من الأساطير التي انهارت منذ السابع من أكتوبر الماضي، مفهوم إسرائيل الليبرالية، القيم التي تبناها قطاع كبير من اليسار خاصة خلال السنوات الأخيرة، هذه المجموعة التي ترفع عددًا من اللاءات تضرب صلب القضية الصهيونية وتشيع الفوضى في المجتمع، فهم ليسوا مستوطنين، ولا علاقة لهم بالتدين الإسرائيلي، وكذلك هم ليسوا جزءًا من الجمهور الأوسع وقناعاته، باختصار هم ليسوا من إسرائيل.

الاقتباس السابق هو مقدمة مقال لأكيفا بيجمان، أحد أبرز الصحفيين وكتَّاب الرأي في دولة الاحتلال، والمقال يلخص حالة الصراع في إسرائيل اليوم، التي وصلت إلى مستوى غير مسبوق في الانقسام المجتمعي بين مجموعتين متنازعتين تفصل بينهما فجوة أصبح لا يمكن ردمها.

المجموعة الأولى هي معسكر اليمين الجديد الذي يسيطر حاليًّا على التشكيل الحكومي ويضم تيارات مختلفة، الشعبويين والصهاينة القوميين والمتطرفين دينيًّا، أما المعسكر الثاني ويخص المعارضة، وفي القلب منها الليبراليون والوسط واليسار واليمين الدولتي، ولكل من المعسكرين رؤيته الخاصة لطبيعة الدولة.

منذ أحداث السابع من أكتوبر الماضي زادت النار اشتعالًا بين اليمين الجديد والمعارضة؛ إذ تعاظم تمترس حكومة نتنياهو والتيار الداعم له خلف روح الثأر والانتقام المفتوح من الفلسطينيين، والحشد من أجل حرب لا ينطفئ لهيبها قبل إعادة تشكيل الإقليم بأكمله على أسس تمنح الاحتلال اليد العليا في المنطقة، ويوسع هذا التحالف من صدامه مع المعارضة الإسرائيلية التي يتهمها بالفشل في فهم الصهيونية الحقيقية، ويقلل من أدواتها وآلياتها للفوز في معركة البقاء.

بينما تتهم المعارضة اليمين الجديد بتدمير الصهيونية وأخذهم إلى حافة الهاوية، وتحويل إسرائيل من دولة ديمقراطية إلى ديكتاتورية متخلفة، بسبب محاولات إعادة بناء المشروع الصهيوني على أسس جديدة تستبدل بالصهيونية العلمانية الإسرائيلية ذات الجذور الليبرالية الناعمة نوعًا آخر من الصهيونية، يستند على القومية اليهودية، والقيم شديدة المحافظة والتطرف، وعقيدة التفوق اليهودي، والحقوق الحصرية لليهود.

يستخدم اليمين الجديد وأنصاره من الباحثين والصحفيين والمؤثرين على مواقع التواصل الاحتجاجات العالمية المتزايدة ضد المجازر الوحشية في قطاع غزة، والمظاهرات الشرسة في الغرب، والمضايقات التي يتعرض لها الطلاب والأساتذة الصهاينة في الجامعات الأمريكية والغربية، ووصلت حد الضرب والنبذ، لتعزيز ضرباته للمعارضة بصفة عامة، وللسردية الليبرالية الإسرائيلية التي يدخل معها في صراع مع نوع خاص لأسباب عدة، على رأسها ارتباطها بعلاقات عضوية مع الغرب، بما يجعلها مندوبًا له داخل إسرائيل، وليس العكس.

من الخلف: أي تاريخ لليبرالية في إسرائيل؟

الليبرالية في إسرائيل، كما هو الحال في كل بلدان العالم، ليست منهجًا واحدًا، ولكنها في دولة الاحتلال ارتكزت تاريخيًّا على تسويق عدة مبادئ وانطلقت منها: الفردانية، وهي جوهر الفكرة الليبرالية، وتعني علاقة الفرد بالدولة، وكيفية تمكينه من أقصى حريات ممكنة، وحماية مصالحه وكرامته من تغول سلطة الدولة، بجانب ترسيخ مجتمع الحقوق، العقلانية، دولة القانون، المساواة بين الجميع.

لعبت الليبرالية دورًا مركزيًّا في إسرائيل منذ تأسيسها، وساهم الاستعمار البريطاني في تعميق المنطق الليبرالي لدى الأجيال الأولى في إسرائيل ومؤسسات الحكم فيها، وخاصة فقهاء القانون، فالقانون الإنجليزي الذي فرضه الاستعمار في فلسطين جسد القيم الليبرالية في شكل تعامله مع مجتمع المستوطنين اليهود.

