يعتبر الأدب بمختلف أنواعه وكذلك الفن مرآة تعكس ماضي ومستقبل وحاضر الشعوب، يرى فيها الناس إنجازاتهم وانكساراتهم، صعودهم وهبوطهم، واقعهم المأمول، أو مصيرهم المجهول، الأدب والسينما كلاهما معبران بشكل أو بآخر عن هذه الصورة الدراماتيكية، مهما اختلفت ثقافة الشعوب، حتى في أحلك الظروف، يجد الناس فيهما المتنفس الذي يبحثون فيه عن حقيقة غائبة، أو مبررات صادقة أو حتى كاذبة لحياتهم، وهذا الوضع موجود كذلك لدى الإسرائيليين، الذين لا يتعدى وجودهم الحديث بعد إقامة دولة الاحتلال 75 عامًا، لكنها كانت مليئة بالدراما والحروب، وتعتبر حرب أكتوبر هي أكبر المعارك التي خاضتها دولة الاحتلال في تاريخها القصير.

مثّلت حرب أكتوبر أو كما يسميها الإسرائيليون «حرب يوم كيبور» أو «حرب يوم الغفران» نقطة فارقة في حياتهم القصيرة، فقد كسّرت تلك الحرب صورة الجيش الذي لا يقهر، وحتى مع وجود أصوات ناشزة بأن إسرائيل كادت تحقق النصر، لكن الحقيقة ثابتة تاريخيًا وأدبيًا، واعترافات قادة الحرب أنفسهم من الجانب الإسرائيلي خير شهادة ودليل، والحديث هذه المرة عن السينما الإسرائيلية، وعن أهم شخصية في هذه الحرب، وهي رئيس وزراء إسرائيل حينها، غولدا مائير، والمسماة بــ «أم إسرائيل الحديثة»، وأحدث الأعمال التي تتحدث عن غولدا في الحرب هو فيلم  سينمائي يحمل اسمها وسوف يعرض بمناسبة الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973.

غولدا Golda (גולדה)

أذاعت إسرائيل يوم الرابع والعشرين من شهر آب/ أغسطس 2023 العرض الأول من فيلم غولدا أو كما يلفظ بالعبرية גולדה أو بالإنجليزية Golda بتكلفة 47 مليون شيكل إسرائيلي، وتحدث موقع جلوبس عن الفيلم الذي أخرجه الإسرائيلي، جاي ناتيف والحاصل على جائزة الأوسكار، وعكس الفيلم حالة التخبط التي عانت منها رئيسة وزراء إسرائيل حينها، غولدا مائير، ويبدأ أول المشاهد بشهادة غولدا أمام لجنة أغرانات، وتستعرض أحداث الحرب أمام اللجنة التي تحقق في أسباب الهزيمة، وبحسب موقع جلوبس، فإن هناك حالة من الانقسام حول شخصية غولدا والتي تجسدت في الفيلم، البعض يحملها مسؤولية الإخفاق والهزيمة، والبعض يراها لم تفشل مثل لجنة أغرانات نفسها التي حققت في الحرب، لكن غولدا تلقت انتقادات لاذعة أدت في النهاية إلى استقالتها من حزبها في إبريل/ نيسان 1974.

يعتبر فيلم غولدا أكبر من فكرة عمل سينمائي، فهو يمثل حقبة تاريخية مهمة في الصراع العربي الإسرائيلي، حيث خصص موقع مكور ريشون تقريرًا بعنوان: «القصص المجهولة عن المرأة الحديدية الإسرائيلية»، للكاتبة شيرال ديللر، حيث قالت في بداية مقالتها عن الفيلم: «الترقب للفيلم ليس كونه لمخرج إسرائيلي حصل على جائزة الأوسكار، بل لأنه يمثل الرغبة في التعرف على الحرب القاسية التي كادت أن تودي بإسرائيل إلى حافة الهاوية والانهيار، والمرأة «غولدا» التي حملت على عاتقها في حياتها ووفاتها مسؤولية الانتكاسة في تلك الحرب».

