لست متابعًا جيدًا للأولمبياد، لكن هناك بعض اللحظات التي لا يمكنها أن تفارق الأذهان أبدًا، لحظاتٌ لا تنسى من الحلم، يعيشها العديد من الأبطال ويتم تخليدها في ذاكرة الأولمبياد، ربما أكثر من أسماء باقي الأبطال أو من حققوا إنجازات أكبر من غيرهم، وربما لأن الرياضة تثبت لنا بأنها ليست مجرد تسلية، أو إنجازات وأموال فقط، وإنما حلم وحياة للبعض.


ديريك ريدموند: حين تتغلب الشجاعة على الألم

على الرغم من أن هذه اللحظة لم تكن في أولمبياد ريو دي جانيرو الحالية كبقية اللحظات التي سأذكرها في هذا المقال، إلا أن الحديث عن أي لحظات لا تنسى لا يجب أن يمر دون ذكر هذه الحادثة.

أولمبياد برشلونة عام 1992، العدّاء البريطاني ديريك ريدموند يخوض سباق الـ 400 متر، وفجأة أثناء السباق يشعر بألم في قدمه، وينزل المسعفون إليه لعلاجه،لكنه يبعدهم ويقرر أن يكمل السباق رغم الإصابة.

ينزل والده إلى الملعب ويبعد رجال الأمن، ثم يذهب مباشرة إلى ابنه ليتحدث معه، وعندما وجد منه الإصرار على المتابعة قرر أن يسير معه حتى خط النهاية.

لكن بسبب مساعدة والده له، فإنه تم تسجيل مشاركة ريدموند على أنه لم يتمكن من إكمال السباق، لكن هذا لم يمنع الحضور الذين بلغ عددهم 65 ألف متفرج من الوقوف والتصفيق له وتحيته على هذه الشجاعة.

تم تناول كفاح ريدموند في واحدة من فيديوهات الحملة الدعائية التي تم عملها عن الأولمبياد فيما بعد والتي كانت للاحتفال بالإنسانية.

حيث تم عرض فيديو فيه الحادثة، ومن ثم كان التعليق عليه: “القوة يمكن قياسها بالكليوجرامات، السرعة يمكن قياسها بالثواني، الشجاعة؟ لا يمكنك أن تقيس الشجاعة”.

والحقيقة أن ريدموند تمكن فعلًا من أن يهزم الألم في هذه الحادثة، ونجحت شجاعته في الانتصار ليخلد لحظة من أعظم اللحظات في تاريخ الأولمبياد.


يسري مارديني: بطلة تتحدى الموت

شاركت يسرى مارديني في أولمبياد ريو دي جانيرو ضمن فريق اللاجئين الذي يتكون من 10 لاعبين، هذا الفريق الذي قررت اللجنة تكوينه لتمنح الفرصة لهؤلاء اللاجئين للمشاركة وتحقيق أحلامهم بعيدًا عن الحرب والعنف.

لكن ليس هذا فقط المميز في قصة يسرى مارديني، بل إن القصة بدأت منذ عام عندما فرت يسرى مع أهلها من سوريا، كاد القارب الذي هربوا فيه أن يغرق؛ مما دفع يسرى ومعها أختها الأكبر منها سنًا إلى السباحة ودفع القارب لمدة تزيد على الثلاث ساعات؛ لينجحن في إنقاذ حياة 20 فردًا على القارب، وكانت يسرى تبلغ في هذا الوقت 17 عامًا فقط.

لم يكن من المفترض أن تشارك يسرى في هذه الأولمبياد، لكن مجهودها الذي بذلته في التدريبات منحها فرصة المشاركة. وعلى الرغم من أنها لم تحقق النجاح، لكنها تعرف بأنه يكفيها المشاركة هذا العام، وتأمل أن تحقق النجاح الفعلي في أولمبياد طوكيو 2020.

ما فعلته يسرى كانت لحظة لا تنسى في حياتها بالتأكيد، وأيضًا جعلت من مشاركتها في الأولمبياد رسالة إلى الجميع بأن الأمل والطموح يمكنهما التواجد في أي وقت، وأن الرياضة يمكنها أن تقهر العنف، والحلم يمكنه أن ينتصر على الحرب.


أوسكار ألبيرتو فيغيروا موسكيرا: الذهبية ثم البكاء والاعتزال

لعل هذه واحدة من أكثر اللحظات العاطفية في أولمبياد ريو دي جانيرو، فبعد نجاح الكولومبي أوسكار في تحقيق الميدالية الذهبية لوزن 69 كجم، جلس أوسكار على الأرض وأخذ يبكي، وفي النهاية أعلن عن اعتزاله بخلع حذائه.

جدير بالذكر أن أوسكار انتظر هذه اللحظة لمدة 22 عامًا، وفي النهاية نجح في تحقيق الحلم، ومع الدموع التي نزلت منه أخذ الحشد الكولومبي يصفق له كثيرًا؛ تعبيرًا عن فخرهم وفرحتهم بهذا الإنجاز ليمنحوا لنا لحظة عظيمة جدًا في الأولمبياد.