من منابع الثقافة الليبرالية الإنجليزية تشكلت هوية المؤسسات القانونية الكبرى في دولة الاحتلال، ومنها المحكمة العليا التي يقاتل جناح نتنياهو للتخلص من قيودها، ويريد تحجيمها بأي طريقة كانت.

ويجادل كثير من أنصار الليبرالية في إسرائيل الآن، أن تيودور هرتزل، العقل المدبر للصهيونية السياسية، وضع بذور الكيان الإسرائيلي على أسس قريبة من الفكر الليبرالي: دولة يهودية يتمتع فيها الجميع بحقوق فردية متساوية، وترفض إقحام الحاخامات أو أفكارهم في إدارة مؤسسات الحكم والدولة.

كما يستندون إلى نفس المنطلقات في هجومهم على بنيامين نتنياهو، رئيس الوزارء الحالي، وأهم حلفائه في التشكيل الحكومي، مثل إيتمار بن غفير وبنزي جوبشتاين، الذين يقدمون أنفسهم كمدافعين عن الصهيونية، ويرفعون شعار الإصلاح القانوني للسيطرة على المحكمة العليا، ولهذا يصفهم الليبراليون بالتطرف وعدم الوعي بأسس بناء الدولة.

الخلطة الليبرالية داخل الأحزاب الإسرائيلية

انخرط الليبراليون داخل  العديد من الأحزاب السياسية الكبرى في إسرائيل، وحصلوا على دعم شعبي كبير، إذ كان الليبراليون المحافظون من أهم الأعضاء المؤسسين لحزب الليكود – الحزب القومي المحافظ الرئيسي في البلاد –  بينما اندمج الليبراليون الاجتماعيون والمستقلون في حزب العمل الديمقراطي الاشتراكي، والذي أصبح في وقت لاحق ليبراليًّا، يناهض رجال الدين، ويؤيد السوق الحر، ومجتمع الحقوق والحريات الفردية.

ودخل على خط القيم نفسها حزب كاديما، الذي اتخذ منطلقات ليبرالية، رغم ضمه أعضاءً من يسار ويمين الوسط، واليمين الصرف، وهناك أيضًا الحزب الليبرالي، وحزب شينوي الذي ينطلق من رؤية كلاسيكية تعادي رجال الدين بشكل متشدد، بجانب أحزاب أخرى تنخرط فيما يعرف بالصهيونية الليبرالية مثل ويش اتيد وهوزن. 

والصهيونية الليبرالية تيار يحاول تخليق حالة وسط تجعل من إسرائيل دولة لجميع مواطنيها، لا هي يهودية ديمقراطية، ولا هي دولة ليبرالية بصبغة علمانية لائكية شديدة العداء للدين، فالصهوينة الليبرالية مجرد جسر وليست جزيرة منعزلة.

ويعتبر أنصار الصهيونية الليبرالية أيضًا أن المسار اليميني لإسرائيل قد يدمر القشرة الليبرالية التي تربطهم بالحداثة، فالقيم الليبرالية هي نتاج فكر التنوير وانتصار الفرد المتحرر، وهذا ما يميز العالم الغربي المتفوق حضاريًّا والذي تعد إسرائيل جزءًا منه، ولا ينبغي التنازل عن ذلك.

مواجهة اليمين الجديد والليبرالية

يطالب الليبراليون منذ سنوات بضرورة أن تعود إسرائيل إلى مكانتها بين تروس العالم الليبرالي، حتى تبقى في هذه الحاضنة الضخمة، تنعم بحمايتها من جهة، وتستظل بمنظومتها القيمية والفلسفية من جهة أخرى، بما يسمح لها بإعادة ضبط بوصلة المجتمع اليهودي بعيدًا عن هيستيريا التطرف وجنون الصهيونية الدينية.

وخلال الاحتجاجات الأخيرة أظهروا قدرة كبيرة على التنظيم والحشد ضد ما سمي بالإصلاح القانوني، ورفضوا محاولات نتنياهو وتشكيله الحكومي فرض تصوراتهم على المحكمة العليا عبر تمرير قانون أثار الجدل بشدة في إسرائيل، حيث يقيد قدرة المحكمة على إبطال الإجراءات الحكومية التي تعتبرها «غير معقولة».

دعوات الليبراليين ضمن جهود المعارضة وجدت صدًى عند الآلاف من الإسرائيليين الذين نزلوا إلى الشوارع خارج المحكمة العليا كجزء من حركة الاحتجاج المستمرة منذ أشهر ضد الإصلاحات، لإظهار الدعم للقضاة، وسار بعض المتظاهرين في وقت لاحق إلى المقر الرسمي لرئيس الوزراء في القدس لإعلان الاحتجاج من أمامه.

