نيانجي، إبريل/نيسان 1994:

تتلفت عينا الطفل المذعور متنقلة بين الوجوه السمراء من حوله، آلاف لجأوا إلى تلك الكنيسة الضيقة، من لم يسعهم المكان بداخل الكنيسة تجمعوا حولها، حشود متكوّمة تضم هلعها إلى بعضها البعض لتتشكل منه غمامة من الرعب تحوم من فوقهم، لم يعودوا قادرين على الثقة في أحد؛ لا جيرانهم، لا أصدقائهم، ولا حتى أنفسهم. كانت البداية عندما سقطت تلك الطائرة، تهتز الجدران، تصرخ النساء والأطفال، ينهار السقف على رؤوسهم ويدوي أزيز الرصاص ليحصد من تبقى حيا، وهناك وقف «القس» ينظر.


هناك في رواندا

قبل الاستعمار الألماني ثم البلجيكي لرواندا كان الانقسام العرقي بين الهوتو – المزارعين- والتوتسي – رعاة الأبقار – قائمًا بالأصل على حروب قبلية انتصر فيها التوتسي وفرضوا سيطرتهم وهيمنتهم السياسية والاقتصادية على الهوتو؛ ومع ذلك فالانقسام لم يكن حادًّا وقطعيًّا بناءً على اختلافات عرقية وأنثروبولوجية حقيقية بقدر ما كان انقسامًا مبنيًّا على الوضع والنظام الاقتصادي؛ الأمر الذي كان يسمح بالزواج والانتقال بين الطبقات (القبائل).

الاختلافات الجينية بين الهوتو والتوتسي لا تكاد تذكر إن كانت موجودة أصلا.
جوزيف ميلر، أستاذ التاريخ بجامعة فيرجينيا

إنهم يتشاركون ذات اللغة، يمارسون نفس التقاليد، ويعبدون نفس الرب.

محمود معمداني، أستاذ الأنثروبولوجيا الأوغندي

ارتكب الاستعمار البلجيكي وبالتعاون مع الكنيسة الكاثوليكية خطيئتين خطيرتين ساهمتا في توسيع الشقاق بين القبيلتين؛ وزعت السلطات البلجيكية على المواطنين الروانديين بطاقات هوية تحدد فيها انتماءهم العرقي، على أساس عدد الأبقار التي يملكونها وطول القامة وأشياء أخرى لم يعِها الروانديون أنفسهم؛ الأمر الذي وضع خطًا هوياتيًا واضحًا بين أفراد القبيلتين وأوقف نهائيًا أي فرصة للانتقال والاختلاط بينهما الذي كان يحدث بشكل طبيعي سابقًا. زاد الطين بلة ما عمدت إليه الإرساليات الكاثوليكية من تصميم لنظامي تعليم منفصلين لكل من أطفال الهوتو والتوتسي؛ مما أدى إلى مزيد من الإحساس بالتمايز بين القبيلتين.

إثر الانسحاب البلجيكي استولى الهوتو على السطة بفضل الأغلبية العددية وأجبر العنف المتبادل مئات الآلاف من التوتسي على النزوح خارج رواندا هربًا من نظام الهوتو الجديد.

انتهت سنوات طويلة من النزاع بتوقيع اتفاقية «أروشا» لتأسيس هيئة حكم انتقالي، إلا أن هذه الاتفاقية لم تعجب قادة الهوتو الذين أعدوا خطة لتحقيق «حل نهائي» لقضية التوتسي.

اتخذت مجموعة من هؤلاء اللاجئين من أوغندا قاعدة لتأسيس «الجبهة الوطنية الرواندية» التي قادت حرب عصابات طويلة ضد الجيش النظامي المدعوم بالقوات الفرنسية. استمرت المعارك المحدودة سجالاً بين الطرفين إلى أن تمكنت «الجبهة الوطنية» بقيادة« كاجامي» من إحداث اختراق بالسيطرة على المناطق الحدودية شمال البلاد عام 1990. في الآن ذاته اضطرت الاحتجاجات المحلية والضغوط الدولية الرئيس الرواندي، المنتمي للهوتو، «هابياريماتا» إلى إنهاء عقدين من الحكم المستبد وتأسيس حكومة انتقالية موسعة تشارك فيها مختلف الأحزاب ومن ضمنها «الجبهة الوطنية الرواندية» وفق اتفاقية «أروشا» سنة 1993.