ووصفت الكاتبة الإسرائيلية رئيسة الوزراء في حرب أكتوبر بأنها إحدى أكثر الأشخاص إثارة للجدل في تاريخ إسرائيل، وأن الفيلم ما هو إلا إطار ضمن قصة حياة غولدا، التي صورتها الكاتبة بأنها شخصية مثيرة للاهتمام في تاريخ دولة الاحتلال، حيث إنها المرأة الوحيدة التي ترأست الحكومة الإسرائيلية، وتتخذ قرارات أمنية في ظل حكومة ذكورية وشوفينية، ورغم ذلك واجهت العديد من الانتقادات في حياتها ووفاتها، حيث يراها البعض شخصية قوية ومبهرة في المواقف العصيبة، والبعض يراها في صورة معاكسة تمامًا ومسؤولة عن هزيمة أكتوبر.

لذلك يركز الفيلم حول الشخصية التي انقسم حولها الإسرائيليون، ثم سلطت الكاتبة الإسرائيلية في مقالتها الضوء على حياة غولدا منذ ولادتها وحياتها الفقيرة إلى تفوقها الدراسي ثم نشاطها الاجتماعي، ثم خلافها مع والديها بسبب نشاطها الاجتماعي والسياسي وانفصالها عنهما ثم العودة إليهما وكلها عوامل أثرت في شخصية غولدا، وتستفيض الكاتبة بالحديث عن حياة غولدا وسيرتها الذاتية، حتى تولت المنصب في إسرائيل وهي مصابة بسرطان الدم الذي كان سببًا في وفاتها.

«الرصيف»: صراع بين قدسية الحياة والموت

شهد شهر أغسطس/ آب 2023 مولد عمل سينمائي آخر عن حرب أكتوبر، وهو فيلم «الرصيف» أو كما يلفظ بالعبرية «هاميزح» الذي يجسد المعاناة التي عاشها أفراد من الجيش الإسرائيلي إبان حرب أكتوبر حينما هاجمهم المصريون في الموقع، الذي يقع جنوب خط بارليف، وتدور الحبكة حول الصراع بين الحياة والموت وقدسيتهما، ويحاول الفيلم بشكل أو بآخر تقديم صورة تجسد شجاعة المقاتل الإسرائيلي وصموده رغم مفاجأة الهجوم المصري، لكن الجنود لم يصمدوا في تلك الحرب، ويجسد الفيلم المعاناة النفسية التي سببتها حرب أكتوبر للمقاتلين الإسرائيليين، وكيف فشلت القيادة في احتواء الموقف، وعدم السرعة في إرسال الدعم المطلوب للجنود في محل القتال، وبحسب صحيفة معاريف فقد قدم الفيلم صورة أخرى للمقاتل وهي الاستسلام في النهاية ورفع العلم الأبيض بعد المعاناة ويسلم نفسه كأسير للجانب المصري.

سلط فيلم الرصيف الضوء على دور الطبيب في الفيلم وكيف عانى وحاول إنقاذ الجنود وقت الحرب والمعركة، وكذلك دوره النفسي، حيث أصبح الجنود بين المعاناة النفسية التي سيلاقونها لو عادوا إلى إسرائيل من نبذ مجتمعي بسبب فشلهم، وكذلك بين حتمية الموت في أرض المعركة، وكلا الخيارين كان صعبًا، كبقية خيارات حرب يوم الغفران التي تركت آثارًا انهزامية ضخمة لدى الجيش الإسرائيلي بكافة أفراده، سواء القادة أو الجنود، حتى مع اتحاد الجميع سواء علمانيين أو أرثوكس وقت المعركة، لكن النهاية كانت مآساوية وهي الموت أو الأسر أو الهزيمة أو حتى العودة لمواجهة نظرات المجتمع الحادة، وبشكل عام يجسد الفيلم الإسرائيلي حالة الصدمة التي عاشها الجنود إبان المعركة.

