بنهمٍ بالغ، تابع العالم شهادة مارك زوكربيرج أمام 44 من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي حول الانتهاكات التي تعرضت لها خصوصية مستخدمي فيسبوك لصالح شركة الاستشارات البريطانية كامبريدج أناليتيكا.كان للقضية بعد أكثر من كونها انتهاكًا صارخًا لحياة المواطنين وخصوصيتهم في بلد من المفترض أنه ليبرالي حتى النخاع، وهو أن هذه البيانات جرى تحليلها واستخدامها من قبل حملة الرئيس دونالد ترامب الانتخابية مما أهله لمنصب الرئيس. يتجاوز الأمر حد التلاعب بحياة الأفراد إلى التأثير المباشر في مصير العالم أحادي الجناح. ورغم أهمية الحدث ورمزيته الشديدة فإن الفائز الأول فيه كان المتهم!على إثر الاتهامات الموجهة لشركة فيسبوك،تكبدت الشركة خسائر بقيمة 40 مليار دولار، تكبّد منها الشاب المؤسس وحده 8 مليارات دولار. لكن دخوله الواثق لقاعة المجلس، افتتاحيته الاعتذارية بأن شركته لم تبذل الجهد الكافي لحماية المستخدمين، جنبًا إلى جنب مع انحطاط خبرة أغلب السيناتورات التكنولوجية وفر له صعودًا في البورصة بنحو 5%.


خط لا نهائي من الاعتذارات

«مارك زوكربرغ» مؤسس فيس بوك، خلال جلسة استماع أمام لجنة مشتركة من أعضاء الكونغرس الأمريكي

دخل مارك معركته مع الكونجرس بتدريب فعّال من خبراء مختصين في طرق التعامل مع السيناتورات. فضلًا عن اجتماعاته مع قادة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لتهدئة لجنتي الاستماع. وكلف لجنة من العلاقات العامة بمهمة تحسين صورته بإظهار حجم تواضعه وحسن أخلاقه.اعتذر زوكربيرج عن الخطأ التكنولوجي الذي مكّن الأعداء من القيام بعمليات غير مشروعة. وبذلك استطاع بمهارة رفع التهمة عنه وكأنه أول خطأ غير متعمد له.في 2003 اعتذر مارك عن قيامه بتأسيس موقع «فيس ماش» للتصويت على أكثر الفتيات جاذبية، وهو عبارة عن أداة مُقارنة بين فتيات هارفارد وتحديد الأجمل بينهن، بطريقة (رائعة أم لا)، بعد اختراق خوادم الجامعة لتحميل صور الفتيات المُسجّلات بها. وهو ما سبب أزمات لدى كثير منهن. برر مارك فعلته بأنها كانت للمرح فحسب، مؤكدًا عدم تعمده الإساءة ومعتذرًا عن أي أذى تعرضت له بعض الفتيات.كثيرًا ما يتعرض شخص ما لظهور إعلانات عن سلع معينة كان يتحدث عنها بالصدفة لصديقه، وهو ما دفع الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان لإضافة كتاب بعنوان «المراقبة السائلة» إلى سلسلته عن «الحداثة السائلة».

