في صبيحة الثلاثين من يونيو/حزيران 1989، استيقظ السودانيون على خبر استلام الجيش للسلطة في البلاد، وبعد عدد من المارشات العسكرية، قام الضابط برتبة عميد عمر حسن البشير بإعلان البيان رقم واحد: الجيش جاء من أجل إنقاذ الشعب من حكومة الصادق المهدي الضعيفة. لقد زعم البشير وقتها أن التمرد يستولي على المدن والحاميات في الجنوب والجيش لم يعد يمتلك السلاح اللازم لردعه، والفيضانات غمرت البلاد والإغاثات وزعت ولم تصل إلى مستحقيها، والشعب سئم الوقوف في صفوف لنيل جالونات من البنزين أو بضعة أرغفة مدعومة.

انخدع العالم بهذا الإعلان في البداية، لقد كانت مصر مبارك من أوائل الدول التي رحبت بالعملية الانقلابية، فقد كانت لا تحب الصادق المهدي ولا حكومته وغرّر بها اعتقال الانقلاب لكل رؤساء الأحزاب السياسية بما فيهم حسن الترابي، ثم كان أول حوار صحفي قام به مندوب الأهرام في الخرطوم والذي تحدث فيه العميد عمر البشير عن أن قدوته هو جمال عبد الناصر!.

لكن مع الوقت وبعد استتباب الأمن للانقلاب تم الإفراج عن السياسيين وتبين أن الانقلاب هو من تدبير الزعيم الإسلامي الماكر الذي قال للبشير: «اذهب إلى القصر رئيسًا، وسأذهب إلى السجن حبيسًا».

لم يكن حال الدول الخليجية بأفضل من حال مصر، لقد كانوا في غاية السعادة عند حدوث الانقلاب. فالخليجيون يدركون أن الحكومات العسكرية في السودان دائمًا ما تكون أكثر صداقة لهم من الحكومات المدنية التي تمارس التعالي عليهم وتتجنب الانخراط في المحاور وتفضل سياسة الحياد، وكانوا غاضبين من حياد الصادق المهدي في الحرب بين العراق وإيران، فقد اعتبروا هذا الحياد بمثابة التواطؤ مع طهران التي كانت قد افتتحت منسقيتها الثقافية في الخرطوم بموافقة حكومة المهدي.

لكن انقلاب البشير لم يكن عند حسن ظن الخليجيين، لقد جاء هذا الانقلاب بكارثة وهي صعود حلفاء طهران في السودان وهم حزب حسن الترابي، وزاد من الكارثة عدم تأييد الحكومة السودانية لدخول القوات الأمريكية لتحرير الكويت من جيش صدام، فدخلت العلاقة بين السودان والدول الخليجية في أزمة وبرود.

لقد كانت الإمارات هي إحدى الدول التي دخلت في أزمة مع الحكومة السودانية بعد حرب الخليج، ولكن لطبيعة نظامها الكونفيدرالي وعقلية حكامها التجارية وشيخها زايد بن سلطان الذي تتسم قرارته بالحكمة لم تسارع الإمارات إلى قطع العلاقات مع السودان في ترقب لما سوف يسلكه نظام الخرطوم تجاهها.

لكن بعض الإمارات اتجهت نحو مضايقة السودانيين وطردهم من أعمالهم والتخلص منهم لصالح جنسيات من الدول المؤيدة لتحرير الكويت (مصر وسوريا)، بل وصل الأمر إلى خطف بعض السودانيين وتعذيبهم وهذا ما كان قد أحدث ضجة كبرى في الشارع السوداني وقت ذاك، فخاطبت نقابة المحامين السودانيين الشيخ زايد مطالبة إياه بالتدخل والتحقيق في الانتهاكات التي تحصل للسودانيين.