أفلام كثيرة أخرى

جسدت السينما والتليفزيون الإسرائيلي في أعمال كثيرة المعاناة التي عاشها سكان دولة الاحتلال في فترات الحروب، بخاصة حرب أكتوبر، ومن الصعب حصر تلك الأعمال، لكن معظمها صور الحرب كأنها كابوس، وبالعودة إلى موقع edb المتخصص في عرض الأفلام والمسلسلات الإسرائيلية، تجد قرابة 30 عملًا إسرائيليًا متنوعًا بين المسلسلات والأفلام والتي جسدت المعاناة الإسرائيلية إبان الحرب، من ضمن هذه الأعمال، المسلسل «شاعت تنعيلاه» (وقت الإغلاق)، ويكشف الأيام الصعبة التي عاشها جنود الاحتلال في حرب أكتوبر، ومدى خوف المقاتلين من حتمية المواجهة ودمار منازلهم وعائلاتهم، وكذلك فشل القيادة السياسية الإسرائيلية في إدارة المعركة.

ومن ضمن الأعمال الإسرائيلية كذلك «شتيقات هاتسوفريم» (صمت الأبواق)، وعمل تليفزيوني إسرائيلي يتحدث عن الأسبوعين اللذين سبقا الحرب، عندما كان معظم قادة الأجهزة الأمنية على قناعة بأن فرص اندلاع حرب يوم الغفران ضئيلة.

ونجد العمل الإسرائيلي «تيئوم كفانوت» الذي يصف الفترة التي تلت حرب أكتوبر، ومعاناة الجندي حاييم دان شابيرا الذي فقد صديق طفولته في الحرب، حيث كان يرافقه في دبابته، ويكشف العمل مدى المعاناة التي خلفتها حرب أكتوبر على المقاتلين بعد الهزيمة التي تلقوها.

ويعتبر الحديث عن كافة الأعمال الإسرائيلية عن حرب أكتوبر أمرًا صعبًا، لكن يعتبر فيلم «كيبور» الذي تم إنتاجه عام 2000 من أهم الأعمال، وهو دراما حربية واقعية من تأليف عاموس جيتاي وشارك في مهرجان كان السينمائي عام 2000، وهو مستوحى من قصة حياة جيتاي في حرب أكتوبر، ويصور العمل مرافقة الجندي الشاب لصديقه ويحاولون العثور على وحدتهم القتالية، وبعدها انضما إلى وحدة الإنقاذ الجوي، ويظهر العمل المواقف الصعبة التي تعرض لها الصديقان في حرب يوم الغفران ومدى الرعب الذي سببته هذه المواجهة مع المصريين، وآثارها النفسية عليهم.

سينما وأدب الحرب العبري

بحكم دراستنا للأدب العبري وتخصصنا نجد أن الأدب بكافة أنواعه، والذي بالطبع تحولت الكثير من رواياته إلى أعمال سينمائية وتليفزيونية، مقسم إلى مراحل، فنجد على سبيل المثال، مرحلة الهسكالا، والتي تعني التنوير، وهي مرحلة أدبية تحدثت عن محاولة حث اليهود على الاندماج وسط المجتمعات التي عاشوا بين ظهرانيها، ويخرجون من الجيتوات اليهودية التي بنوها في روسيا والدول الغربية، ومحاولة التخلص من فكرة تفوق العرق السامي اليهودي عن أقرانه، ونجد تلك المرحلة غزيرة بالأعمال الأدبية والروائية فيها، وأشهر أدباء هذه المرحلة موشيه مندلسون ويهودا ليف جوردون صاحب شعار «كن يهوديًا في بيتك إنسانًا خارجه».

