رجلان فقدا سيطرتهما السياسية، جبهتهما الداخلية تنهار، لم تعد تلتف حولهما، لجآ إلى حيلة كي يحققا مكسبًا سياسيًّا، ويظفرا بنصر وهمي، مهما أدى ذلك من النكوص عن اتفاق أبرمته دولتيهما سابقًا، فقط كان دافعهما أن العدو لم يعد مخيفًا بما يكفي.

هكذا كان مشهد إعلان صفقة القرن «القميء» شاهدًا على ضعف الطالب بتحرير فلسطين، وبضعف المطلوب الذي يرجوه ترامب وزمرته، إلا أن الصادم للبعض كان تواجد سفراء ثلاث دول عربية، أبرزهم سفيرة سلطنة عُمان، حنينة بنت سلطان المغيرة، ما استدعى شكرًا من رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي في المؤتمر نفسه.

هذا الموقف أثار سخط العديد، باعتبار أن عُمان التوازنات هي بالطبع وادعة! يرونها كما يشاؤون، لكن الواقع يشير إلى أمر شديد العمق والبعد عن تلك الرؤية، فالسلطنة كأي دولة خليجية نشأت في سياق علاقات طيبة مع المحتل البريطاني، وظلت تتبدل سياستها على ذلك المنوال.

إن قضية الشعب الفلسطيني يندرج جزء مهم منها في حق العودة، وهو بلا شك ليس كل شيء في قضية فلسطين، فقضية فلسطين نفسها تتعلق بشكل وهياكل النظم العربية، بل إنها تمثل لدول الطوق قضايا داخلية في صلب النظام السياسي ويكتسب منها شرعيته، كما في حالة الأردن على سبيل المثال. وفهم سياسة عُمان ووضعها بعد الاستقلال، يمكن من خلاله فهم لما حقَّ لنتياهو الترحيب وشكر تلك الدولة التي زارها عام 2018 والتقى فيها السلطان الراحل قابوس.

عندما كانت فلسطين

نؤكد من جديد وجه عمان العربي وأصالتها العربية وإخلاصها لكل القضايا العربية، وفي مقدمتها قضية شعب فلسطين الذي اغتصبت أرضه ظلمًا وغدرًا.
السلطان قابوس 1981

سلطنة عمان بعد عشر سنين من استقلالها، وبعد 6 سنوات من سحق ثورة ظفار، كانت بوصلته الخارجية لا تزال ناعمة الظفر، لم تتشكل كما يتصور البعض مقارنة بالوقت الحالي. سنجدها عام 1979 لم تقطع علاقتها بمصر بعد اتفاقية كامب ديفيد، وذلك لأسباب عدة على رأسها دعم نظام السادات للسلطان، بخلاف سلفه عبد الناصر الداعم لثورة ظفار.

وقتذاك كان غالب قيادات الجيش العماني من البريطانيين، وكان العديد منهم يحتل مكانة عظيمة من نفس السلطان، فأصبحوا يشيرون عليه في السراء والضراء. كان ذلك في زمن الحرب الباردة، التي انحازت فيها عمان جملةً وتفصيلًا للكتلة الغربية، بما اقتضاه ذلك من سياسات الانفتاح.

في ذلك الوقت بعدما قطعت غالبية الدول العربية علاقاتها مع مصر، ونُقلت جامعة الدول العربية إلى تونس 1979، كانت عمان إحدى الدول العربية التي رفضت قطع العلاقات، إلا أن السلطان عمد بعدها إلى التصريح في خطاباته بدعم فلسطين وقضية الشعب الفلسطيني.

أتى ذلك لأن القومية العربية لم تكن ماتت بعد، وظلت قضية الاحتلال الإسرائيلي حاضرة بثقلها في وجدان الشعوب العربية، فنجد عُمان التي لا يربطها بفلسطين حد أو عهد تؤكد ذلك الحق باستمرار، وما يهمنا هنا أن عمان التي لم تكن لتلوك خطاب العروبة القومي، الذي دعم ثورة ظفار حتى النفس الأخير، تدافع عن قضية فلسطين. انطلقت عمان في موقفها من ركيزتين؛ وجود التيار الديني في البلاد، ووحدة الصف العربي.