التلميذ يغلب أستاذه

في عام 2008 التقى السنغافوري جوزيف مع أسطورة السباحة مايكل فيلبس، وكانت هذه فرصة جيدة له ليلتقط صورة معه، وبعد هذا اللقاء علق جوزيف “مايكل فيلبس هو مثلي الأعلى، ولكنني أريد أن أصنع مسيرتي الخاصة”.

ونجح جوزيف في تحقيق الحلم بعد 8 سنوات ليحقق الميدالية الذهبية، ويصادف أن يكون صاحب المركز الثاني هو مايكل فيلبس.

ليبعث جوزيف برسالة هامة إلى الجميع، قد يكون لك شخص تقتدي به في حياتك، لكنك بالتأكيد تتمنى أن تصير الأفضل دائمًا، وأن طموحك لا يجب أن يتوقف عند شخص بعينه أو رغبتك في أن تصير مثل شخص ما، إنما يجب أن يكون تركيزك دائمًا على حصد الجوائز، وتكون صورة جوزيف بجانب فيلبس هي واحدة من قصص ملهمة للعديد من الأفراد في عالم الرياضة اليوم.


سويًا إلى النهاية!

لم يكن سهلًا على النيوزلندية نيكي هامبلين التضحية بالمنافسة في هذا السباق، لكنها عندما وجدت زميلتها الأمريكية آبي داغوستينو ملقاة على الأرض من الألم، لم تتمكن من متابعة السباق، لكي تعطي يد العون لزميلتها.

هذا المشهد الذي حدث في ثوانٍ قليلة لتأخذ فيه نيكي القرار، كان كافيًا ليبعث رسالة لنا عن أهمية الأخلاق، أو كما قالت نيكي نفسها “في بعض الأحيان، أعتقد أنك يجب أن تتذكر بأن تكون إنسانًا جيدًا، وأن هذا أهم من أي شيء. أنت تعلم، إذا لم أنتظرها أو أحاول مساعدتها كنت ربما لأكون أسرع ب ـ10 ثوانٍ، لكن ما أهمية ذلك؟”.


الرياضة توحّد

كتبت العديد من الصحف عن الصورة الأولى، وقالت “الأولمبياد تجمع ثقافتين في صورة واحدة”. أما الصورة الثانية تجمع بين فردين من كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، وأي شخص يعرف ظروف البلدين يعرف كذلك بأنه لا فرصة لهما للقاء أبدًا، ويعرف بأن فتاة كوريا الشمالية ربما تنتظرها عقوبة الإعدام نتيجة لما فعلت.

على الرغم من الاختلاف بين الصورتين، إلا أن هناك شيئًا يجمع بينهما؛ توحيد الرياضة بين المختلفين، ولذلك أعتبرها من ضمن اللحظات التي لا يمكن نسيانها، حيث العالم بأكمله يجتمع أفراده، متحابين لا متخاصمين، سالمين لا متحاربين.

على الرغم من أن الرياضة تتأثر بالسياسة، وهذا الشيء لا خلاف عليه أبدًا، ولا يمكننا أن ننكره، لكن ستظل الرياضة أملًا كبيرًا يمكنه أن يحقق لنا حلم الإنسانية، وما حدث في الأولمبياد، نتمنى أن يحدث في كل مكان وزمان.

لم تنتهِ حكاية الأولمبياد، وبالتأكيد ليست هذه هي اللحظات الوحيدة التي لا تنسى، حيث هناك أحلام كثيرة تحققت عبر بوابة الأولمبياد، وهناك أحلام أخرى ستتحقق في المستقبل.

لكنني أؤمن تمامًا بأن هذه اللحظات كافية للتعبير عن فكرة الحلم التي أؤمن بها، ويعرفها الجميع، ويحاول الوصول إليها كل فرد في حياته.

يقول هنري فورد: «سواء كنت تعتقد أنك تقدر أو كنت تعتقد أنك لا تقدر، في الحالتين أنت على حق».

شجاعة ريدموند ستظل دائمًا علامة فارقة في تاريخ كل من يسعى في طريقه، رسالة يسرى وصلت كاملة، وكفاحها شعلة من الأمل للجميع برغم الألم، ومحاولات أوسكار بلغت قلوبنا جميعًا وعلمتنا المثابرة، كما علمنا جوزيف هذا أيضًا وأن لا سقف للطموح أبدًا، حتى ولو كان هذا الطموح أن تنتصر على أسطورة من أساطير الرياضة، وأخبرتنا كل من نيكي وآبي أن الأخلاق ستظل هي التاج على الرؤوس نتغنى بها وبأهميتها حتى وإن لم يتحلّ بها إلا القليل، ومحاولات الرياضة لتوحيد الشعوب يومًا ما ستبلغ القلوب وتوحد بينها، فسلامٌ على الحالمين في كل مكان.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.