ومر الأدب العبري بمراحل عديدة منها مرحلة الإحياء الصهيوني في أوروبا، ويقول الدكتور زين العابدين محمود أبو خضرة في كتابه «الأدب العبري الحديث» إن هذه المرحلة أيقظت الفكر الصهيوني، وحولته من مجرد فكرة إلى واقع عملي يجب تنفيذه، ومر الأدب العبري بمراحل عديدة، لعل أهمها حديثًا، مرحلة ما قبل قيام الدولة وما بعدها، خاصة مرحلة البلماح وهي مرحلة ما قبل قيام الدولة مباشرة والسنوات الأولى لقيامها، ثم مرحلة ما بعد قيام الدولة، ويطلق عليها «جيل الدولة».

تحول قدر كبير من النتاج الأدبي العبري بعد قيام إسرائيل إلى أعمال متلفزة وسينمائية، ومعظمها عبر عن مشهدين أساسين، الأول عن صورة اليهودي المنتصر، خاصة بعد حرب الأيام الست أو كما يطلق عليها عربيًا «النكسة» وهي حرب الخامس من يونيو، فطفق الأدب والسينما الإسرائيلية والمسرح يعبرون عن قوة الشخصية والجندي والمقاتلين، وعلت نبرة العظمة والفخر والاعتزاز، ولكن تعتبر حرب أكتوبر الحد الزمني الفاصل بين تحول الأدب بكافة فنونه، حيث سبح الشعراء والأدباء والروائيون والفنانون بكتابة أعمالهم التي عبرت عن الخيبة والحسرة، والفشل الحربي، وكذلك الإخفاقات السياسية والآثار المجتمعية السيئة للحرب وما تلاها، حيث تكسرت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، كذلك العبارة التوراتية المشهورة «الأرض التي تفيض لبنًا وعسلًا» والتي استغلها أقطاب الصهيونية الأوائل لجذب اليهود وحثهم على الهجرة لفلسطين، وكلها شعارات تكسرت بعد حرب يوم الغفران، وهو ما عبرت عنه السينما.

يقول الباحث عبدالوهاب محمد الجبوري، في دراسة بعنوان «الحرب وانعكاساتها في الأدب العبري المعاصر»: «إن من يدرس الفكر اليهودي – الصهيوني وتاريخ الاستيطان اليهودي في فلسطين ومراحل الصراع العربي الإسرائيلي يدرك للوهلة الأولى أن الحروب هي بمثابة أسطورة مغلقة تدخل في إطار البنية العامة لهذا الفكر»، ويضيف: «الحرب هي الموضوع الرئيس لأدب الجيل الشاب والتجربة المركزية في حياته، فلا تكاد تكون هناك قصة أو قصيدة أو مسرحية لا تتناول، ولو حتى بصورة غير مباشرة، تجربة الحرب أو المغامرات البطولية في القتال»، ويقول الجبوري أيضًا: «أدرك الإسرائيليون فداحة الثمن الذي دفعوه في هذه حرب 1973 من الضحايا والآثار التي ترتبت عليها بالنسبة للكثير من قضايا الوجود اليهودي، إن الحرب بقدر ما هي مفيدة للوجود اليهودي من نواحٍ كثيرة، فإنها أيضًا سبب من أسباب الدمار في نواحٍ كثيرة».

تجدر الإشارة إلى أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية سمحت بالانتقاد في الأعمال السينمائية لترسيخ فكرة الدولة الديمقراطية، وحتى تكون الأعمال الفنية تحت سيطرتها، ومراجعتها، حتى أنها سمحت بمزيد من الانتقاد للجيش، ولا يخلو الأمر من تصفية حسابات أو إعلاء لتوجهات داخل إسرائيل بسبب الصراع الحالي بين كافة التوجهات اليمينية واليسارية التي لا تخلو مؤسسة داخل دولة الاحتلال منها، سواء في السياسة أو في جهات أمنية متعددة.