صحيفة سودانية تنشر خبر اعتراض نقابة المحامين السودانية على حملات التعذيب ضد سودانيين في الإمارات
صحيفة سودانية تنشر خبر اعتراض نقابة المحامين السودانية على حملات التعذيب ضد سودانيين في الإمارات

لكن الصمت على النظام السوداني لم يستمر كثيرًا خصوصًا بعد أن بدأ يظهر أنه ليس انقلابًا متحالفًا مع الإسلاميين بل هو انقلاب الإسلاميين أنفسهم فبدأت تظهر على العطف على معارضي النظام، وكان التطور الأبرز هو طرد السفراء بين البلدين في عام 1992 حيث اتهمت الإمارات السفير السوداني وقتها أنه يقوم بأنشطة تجسس على السودانيين المعارضين المقيمين في الإمارات.

وزعم بعض المعارضين الإسلاميين الإماراتيين أن الإمارات تقوم بدعم جون قرنق بالسلاح لقتال الحكومة السودانية في جنوب السودان وهذا الزعم لم أستطع التأكد منه من مصدر حيادي ومستقل، وإن صح فإنه كان دعمًا رمزيًا لا يضاهي الدعم الهائل الذي وفرته دول خليجية أخرى ولم يستمر طويلاً لدرجة أننا لا نجد أي دليل مادي عليه الآن.

وللمصادفة الغريبة، ففي عام 1992 ذاته، تم الاعتداء البدني على الدكتور حسن الترابي في كندا بقصد اغتياله من قبل مدرب الكاراتيه هاشم بدر الدين والذي قيل إنه كان يعمل كبودي جارد في الإمارات العربية المتحدة لكبار الشخصيات، وتحديدًا ولي عهد أبو ظبي الذي كان وقتها قائدًا للقوات الجوية، وعمل كذلك في عدد من دول الخليج الأخرى. وبعد الحادثة، وقطعًا لهذا الاتهام، أعلن هاشم بدر الدين انضمامه إلى حركة جون قرنق، وأكّد أنه ضرب الترابي بسبب ما وصفه بجرائمه بحق الشعب السوداني ردًا على ما تداولته صحف حكومية في ذلك الوقت من الربط بين ضربه للترابي وعمله في الخليج.

تعليق أحد معارف هاشم بدر الدين في أحد المواقع السودانية
تعليق أحد معارف هاشم بدر الدين في أحد المواقع السودانية

مع مرور الزمن تحسنت العلاقات الدبلوماسية بين السودان والدول الخليجية بما فيها الإمارات، وذلك يرجع للجولات المكوكية التي قام بها وزير الخارجية السوداني السابق دكتور مصطفى عثمان إسماعيل الذي كان وقتها وزيرًا للدولة بالخارجية وعاد الدعم الإماراتي للسودان والعلاقات التجارية بين السودان والإمارات كأفضل ما يكون على عكس العلاقات التي ظلت فاترة مع المملكة العربية السعودية والتي لم ترضَ عن النظام السوداني سوى مؤخرًا.

كان انقلاب البشير على الترابي في 1999 هو أحد الأمور التي أسعدت الإماراتيين كثيرًا فزاد اقترابهم من النظام السوداني والتنسيق الأمني والسياسي والاقتصادي معه.

موّلت الصناديق الإماراتية الخاصة عشرات المشاريع في السودان ومنحت الحكومة عددًا كبيرًا من القروض وبنت عددًا كبيرًا من المستشفيات في السودان.

لم تقم الإمارات يومًا بتوجيه أي تهمة للسودان أنها تدخل في شؤونها الداخلية ولم تتدخل السودان من جانبها في أي من الشؤون الإماراتية، وبلغ التنسيق الأمني بين الإمارات والسودان ذروته عندما قامت الإمارات باعتقال قائد أحد فصائل قوات المعارضة السودانية المسلحة وهو العميد عبد العزيز خالد والذي تم تسليمه للسودان حيث تمت محاكمته في الخرطوم.

كان هذا هو الوضع طوال فترة حياة الشيخ زايد بن سلطان والفترة الأولى من حكم نجله الشيخ خليفة بن زايد وحدثت نكسة كبرى في العلاقات بين السودان والإمارات في الفترة ما بعد 2013م.

