيمقراطية الحيّة في البلد؛ لَـــيَجعل مِن مَحطّة الانتخابات التّشريعية الجارية لحظة نِزال انتخابي ساخِن من جِهة، ويضع الوطن والوطنية المغربية أمام امتحانٍ عسير.


القُطبية الحزبية ورهانات 7 أكتوبر

اختزال المعركة الانتخابية في قطبية حزبية وتكثيف الحديث عنها بين الفاعلين السياسيين في الإعلام، ووضع المواطنين أمام ثُنائية حدّية ليس بالحَدث السارّ ولا الطبيعي

تتداخل العناصر وتتراكَب لتُشكّل صورة غير سليمة للمشهد الحزبي المغربي في الاستحقاقات الانتخابية الحالية مُختَزَلاً في قُطبية حزبية تَضيع معها البدائل والخيارات المجتمعية لاختيار قوّة حزبية كُفئة وأمينة لقيادة مغرب الإصلاح في ظلّ الاستقرار ولتُحافظ وتُطوّر المكتسبات الدستورية والديمقراطية والاجتماعية. فرغم وجود 27 حزباً ولائحتين بدون انتماء سياسي تُنافِس في النّزال الانتخابي؛ إلّا أن استمرار منهجية التعبئة المادية والمعنوية والإعلامية والانحياز السافر لحزب السلطوية وزرع رئة اصطناعية له ليتنفّس أكثر فيتمدّد في المدن التي سُلِبَت منه بعد 4 سبتمبر/أيلول 2015م ويحرُث ما تبقّى من البوادي والأرياف، وليُعيد الواقفون من وراءه إنتاج نموذج «فِيديكي» جديد يُفاجِأُ المغاربة كما حصل وأنْ حَدث عقِب الانتخابات التشريعية لسنة 1963م.

إنَّ الذين عملوا طيلة سنواتٍ على خَلْق تَعدّدية سياسية وأغرقوا البلاد بعددٍ من الأحزاب الضّعيفة والفاقدة للاستقلالية والـمُنبتَّة عن نبض المغاربة وروح الشعب، ليُضعِفوا الأحزاب الوطنية تارةً، وليُبلْقِنوا المشهد النّيابي تارة أخرى، هُم أولاءِ مواصلون لعملية تشذيب وتذويب الأحزاب الكبيرة وتقطيع أوصالها بتنصيب زَعامات وقيادات بفِعْل الأَمْر، أساءت إلى معنى وروح المعارضة وأساءت إلى تاريخ حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وورّطته في تَحالُفية سُلطوية كَيْدية، أفقدتهم الرصيد النضالي والسياسي الذي راكموه، وأبعَدتهم عن الشعب.

فمنذ 2008م والمتابعون من مختلف الحساسيات والإعلام والحركات الوطنية يُشاهدون فُصول مُسلسل تَسمين وتقوية حزب الأصالة والمعاصَرة، كما يُشاهدون اليوم اصطفاف الداخلية وجزء من النقابات الفاقدة للاستقلالية والإعلام المرتزِق لتحويل الأصالة والمعاصرة إلى «قُطب حزبي» في مواجهة العدالة والتنمية، ولتقديمه كياناً حزبيا بديلاً للعدالة والتنمية في الحكومة القادمة، في خُطوةٍ غير محسوبة العواقِب تستهدف تجربة الانتقال الدِّيمقراطي بالمغرب، وتُناشِزُ تحوّلات المجتمع وقواه المُعتَبَرة التي يعرفها بعد الربيع العربي؛ وتَضادُّ رَغبة ملايين المواطنين التي عبَّرت عن خيارها وصوّتت لمن ارتضته والتي لا تزالُ تعبِّر عن اختياراتها الديمقراطية والاجتماعية – السياسية في الحملة الانتخابية الجارية.