اقرأ أيضًا:أهم 11 سؤالًا تهرب منها مارك زوكربيرج أمام الكونجرس

في 2010، قدم فيسبوك خدمة لأصحاب الإعلانات بالدخول على صفحات المستخدمين لمعرفة هويتهم، ليس ذلك فحسب، بل تعد قيمة فيسبوك للمعلنين هو أنه يسمح لهم بتوجيه رسائلهم إلى المستخدمين بدقة كبيرة، استنادًا إلى جميع أنواع المعلومات مثل موقع المستخدمين واهتماماتهم ورغباتهم، من خلال ما يتوفر عنهم من بيانات، وما يدور بينهم من أحاديث، وكلما زادت المعلومات التى يجمعها فيسبوك، كانت الدقة أعلى في توجيه الإعلانات وخدمات التسويق. اضطر مارك لأن يقدم أسفه في مايو/ آيار من العام ذاته على هذا الأمر، الذي تم دون إذن المستخدمين.علاوة على ذلك، نشرت رسائل مسربة لمارك، وصف فيها المستخدمين الأوائل لفيسبوك بالأغبياء لثقتهم به، وعدم حرصهم على المعلومات الخاصة بهم. بالمقابل قدم اعتذارًا إضافيًا عن ذلك واصفًا نفسه بغير الناضج بالمرة، مطالبًا الجميع بمسامحته على تلك الكلمات المراهقة.يدور مارك في حلقة مفرغة من الاعتذار والتباكي لما يكرره من أخطاء. ففي 2014، اعتذر عن بحث علمي تم على أكثر من 700 ألف من مستخدمي موقعه، بإجراء اختبارات نفسية عليهم دون علمهم.جاءت فضيحة شركة كامبريدج أناليتيكا لتضع نهاية لتحرر العالم الافتراضي من سيطرة الدولة، تنادي بضرورة دخول العالم الرقمي لسلطة مؤسسات الدولة القومية. وهو ما سبب قلقًا لدى كثير من مستخدمي هذا العالم حول تأثر مساحة التحرر التقني بلوثة حالة الاستثناء السياسي الاستبدادي. إلا أن زوكربيرج تمكن من تفادي أي نقاش محدد بشأن سن قوانين جديدة كما لم يقطع وعودًا معينة، وكل ما هناك أنه أجاب بالتأييد الكبير عن سؤال إمكانية دعمه لقانون يجبر الشركة على إعلام المستخدمين فى غضون 72 ساعة حال الاختراق، قائلًا: «هذا الأمر يروق لى بشكل كبير».

المال والسياسة وجهان لعملة واحدة

مارك زوكربرغ, فيس بوك, جلسة استماع الكونجرس
مارك زوكربرغ, فيس بوك, جلسة استماع الكونجرس
وعدت أمريكا أبناءها بالعدالة والمساواة، وقدمت نفسها للعالم بأسطورة الحلم الأمريكي وتساوي الفرص بين الجميع وقدرة أي شخص على تحقيق أحلامه بمجرد استغلال قدراته.تغير مزاج مارك زوكربيرج ذاك الشاب المولع بالتقنيات الحديثة المهمل لعالم السياسة وتحولت معه اهتماماته من تحدي تعلم الصينية إلى زيارة الولايات وطرق أبواب المسئولين والرؤساء. وتغيرت معه صفات أباطرة العالم الجدد ليصبح في المقدمة مؤسسي جوجل وآبل وأمازون، بعدما كانت لأصحاب الصناعات الثقيلة.أباطرة اليوم يمتلكون عددًا أقل من الأصول الفعلية وعلاقات أقل تغلغلًا مع مجتمعاتهم إلا أنهم يبدون أكثر قوة، ببساطة لأنهم أكثر عالمية وهم يغيرون اليوم المسلمات التقليدية حول الاقتصاد والسياسة بأسرع مما يظن الكثيرون ليواصلوا فرض لحظاتهم الخاصة التي تخطف أنظار العالم مرة تلو المرة في الوقت الذي يقومون فيه بتشكيله أيضًا من حيث لا يحتسب.ومن هنا تدور التساؤلات حول مستقبل السياسة في العالم عامة وفي الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا بعد تحول تلك القوى الجديدة إلى جماعة ضغط سياسية قوية تناصر توجهات الديمقراطيين وتعارض سياسات المحافظين؛ إذ اتهم المحافظون فيسبوك بحجبه بشكل روتيني قصصًا إخبارية محل اهتمام القراء المحافظين، وإضافة قصصٍ أخرى لقائمة القصص الأكثر رواجًا، كثيرًا منها يخص الديموقراطيين، بجانب ا تهامات الرئيس الأميركي دونالد ترمب للموقع بأنه منحاز ضده فيما يتعلق بالتحقيقات الجارية عن تدخل روسيا في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة.يبدو أن مرحلة من التغيّر في مفاهيم علم السياسة المعاصر تلوح في الأفق بدخول أدوات جديدة تشكل ماهيته وفقًا لرؤى أصحابها من رجال التكنولوجيا والمعادلات التقنية. تظهر الضرورة في الحاجة لإعادة تشكيل التصورات الخاصة بالعالم الرقمي بما يملكه من إمكانات وقدرات بدلًا من تهميشه والتقليل من أثره، لاسيما في فترات أسر المجال العام.