الثور فر

أنشد أحمد مطر قصيدته «الثور والحظيرة» بعدما تبعت بقية الدول العربية مصر في إبرام معاهدات مع الاحتلال الاسرائيلي، فبعد اتفاقية منظمة التحرير في أوسلو 1993، سقط حجر الدومينو وتبعتها الأدرن في وادي عربة 1994، والمفاوضات السورية واللبنانية مع إسرائيل، التي انتهت بالفشل بعد وصول نتنياهو للحكم نهاية عام 1996.

هذه الاتفاقيات مع الدول التي دخلت في حروب مباشرة مع إسرائيل، دول الثورة على رأسها مصر، أما دول الثروة كالخليج فكانت في مأمن من الدخول في تفاوض مع إسرائيل أصلًا، إذ لا حدود مشتركة ولا حروب مباشرة، إلا أن إسرائيل نفسها قدمت خدمات للسعودية في حربها باليمن ضد جمهورية مصر العربية.

أما عُمان فكانت الدولة الخليجية الوحيدة، التي تربطها علاقات مباشرة بإسرائيل. قنوات اتصال في حدودها الدنيا، حتى اتفاق أوسلو 1993 الذي أيدته عمان، واستضافت لجنة الموارد المائية،ثم مركز الشرق الأوسط لأبحاث تحلية المياه (MEDRC) أحد مخرجات اتفاق أوسلو، ورحبت باتفاق القاهرة «غزة أريحا» القاضي بالانسحاب من أغلب القطاع وأجزاء من أريحا.

 ثم أيدت معاهدة وادي عربة مع الأردن أكتوبر/ تشرين الأول 1994، ودعا قابوس رئيس الوزراء إسحاق رابين لزيارة مسقط، وبعد اغتياله أوفدت مسقط وزير الخارجية لحضور جنازته، ثم استضافت شيمون بيريز 1996، الذي صرح بقرب العلاقات بين الدولتين، وهو ما حدث بالفعل حيث بدأت العلاقات الاقتصادية بين البلدين في النمو.

افتُتح في يناير/ كانون الثاني 1996 مكتب للتمثيل التجاري لإسرائيل في مسقط، وردت عمان بالمثل بافتتاح مكتبٍ لها في تل أبيب، وكان ذلك الانفتاح سيتبعه تمثيل دبلوماسي، لكنه تعرقل بسبب فوز نتنياهو وحزب الليكود في مايو/ أيار 1996. وفي نهاية العام تراجعت إسرائيل عن بنود اتفاق أوسلو في منح الحكم الذاتي، وتراجعت إسرائيل عن اتفاق الخليل واتفاق واي ريفر، وبداية الاحتقان العربي بعد فشل المفاوضات مع سوريا ولبنان، وعدم الانسحاب من جنوب الأخيرة كما هو متوقع. أدى ذلك لسحب عُمان ممثلها في المكتب التجاري بتل أبيب ديسمبر/ كانون الأول 1996.

وكانت شروط عُمان[1] لعودة العلاقات التي نشرت إعلاميًّا هي:

  • ضرورة أن تفي حكومة إسرائيل بالتزاماتها المرتبطة بالاتفاقات المبرمة مع السلطة الفلسطينية، وفي مقدمتها انسحاب قواتها من الخليل، والانسحاب التام من القدس العربية، والكف عن سياسة هدم المنازل العربية وتغيير المعالم الإسلامية وإجراءات تكريس الاحتلال.
  • تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة كامل حقوقه الوطنية المشروعة، وحقه في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني.
  • استئناف المفاوضات على  المسار السوري من حيث انتهت الجولات السابقة.
  • الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وبقاعه الغربي.
  • ضرورة انضمام إسرائيل إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وإخضاع منشآتها النووية لنظام التفتيش الدولي التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وظلت العلاقات مستمرة بين الطرفين في حدودها الدنيا مع بقاء مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي على الأراضي العمانية حتى عام 2000 واندلاع الانتفاضة الثانية، التي قامت على إثرها عُمان بتجميد العلاقات، التي عادت مرة أخرى عام 2008.