إنّ الصورة الحالية للنّزال الانتخابي تُبين عن وجود قُطبية حزبية لكنها غير متكافئة، إحداها (مُصَنَّعَة، مدعومَة، فاشلة في إقناع النّاس وتحشيد الجماهير، نزّاعةٌ إلى ممارسات غارقة في العَتاقة والتّخلُّف والفساد، مُضِرَّة بالوطن..) يُمثِّلها حزب الأصالة والمعاصرة، وأخرى (مُستقِلّة، قوية ومنظّمة، جماهيرية الامتداد، ميّالةٌ لممارسة حملة انتخابية نزيهة ونظيفة ومحتَرِفة ومُعَصْرنَة، مقبُولة شعبيا، أُفقها الإصلاح العام..) ويُمثِّلها حزب العدالة والتنمية. وخلْف الصورة يتوارى 25 حزباً بالكاد يستطيع «التقدّم والاشتراكية» و«الاستقلال» و«الاتحاد الاشتراكي» و«فدرالية اليسار الدّيمقراطي» تنظيم مهرجانات محتشِمة ومسيرات متواضعة وحملة انتخابية أثرها الواقعي والإعلامي باهت خافِت.

فاختزال المعركة الانتخابية في قطبية حزبية وتكثيف الحديث عنها بين الفاعلين السياسيين وفي الإعلام والصحافة، ووضع المواطنين أمام ثُنائية حدّية ليس بالحَدث السارّ ولا الطبيعي، فإنْ كنا ولا بُدّ مضطرين لوجود قطبية حزبية فلنْختر ذلك طواعية على النمط الأمريكي دونما إتعاب أنفسنا ومؤسساتنا في الترخيص لــ 30 حزبا، ووضْع الناس أمام متاهات الاختيار.


مهرجانات حزب العدالة والتنمية والالتحام الشعبي

يُقدّم حـزب العدالة والتنمية نفسه باعتباره حزبا سياسيا وطنيا، وتَجمُّعا إصلاحيا معتدلاً ومُناضِلا، بمرجعية إسلامية ورسالة تنموية وأفُق ديمقراطي ومَنهج مُرتَكِز على الالتزام والشّفافية والتّدرُّج والتّعاون على الخير مع الغير، ومُساهِم في خِدمة المصالح العُليا للوطن والمواطِنين، حَريصٌ على الاستقرار، أمينٌ على إنجاز الإصلاح، ولا يألُ قادته جُهدا في تعزيز موقع الحزب في المشهد السياسي ولدى المواطنين وباقي الفرقاء الذين راقبوه عن قُرب وعملوا معه طيلة خمس سنوات مِن ترأُّسه وقيادته للحكومة، وذلك من خلال تأطير التجمّعات الجماهيرية وقيادة المسيرات والحملات التواصلية في البوادي والمُدن.إلاّ أنّ مهرجانات زعيم الحزب الأستاذ «عبد الإله بنكيران» تبقى اللحظات الأبرز والأعلى اهتماما ومتابعة في الحملة الانتخابية الحالية.

إنّ الجولات المكّوكية التي يقوم بها قائد العدالة والتنمية من وسط المغرب إلى شماله، ومن غربه إلى جنوبه، وتأطيره لمهرجانات أضحت مَيْسَماً فارِقاً بين قوّة العدالة والتنمية وامتداده الشعبي وبين خُصومه. فمِن المهرجان الافتتاحي بالرباط، مُرورا بمهرجانات نُظِّمت في كلٍّ (من مراكش، العرائش، تطوان، تارودنت، المحمدية، طنجة، سلا) وغيرها؛ يُجدّد بنكيران وهَج الحزب وتَأَلُّق خطابه وأخلاقه وفعاليته التَّنظيمية، ويُعطي لمصداقيته ومنهجه وخياره الإصلاحي إشعاعاً جماهيريا يُعيد تصحيح صورة المجتمع عن السياسة والزّعماء السياسيين ويُصالح الشَّعب مع الانتخابات.