حيث قامت مصر (السيسي) بالتحريض على النظام السوداني عند الخليجيين زاعمة أنه يوفر الدعم والإيواء لجماعة الإخوان المسلمين وأنه يدعم معارضي حفتر في ليبيا، فأصدرت الإمارات عقوبات على السودان غير معلنة شملت تجميد التحاويل النقدية والمماطلة في منح التأشيرات وترحيل بعض العمالة السودانية، لكن من حسن الحظ أن هذه النكسة في العلاقات كانت مؤقتة فسرعان ما تم التراجع عن هذه الإجراءات بعد زيارة الرئيس السوداني للإمارات عام 2015م بعد أن وجهت له دعوة لحضور مؤتمر دفاعي.

تمتّنت العلاقات السودانية الإماراتية ما بعد عاصفة الحزم لتصبح بمنزلة التحالف الإستراتيجي، وأصبحت الدبلوماسية الإماراتية تأخذ على عاتقها الدفاع عن السودان في المحافل الدولية.


الإمبراطورية الاقتصادية الإماراتية في السودان

يبدو النفوذ الاقتصادي للإمارات في السودان جليًا من خلال الاستثمار الإماراتي في القطاع الزراعي السوداني. تقول بعض التقديرات إن حوالي 60% من الاستثمار الزراعي الخليجي في السودان هو استثمار إماراتي. الإمارات هي المشتري الرئيسي لصادر الذهب السوداني الذي تتحدث تقديرات أنه يبلغ 80 طنًا بمقدار ثلاثة مليار دولار سنويًا. الإمارات تملك حصصًا في عدد من البنوك السودانية المهمة، بالإضافة إلى أن شركة الاتصالات الإماراتية كانت تملك رخصة المشغل الرابع للهاتف النقال في السودان قبل أن تبيعها وتخرج من السوق قبل سنوات.

كانت أسواق الإمارات العربية المتحدة طوال سنوات المتنفس للمواطنين السودانيين، فمنها كان يمكن الحصول على قطع غيار ممنوعة بأمر الحظر الأمريكي أو إصلاح جهاز معطوب. وحرصت الإمارات على أن يكون لبنوكها استثناء في التعامل الاقتصادي مع السودان، ولذلك كانت التحويلات النقدية تمر بين الخرطوم وأبوظبي بسلاسة لا تشبه الحال مع دول عربية أخرى مثل قطر والكويت وحتى مصر.

ولم يقتصر النفوذ الإماراتي على الجانب البنكي أو المنتجات السوقية بل إنه وصل حتى الموصلات العمومية وأدوات النقل، فقد كان طيران الاتحاد الإماراتي وفلاي دبي حتى وقت قريب هما الخطوط الجوية المفضلة للمسافرين السودانيين قبل أن تدخل على الخط وتنافسهم الخطوط الجوية القطرية، ويقال إن الخطوط السعودية قادمة كذلك للمنافسة على هذا الخط. واليوم تطمح الإمارات لأن تدير ميناء السودان الرئيسي حيث تسعى شركة موانئ دبي العالمية للفوز بحق إدارة ميناء بورتسودان لعدد من السنوات.

لقد راكمت الإمارات نفوذها الاقتصادي والسياسي في السودان، ولذلك لم أتعجب من التقارير التي تتحدث عن أن رفع اسم السودانيين من قائمة حظر الرئيس ترمب يرجع فيه الفضل إلى السفير الإماراتي يوسف العتيبة الذي أثبتت التسريبات الأخيرة أن له نفوذًا مهولاً في واشنطن ربما يوازي نفوذ السفير الأمريكي في بعض الدول العربية.

ما أريد أن أقوله من هذه المقالة إن الإمارات لا تعادي الإسلام السياسي كمبدأ عام مثلما هو الحال في السعودية، بل هي دولة برغماتية جدًا مستعدة للتعامل مع الجميع ما دامت ترى لها مصلحة أكيدة وما دمت قويًا وتستطيع الجلوس على الطاولة فالإمارات جاهزة للتفاوض.

أتوقع أن يكون للإمارات العربية المتحدة نفوذ كبير في غزة وفي حماس يساوي ويعادل النفوذ الذي تملكه في السودان، فالسياسة الإماراتية تجاه حماس هي سياسة احتواء ومحاولة خطف ورقة حماس من قطر بأي شكل على عكس السياسة السعودية التي تريد تدمير حماس.