لم تساهم هذه الاتفاقية في نزع فتيل الأزمة وإقامة نظام ديموقراطي، بعكس ما كان متصورًا. واجه الاتفاق معارضة حادة من قبل قيادات الهوتو الحزبية والعسكرية الذين عملوا منذ 1990 إلى نشر بيانات تدعو إلى «حل نهائي» لقضية التوتسي، و اعتبار كل من يتزوج منهم أو يشاركهم في عمل تجاري «خائنًا»، كما لجأوا إلى تأسيس ميليشيات متعصبة تلقت التسليح والتدريب على يد جنرالات الهوتو، بالإضافة إلى صفقات السلاح التي عقدت مع النظام الإسرائيلي والحكومة المصرية، التي كان عراب الأخيرة منها رجل الخارجية المصرية – في ذلك الوقت – والأمين العام للأمم المتحدة – إبان المجزرة لاحقًا- بطرس بطرس غالي.

http://gty.im/51989893

أرسل الجنرال «دالير»، قائد «بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في رواندا»،رسالة تحذير واستغاثة للأمم المتحدة في يناير 1994 مؤكدًا اطلاعه على خطة تصفية عرقية كاملة، أعدتها قيادات الهوتو، تضمنت أسماء وأماكن إقامة التوتسي في المدن الرواندية المختلفة، ومحذرًا من حدوث «مذابح قد يصل ضحاياها إلى مئات الآلاف». طالب دالير بزيادة أعداد قوات الأمم المتحدة بشكل عاجل، والتي كانت لا تتجاوز الثلاثة آلاف جندي، لتوفير فرصة لمنع الاقتتال وحماية المدنيين. وصل تحذير دالير إلى كل الحكومات الغربية وعلى رأسها البيت الأبيض، إلا أنهم قرروا ألا يحركوا ساكنًا. أتى رد الأمم المتحدة لدالير بأن التفويض الذي يحدد مهام بعثته متعلق بـ «مراقبة الالتزام بوقف إطلاق النار» فقط دون «التدخل».

كانت إشارة البدء سقوط الطائرة التي كانت تقل الرئيس هابياريماتا، وبرفقته الرئيس البوروندي «نتارياميرا» المنتخب حديثًا، في السادس من إبريل عام 1994. على الفور خرجت قيادات الهوتو على الإذاعات المختلفة ليتهموا التوتسي بالوقوف وراء إسقاط طائرة الرئيس ومطالبين عموم شعبهم بالتخلص من التوتسي «الخونة القذرين».

أقيمت أكمنة القتل على الهوية في الشوارع، أما في القرى فقد خرج المزارعون بالفؤوس والسواطير ليذبحوا جيرانهم الذين عاشروهم لعقود من الزمان. تشير الإحصائيات إلى أن حوالي مليون من السبعة ملايين الذين كانوا يشكّلون عدد سكان رواندا قتلوا خلال مذبحة المئة اليوم. تمت إبادة ثلاثة أرباع التوتسي في رواندا بالإضافة إلى عشرات الآلاف من «الهوتو المعتدلين» الذين رفضوا المشاركة في قتل جيرانهم وأصدقائهم من التوتسي.كان الذبح المباشر بالسواطير الطريقة الأكثر شعبية لارتكاب المجازر.

http://gty.im/482719785

قبل ذبحهن اغتصبت عشرات الآلاف من النساء، «كان الاغتصاب القاعدة لا الاستثناء»، معظمهن تعرضن للطعن في أعضائهن التناسلية، وكثيرات ممن بقين على قيد الحياة أصبن بالإيدز. أخرجت القيادات العسكرية مرضى الإيدز من المستشفيات، ليقوموا باغتصاب نساء التوتسي ونقل العدوى إليهن.