فرغم كلّ الضّربات والاستفزازات ومحاولات الاستدراج التي تَعرّض لها الحزب وزعيمه طيلة فترة قيادة الحكومة، ورغم مَساعي الخصوم لشيطنة الحزب وترهيب الناس منه وتبخيس إنجازاته ودوره التاريخي أثناء وبَعد 2011م؛ إلا أنَّ مهرجانات بن كيران تشهد التفافاً وحضوراً شعبيا ومتابعة إعلامية وسياسية واجتماعية منقطعة النّظير، الأمـر الذي يُعطي الانطباع بِكَون العدالة والتنمية قد حَسَم الانتصار، وأنّ نتائج السابع من أكتوبر تبدو واضحة إنْ لم تكن هناك مكيدة تزوير النتائج.

لكن وفي نفس الوقت تبدو الحملة الانتخابية للحزب متجاوِزة وصف (الصراع الانتخابي) إلى (وصف الصراع السياسي)، لأنّ حزب العدالة والتنمية «كَسَر منطق اللُّعبة بعبقرية اجتهاده وصموده ونضاله» بتَعبير الأستاذ «مصطفى بوكرن»، ولامتياز الحزب بالواقعية السياسية والوطنية الصادقة، والمصداقية في الأداء، والديمقراطية الداخلية التي تجعله أقوى وأنجع الأحزاب الوطنية حالياً.

ولئن كانت مناورات السلطوية المتدثّرة بالإدارة تفعل الأفاعيل من أجل إقرار فِعلي للثنائية القُطبية، وتضْغط من خلال القُّياد والباشوات وأعوان السّلطة والإعلام البئيس في اتّجاه إرغام الناس على التّصويت للأصالة والمعاصَرة؛ وتُرهِب القوى الوطنية الديمقراطية والشّخصيات الاعتبارية المستقلّة حتّى يسحبوا تأييدهم للعدالة والتّنمية؛ فإنَّ كبرياء الشَّعب يلتحم مع خطّ الإصلاح ويواجه قُـفّاز السّلطة.


الرهانات.. قضيّة شَعب، ومصير وطن

إنّ الجولات المكّوكية التي يقوم بها قائد العدالة والتنمية، وتأطيره لمهرجانات أضحت مَيْسَماً فارِقاً بين قوّة العدالة والتنمية وامتداده الشعبي وبين خُصومه

إنَّ طبيعة الامتحان العسير الذي يمرُّ منه المغرب، ورهانات يوم الاقتراع وإفرازاته، وقضايا واحتياجات البلد والمواطنين التي تفرِض نفسَها؛ ليس في وُسع حزبٍ أو حكومة ائتلافية القيام بها، مهما توفّرت الظّروف والطَّرائق والإمكانات المادية والمعنوية، لذا أضحى لزاماً ولزوماً التفكير اجتماعيا وشُموليا وسياسيا فيما سنُقدِم عليه يوم 7 أكتوبر 2016م، وتوجيه هذا التَّفكير لخدمة الواجب وإصلاح الواقع والنُّهوض بالأمّــة المغربية، وإدامة الأمن والاستقرار واطّراد ديناميات الدَّمَقْرَطة والإصلاح.

فالوطن في حاجةٍ إلى يَساريّيه وإسلاميِّيه وعَلمانيِّيه وأمازيغيِّيه وفنّانيهِ وشَبابه وعُقلائه على أرضية التنوّع والاختلاف، وبِقصْد الدُّخول في التَّوافقات والتّسويات الكُبرى بما يحمي الوطن والمواطِن من جُنون الـتّحكّم والاستبداد الذي سيتحوّل _لا قدّر الله_ إلى عائق ضدّ إمكانية تحسُّن أوضاعنا وانتقالنا إلى مرتبة تليق بمكانتنا وشَعبنا وسُمعة بلادنا. وتبقى هته الانتخابات مصيرية، ويبقى وطيس المعركة حاسما لكونها تتموقَع بين العهد الجديد وما بعد الدُّستور الجديد والعهد المجهول الذي تُريد قوى النُّكوص والانقلابات على الخيارت إدخالنا إليه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.