في المقابل، رفض اليمين الجديد تقديم أي تنازلات جوهرية في قضية الإصلاح القضائي، وهاجم بعنف أي مطالب لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، مع أن الحل الليبرالي أيضًا لا يتضمن إلا كل ما يشكل قيودًا مشددة على السيادة الفلسطينية.

ومع ذلك مجرد الاختلاف في الخطاب واتباع الحركة الليبرالية «تكتيكات حقوقية» تتناسب مع العقل الغربي، يمثل أسلوبًا بغيضًا لا يناسب التحالف الحاكم، الذي يعتبر مثل هذه الآراء انبطاحًا للغرب، وليست أكثر من هذيان لمجموعة من الناس عديمي الشرف، فالليبراليون مهما فعلوا لصالح إسرائيل غرباء عن اليهودية ولا ينتمون لها، وفي الممارسة العملية مستعدون لتشويه سمعة بلادهم، وخاصة في الولايات المتحدة، كما يقول بيجمان في مقاله.

ويؤمن اليمين الجديد أن أفكار وأهداف هذا التيار تنبع من قيم الليبرالية وليس اليهودية، وأن دوافعم للتغيير في الواقع الإسرائيلي تنطلق بشكل أساسي من الاهتمام بالليبرالية العالمية وليس اليهودية، ووفق نفس  المنطق هذا الفكر المدسوس على المجتمع اليهودي لا يعرف شيئًا عن مجتمع قومي تقليدي ديني، يعتبر الالتزام باليهودية أساس هويته، بل أساس التعريف الدستوري لإسرائيل.

اختبارات القيم الليبرالية في السياق الإسرائيلي

تعرضت القيم الليبرالية للعديد من الاختبارات في الواقع الإسرائيلي، لكن الاختبار الأكبر الذي واجهته هو كيفية استيعاب عرب 48 الذين بقوا في قراهم وبلداتهم بعد أن سيطرت إسرائيل على الأقاليم التي يعيشون بها، وتزايد عددهم خلال العقود الماضية، ويمثلون الآن نحو 21% من إجمالي سكان إسرائيل، أي ما يقترب من مليوني فلسطيني.

وفرضت إسرائيل حكمًا عسكريًّا على البلدات العربية حتى عام 1966، لكنها منحت هؤلاء العرب الجنسية الإسرائيلية والحق في التصويت بعد ذلك. 

بالطبع لم يكن الاحتلال قصة رومانسية كما جادل الليبراليون، بل كان استعمارًا استيطانيًّا، لكن الليبراليين لا يتهربون من مسئولية إسرائيل عن الأخطاء الكارثية التي تراكمت في حق عرب 48، ما أدى إلى عدم تصالح الأغلبية الكاسحة منهم مع وضعهم كأقلية في دولة قومية يهودية.

لكنهم يستشهدون في الوقت نفسه بالتمثيل السياسي الكامل الذي وصلت إليه الحالة العربية، ويعتبرونه من مكاسب تأسيس دولة الاحتلال على منطلقات وقيم ليبرالية بالمقارنة مع حكم العصابات الذي انتهت إليه على يد نتنياهو وأشياعه؛ إذ يوجد تحت قبة البرلمان الإسرائيلي تمثيل سياسي برلماني عربي ذي أجندة تتمحور حول العرب ومصالحهم.

دعم الليبراليون منهج المفاوضات والسعي إلى اتفاقيات سلام مع الدول العربية بعد حرب الأيام الستة – هزيمة يونيو 1967 – كما يؤيد الليبراليون الآن الانخراط في اتفاق مع الفلسطينيين بما يؤدي إلى إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالشروط التي تحفظ أمن إسرائيل، وهي نفس اللغة المستخدمة في القاموس السياسي والدبلوماسي الأمريكي والغربي.

يطرح أغلب الليبراليين مع معسكر اليسار خيارات حل متنوعة لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويؤيد الجزء الأكبر منهم حل الدولتين، وبعضهم يذهب إلى تفضيل خيارات أخرى مثل حل الدولة الديمقراطية الواحدة ثنائية القومية، بمعنى تأسيس دولة واحدة تقوم على نوع من النظام الفيدرالي الذي يستوعب شعبين – الإسرائيلي والفلسطيني – وتعترف هذه الدولة باحتياجات كل مجتمع خاصة في المسائل المتعلقة بالهوية الشخصية والوطنية والثقافة واللغة.