اقرأ أيضًا: ثورة ظفار لأن عًمان لم تتحرر يومًا ما من الاستعمار

أم النهايات: وجه عُمان الأخير

https://twitter.com/i/web/status/1216026657515065344

شاركت عُمان في جنازة شيمون بيريز عام 2016، ثم جاءت زيارة نتنياهو العلنية الأخيرة لمسقط أكتوبر/ تشرين الأول 2018. كانت أهداف الزيارة المعلنة على حسب نتنياهو، هي إشراك عُمان كوسيط بينه وبين السلطة الفلسطينية، كما كانت إيران حاضرة على ملف المباحثات.

شارك في الزيارة إلى عمان كل من رئيس الموساد يوسي كوهين، ومستشار رئيس الوزراء لشؤون الأمن القومي، ورئيس هيئة الأمن القومي مائير بن شبات، ومدير عام وزارة الخارجية يوفال روتيم، ورئيس ديوان رئيس الوزراء يؤاف هوروفيتس والسكرتير العسكري لرئيس الوزراء العميد أفي بلوت.

كان دور عُمان واضحًا، هو أن تضغط على السلطة الفلسطينية لقبول الاتفاق، كما حدث إبان تبادل الرسائل بين قابوس وعباس نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، باعتبار عُمان مركزًا للتوازن الإقليمي، وتمتلك الأرضية الثابتة لفتح حوار مع كل من الأردن والسلطة الفلسطينية. إذ قد تحرز عُمان خلافًا عن غيرها إنجازًا في هذا الصدد، حيث تمثل حجم الصادرات والواردات الأردنية العمانية حوالي 120 مليون دولار سنويًّا، ومن الواضح نجاح عمان في ذلك المسعى، فكانت ردة فعل الأردن على الصفقة أقل من المتوقع.

وفي يوليو/ تموز 2019 أشار يوسي كوهين مدير جهاز الموساد إلى أن هناك علاقات دافئة مع عُمان، وأن لجهاز الموساد دورًا وثيقًا في توطيد وتنمية تلك العلاقات، وهو ما نفته وزارة الخارجية العُمانية، بزعمها أن الحديث عن علاقات دبلوماسية كاملة ليس له أساس من الصحة، لكنها لم تنفِ وجود علاقات بالجملة طبعًا.

وللحديث عن موقع عُمان من صفقة القرن، فهي تكاد تكون محورية. فدول الخليج الثلاثة، البحرين والإمارات وعُمان، استضافت ورش عمل الصفقة، ناهيك عن عمليات التطبيع الثقافي في دول الخليج عمومًا، وجاء الاهتمام الإسرائيلي بدول الخليج كونها مركز القرار العربي في الوقت الحالي، من خلال النفوذ المالي الذي تتمتع به وهجماتها الشرسة والمؤثرة على دول الربيع العربي منذ 2011.

كما أن دور عُمان الإقليمي في التواصل مع إيران يجعلها البوابة الرسمية لكل من الولايات المتحدة ولإسرائيل في التواصل مع إيران، ناهيك عن أهمية موضعها في حركة النفط العالمي، وصولًا لوجودها على مسار الحزام والطريق الصيني. كل تلك الميزات تجعلها أهم دولة خليجية بعد السعودية من حيث الاستراتيجية لإسرائيل.

وبدلًا من تحميل سياسة عُمان ما لا تحتمل، يجب النظر إليها كدولة لم تتحرر بشكل كلي، حتى أنها ما زالت قابعة تحت رِبقة الاحتلال، الذي استبدلت فيه الولايات المتحدة الأمريكية ببريطانيا. ودورها المحوري في إدارة التوازنات في المنطقة، يجعلها جديرة بشكر ترامب ونتنياهو لتمرير صفقتهما.

المراجع
  1. التقرير الاستراتيجي العربي 1996م، مركز الدراسات السياسية الاستراتيجية بالأهرام، القاهرة1997،ص193.