حافظت الحكومات الغربية على آذان صماء تجاه المجزرة طوال شهر إبريل وإلى منتصف مايو، كانت الولايات المتحدة قد خرجت لتوّها من مغامرة عسكرية فاشلة في الصومال وقررت أنها لن تتدخل في تلك الشؤون الإفريقية مرة أخرى. خرج الرئيس كلينتون ليطالب «جميع الأطراف بإيقاف هذه الأعمال فورًا»، مساويًا بين الجلاد والضحية؛ بينما رفض أي مسؤول غربي وصف ما يجري في رواندا بـ «الإبادة الجماعية»، كي تتفادى الحكومات الاضطرار للتدخل لمنعها كما تنص قوانين الأمم المتحدة. في الآن ذاته عملت الحكومات الغربية على إجلاء جميع مواطنيها من رواندا، بما فيهم الجنود المشاركين ضمن قوة حفظ السلام، تاركة آلاف العائلات الرواندية التي لجأت إلى مقرات الأمم المتحدة، وحتى أولئك العاملين في السفارات الغربية، ليواجهوا مصيرهم المحتوم. لم تنقذ الطائرات الغربية روانديًا واحدًا.


الوقوف على حافة المذبحة مرة أخرى

في سبتمبر/أيلول 2013 خرج الرئيس الأمريكي باراك أوباما ليعلن عزمه القيام بتدخل عسكري ضد النظام السوري إثر استخدامه للأسلحة الكيميائية، المحرمة دوليًا، ضد المدنيين. كانت الثورة التي بدأت منذ عامين كثورة سلمية تنادي بالحرية والديمقراطية قد تحولت إلى حرب أهلية قاسية بسبب عنف النظام ودمويته. في نفس الخطاب أكد أوباما أن هذه الحرب لا تحمل خطرًا يهدد أمن الولايات المتحدة بصورة حرجة ويدفعه للتدخل؛ لذا أرجع الأمر للكونجرس. كان خط أوباما الأحمر واضحًا، لم يتعلق بالضحايا، قصف المدنيين، ارتكاب الإبادات والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي، فقط كان متعلقًا بالسلاح الكيماوي، بإمكان الأسد أن يذبح أطفال حلب بالسواطير إن أحب، لكننا لن نسمح له باستخدام السلاح الكيماوي مرة أخرى ضد أحد، خاصة جنودنا وحلفاءنا «إسرائيل». هنا تدخلت روسيا واقترحت وقف الحملة في مقابل تسليم الأسد لسلاحه الكيماوي. سلم نظام «الممانعة» سلاحه الإستراتيجي ليبقى على عرش دمشق ويكمل ذبح مئات الآلاف من المدنيين. كانت الولايات المتحدة راضية، و شعر أوباما بالفخر.

مؤخرًا، وفي ظل المجزرة الدائرة في حلب،جدد أوباما رفضه للمقترح التركي، والذي يلقى دعمًا من دول خليجية وأوروبية، بإقامة منطقة آمنة يلجأ إليها المدنيون داخل سوريا. رأى أوباما أن هذا المقترح «ليس عمليًا». ربما كان خريج كولومبيا «الليبرالي التقدمي» يرى أن إبداءه، ووزير خارجيته «كيري»، لـ «أسفهما الشديد» لما يحدث «من كافة الأطراف» في سوريا عمليًا بما فيه الكفاية.

http://gty.im/512324962


لماذا اختار الغرب اللامبالاة

قتل ما يزيد على المئة ألف، والملايين فد نزحوا خارج البلاد، لكني رفضت المطالبات بالتدخل «في سوريا»؛ لأننا لا نستطيع أن ننهي حروب الآخرين الأهلية عبر استخدام القوة، خاصة بعد عقد من الحروب في العراق وأفغانستان.

باراك أوباما، الرئيس الأمريكي في «خطاب للأمة عن سوريا»، سبتمبر 2013

رغم قوانين ومواثيق الأمم المتحدة التي تلزم المجتمع الدولي، وعلى رأسه مجلس الأمن الذي تتربع على عرشه القوى الخمس العظمى دائمة العضوية، بالتدخل لإيقاف المجازر الجماعية وجرائم الإبادة العرقية، ويعطي كافة الحقوق لجميع أنواع التدخل العسكري وفرض العقوبات وفقًا للفصلين الخامس و السابع من ميثاق الأمم المتحدة. إلا أن الولايات المتحدة، ومعها بقية الدول الغربية الكبرى، قررت أن تكرر نفس المشهد الدموي مرة أخرى خلال عشرين عامًا، بينما لم يكن العالم قد استطاع بعد محو صورة المذبحة المروعة الأولى من عينيه. بإمكاننا إرجاع هذا الموقف لعدد من الأسباب أهمها:

أولا: النظر إلى المجزرة الدائرة على أنها مجرد حلقة إضافية في سلسلة طويلة من الحروب الداخلية الأهلية، «هم يقتلون بعضهم البعض منذ الأزل، سواء كانوا قبائل إفريقية سمراء، أو شرق-أوسطيين متمذهبين، كل ما في الأمر هو أنهم أكثر كفاءة هذه المرة بفضل الأسلحة المتطورة التي بعناها لهم». بإمكاننا العودة إلى معالم هذا الخطاب في تصريحات كلينتون المبكرة إبان المذبحة، ولمن فاتته فبإمكانه أن يسمعها مرة أخرى، وبشكل يومي، من السيد أوباما.

ثانيًا: عدم وجود مصالح إستراتيجية لأمريكا تدعوها للتدخل، بخلاف العراق الغنية بالنفط، وبخلاف البوسنة والهرسك التي شكلت جزءًا من طوق شرق أوروبا الجديد الموالي للغرب، والخارج حديثًا من عباءة الشيوعية الروسية، لم تمثل رواندا أو سوريا مصلحة إستراتيجية حيوية لصانع القرار الأمريكي. فالأولى دولة صغيرة وسط أفريقيا لا تمتلك موارد أو ثروات معدنية هامة، بينما تتركز أهمية الثانية، في ظل الرؤية الأمريكية الانسحابية من الشرق الأوسط والميمّمة صوب المحيط الهادي، في التهديد الذي قد تشكله هذه الحرب على أمن إسرائيل. تهديد اطمأنت الولايات المتحدة إلى تحييده ابتداءً بنزع أنياب الأسد الكيماوية، والتي قد تسقط في الأيادي «الخطأ» إن سقط هذا النظام، وانتهاءً بالتنسيق الإسرائيلي مع روسيا المسيطرة على سماء سوريا، وأرضها.

ثالثًا: الخوف من التورط في مغامرة عسكرية فاشلة أخرى. ففي 1994 كان بيل كلينتون قد خرج بصعوبة من مغامرة إرساله للقوات الخاصة إلى الصومال، بينما صرح أوباما لوزير دفاعه الجمهوري «تشاك هيجل» بأنه «حريٌّ بنا أن نخرج أولا من الحربين اللتين تورطنا فيهما قبل أن نفكر في الدخول لحرب أخرى». طاردت صور الجثث المسحولة للجنود الأمريكيين في شوارع مقديشو والنعوش العائدة من العراق وأفغانستان كلينتون وأوباما، بل والرأي العام الأمريكي؛ مما جعل الإدارة الأمريكية زاهدة في الدخول في حرب أخرى «ليست ضرورية» لأمنها الشخصي.

تظل هذه الأسباب الثلاثة دائرة في فلك «حسن الظن» بصانع السياسة الأمريكية، إذ لا تشمل سببًا رابعًا يدور حول «الرغبة» في استمرار هذه المذابح والاقتتال الداخلي لإنهاك شعوب المنطقة وزرع العداوات بينها، عداوات تجعلهم يتنافسون على الرضى الأمريكي، والسلاح الغربي، وتجعل إسرائيل تبدو كواحة سلام آمنة.

http://gty.im/482773815


استطاع «كاجامي» أخيرًا إيقاف المجازر عن طريق قيادته لقوات «الجبهة الوطنية» من انتصار لآخر صوب العاصمة. حرص كاجامي على إيقاف المجازر الجماعية دون التورط في ردود فعل انتقامية؛ الأمر الذي شجع كثيرًا من الهوتو المعتدلين على الانضمام إليه. وصل إلى العاصمة في الرابع من يوليو، وفي نهاية يوليو كان كاجامي قد أوقف المذابح في جميع الأراضي الرواندية. كاجامي، طويل القامة النحيل، هو اليوم رئيس رواندا.

هرب القس «سيرومبا»، الذي أشرف على قتل آلاف التوتسي الذين لجأوا إلى كنيسته في «نيانجي»، إلى الفاتيكان وعمل كرجل دين في إيطاليا. لاحقًا أجبر سيرومبا، والعشرات ممن قادوا وخططوا للإبادة الجماعية، على تسليم نفسه للمحكمة الجنائية الدولية وتمت إدانته و الحكم عليه بالسجن مدى الحياة.