ويحذرون في الوقت نفسه من محاولات اليمين الجديد إضافة المزيد من الأعباء على كاهل الشعب الفلسطيني، ما يولد كراهية وغضبًا قد ينتهي إلى تدمير إسرائيل كدولة ديمقراطية، ولن يبقى لها إلا خيار الفاشية، وهذا أيضًا لن يجعلها تصمد كثيرًا، وسيكون التفكك والتحلل من نصيبها، سواء من الداخل أو الخارج.

السبعينيات: هكذا بدأ اليمين تعزيز سطوته

في سبعينيات القرن الماضي بدأت القيم الليبرالية الإسرائيلية في التآكل، تعرضت للتهديد والاختراق من قبل الجماعات الدينية، وأصبح القانون ساحة للصراع الثقافي والديني بين الأطياف المتصارعة، المتمسكين بليبرالية الكيان، مقابل أنصار القومية اليهودية.

ساعد في تصاعد شعبية اليمين التفافه حول عدد من القيم المركزية للصهيونية الدينية: تشجيع الاحتلال، بناء المزيد المستوطنات، تحجيم مجتمع حقوق الإنسان والحريات الفردية الصارمة، العداء للعرب. 

نشط الحاخامات أيضًا في دعاية مضادة للفكر الليبرالي – لا زالت مستمرة بنفس المنطق حتى الآن – وروج هؤلاء الصهاينة المتدينون لفكرة «الليبرالية ليست صالحة لإسرائيل»، فالأفكار التي قاسمها المشترك نبذ الدين، وتعزيز قيمة المساواة في كل المجالات بين الأديان والجنسيات، والاندماج الثقافي، تمثل ما أطلقوا عليه «التهديد الليبرالي».

مع نهاية حقبة السبعينيات وتحديدًا عام 1977، نجحت الدعاية القومية والدينية بجانب عدة أسباب أخرى، وانتخب الإسرائيليون أول حكومة يمينية في البلاد بقيادة مناحم بيغن العضو المؤسس في منظمة الإرغون الصهيونية التي ارتكبت مجازر لا توصف بحق الفلسطينيين، وفي هذا التوقيت كان الشيوعيون السوفييت بجانب العرب ينشطون بقوة في جهود عزل إسرائيل وهدم ادعاءاتها الأخلاقية؛ بسبب استمرار الاحتلال وغياب السعي نحو تسوية مناسبة للقضية الفلسطينية، وضاعف هذا النشاط من عزل الليبرالية في المجتمع الإسرائيلي، وزاد نشاط الفكر القومي والديني لحماية الكيان العبري.

مع الوقت تعاظمت داخل إسرائيل الأفكار اليمينية بسبب جنوحها المتطرف نحو إعادة تعريف الحل الصهيوني، واستنساخ آليات تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا التي اعتمدت على إبادة أو ترحيل السكان المحليين باعتبارها شروطًا لنجاح الاستيطان، ولجأ اليمين في سبيل ذلك إلى التفسيرات الدينية والقومية شديدة العنف والتطرف.

هجوم 7 أكتوبر

لم يتوقف الصراع بين اليمين الجديد والليبرالية رغم الكارثة التي يعاني منها الاحتلال منذ 7 أكتوبر الماضي؛ إذ أصبحت الانتقادات اللاذعة التي يواجهها الجيش الإسرائيلي والمظاهرات شبه اليومية في أغلب المدن الغربية التي ترفض وتندد بالعدوان الممنهج على الأطفال والنساء والعزل، الوقود الذي يشعل الحرب بين الأطياف المتعارضة داخل إسرائيل.

يرى اليمين أن الليبرالية الإسرائيلية تحديدًا تروج للشارع مخدرات تقدمها في كبسولات قيمية، فالعالم الليبرالي الذي تحلم بالتملق له، بالنسبة لليمين وهم لا أساس له من الصحة، والدليل أنه أدار ظهره للدولة اليهودية في أزمة السابع من أكتوبر التي عرَّت قوة وقيم الكيان الصهيوني في آن واحد.  

ويستخدم اليمين الجديد المظاهرات الضخمة في شوارع الغرب التي زينتها الكوفيات والأعلام الفلسطينية، وانحياز عدد غير مسبوق من قادة الرأي في الصحف الغربية، بل في الأحزاب الحاكمة، ومؤسسات صناعة الحكم إلى جانب القضية والرواية الفلسطينية وتعاطفهم المتزايد مع المقاومة، حتى يقدم مادة لأنصاره للسخرية من الحركة الليبرالية ومعها جميع ألوان اليسار التي ما زالت تحاول استرضاء العالم الغربي باتباع نفس التكتيكات القديمة التي كانت تبرز وجهًا أخلاقيًّا للاحتلال، ولو لم تختلف على الأهداف الكبرى لإسرائيل، ورغبتها في الهيمنة وضمان أمن مواطنيها على حساب الحق الفلسطيني!