تعرفت على فريق «كايرو ستيبس» لأول مرة بالمصادفة، كنت أقوم بالبحث عشوائيًا على ساوند كلاود عن موسيقى «جاز» عربية، ووجدت في نتائج البحث تراك بعنوان «من أول لمسة» يلعبه فريق غامض –بالنسبة لي وقتها- يكتب اسمه بالإنجليزية Cairo Steps، ويضم موسيقيًا عربيًا واحدًا يلعب العود واسمه «باسم درويش» وعدة موسيقيين آخرين تشي أسماؤهم بأصول أوروبية.

قمت بتشغيل التراك، وبدون مقدمات بدأ عود باسم درويش يلعب لحن «وجيه عزيز» الشهير، وأعتقد أن الأمر لم يستغرق سوى العشر ثوانٍ الأولى التي استمعت فيها للعود حتى كان التراك قد سيطر على روحي تمامًا، ومن يومها وقعت في غرام كايرو ستيبس.

لم أكد أستوعب صدمة جمال وعظمة العود حتى تلتها صدمة أخرى لعشر ثوانٍ أخرى من الإعجاز الموسيقي، صوت قادم من السماء عبر كلارينيت «وائل أمين». بدا لي وقتها وكأنني أسمع «من أول لمسة» لأول مرة، أو كأني سمعت انطباعًا ضبابيًا لها منذ أمد بعيد على يد المطرب «محمد منير»، وأن ما يقدمه كايروستيبس هو عمل جديد، راسخ، وطازج، أعطى للعمل الأصلي بهاءً شديدًا لم أشعر به من قبل.


من مصر إلى ألمانيا والعكس

فرقة «كايروستيبس» تأسست في ألمانيا على يد الموسيقي –ودارس المصريات وعلم الأعراق- «باسم درويش»، بالتعاون مع عازف البيانو «سباستشان مولر» ولاعبين آخرين، ويقدمون ألحانًا تجمع ألوانًا موسيقية مختلفة، ما بين الإسلامي والنوبي والقبطي والصوفي مع نكهة غربية تمزج الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية مع موسيقى الجاز الأمريكية، كل ذلك في إطار عصري شديد الخصوصية.

ما يميز موسيقى كايروستيبس ليس فقط أنها تهز الكيان، لكنها أيضًا موسيقى مشبعة للغاية، من الصعب جدًا أن تحصل على قطعة موسيقية تشعرك بالشبع في هذا العصر المليء عن آخره بوجبات موسيقية سريعة، Junk Music و Fast Music معبئة في أسطوانات مدمجة ومرصوصة على آي-تونز، وتملأ فضاءات الإنترنت والقنوات التليفزيونية وإذاعات الإف إم.

ولذلك لن تستطيع أن تستغني عن شعور الشبع هذا بمجرد أن تجربه، هذا ما جعلني مدمنًا لكايروستيبس ومتابعًا لأخبارهم بشغف، ولذلك قررت كتابة هذا المقال بمجرد معرفتي باستعدادهم لإطلاق ألبومهم الجديد «البساط الطائر» Flying Carpet بالتعاون مع الرباعي الوتري العالمي «Quadro Nuevo» الذي تأسس في ألمانيا أيضًا، وقدم ما يقرب من 1500 حفلة خلال العشرين عامًا الماضية في كل مكان حول العالم؛ مما يعني أن عشاق موسيقى الجاز وموسيقى «الدمج» الفيوجن Fusion على موعد مع حدث فني استثنائي ووجبة جديدة بمكونات موسيقية إضافية.


مقطوعة جديدة ساحرة

تذوقت أول لمحة من الألبوم مع إصدار شريط الفيديو الرسمي للتراك الرئيسي «البساط الطائر» الذي انطلق لتوه على موقع يوتيوب، فوجدت نفسي أستمتع بالمكون البصري الفريد بجانب المكون السمعي الذي اشترك في إبداعه 15 موسيقيًا يلعبون كل الآلات الممتعة التي يمكنك أن تتخيلها، وكأنها أوركيسترا صغيرة جوالة، تمضي تعزف موسيقاها فيما يتبعها المستمعون مسحورون وسط شوارع وحواري القاهرة والأقصر بالضبط مثل عازف المزمار السحري في الأسطورة الشعبية الشهيرة Pied Piper of Hamelin.

الفيديو الساحر يتنقل بأفراد الفرقة بين أماكن مختلفة ساحرة في مصر، وكأنه “بساط سحري” يجلس العازفون عليه فينتقل به بين مقهى ريش بوسط القاهرة ثم إلى شاطئ النيل وبعدها إلى سوق خان الخليلي، ويسافر بهم إلى معابد الأقصر ثم إلى نيل الصعيد شديد الاتساع والجمال، في جولة بصرية رائعة مصحوبة بواحدة من أجمل مقطوعات الجاز الشرقي ذي النكهة المصرية التي يمكن أن تستمع إليها، وخصوصًا مع تداخل آلات شرقية صميمة في اللحن مثل عود باسم، وناي راجيد ويليام، وقانون رامي كمال، وطبلة ماكس كلاس، ورق هاني الصواف، كما أضاف هارب العازفة إيفيلن هوبر لمسة مصرية قديمة وخصوصًا مع أجواء المعابد التي نقشت على جدرانها تلك الآلة وآلات موسيقية أخرى ابتدعها المصريون القدماء.


وللموسيقى طعم ولون ورائحة

مقطوعة «البساط السحري» على الرغم من أنها من تأليف موسيقي غربي هو الألماني وعازف الساكس والكلارينت «مولو فرانسيل»، إلا أنها حملت طابعًا أصيلاً وحميمًا، بمجرد أن تبدأ المقطوعة يشعر المرء بهدوء غريب يغشاه، حالة من السلام والاسترخاء مع انهمار مجموعة واسعة من المشاعر والذكريات في ذهن المرء.

خلال أربع دقائق ونصف يمكنك أن تشعر بالعديد من الأشياء؛ مثلاً تشعر وكأنك تتجول قبل منتصف الليل في ليلة صيف منعشة في شوارع مدينتك المصرية المفضلة، وتتذكر جلوسك على مقهى تجتر دقائق هادئة مفعمة بالسلام قبل أن تذهب لبيتك وتستسلم لنوم هادئ مليء بالأحلام السعيدة. وأنت تستمع للمقطوعة، تستطيع أن تتذوق على لسانك انتعاش أوراق النعناع البلدي الأخضر الطازج في كوب من الشاي الكشري الساخن، وأن تتذكر جلوسك وسط أهلك وأنت طفل صغير منذ زمن في جلسة سمر والجميع يتضاحكون في أجواء دافئة، وأن تسمع ضحكة صديق عزيز لم تره منذ فترة، وأن تشم الرائحة العطرة التي تركتها السنين في مطبخ جدتك، وأن تشعر بملمس هواء المغيب يداعب وجهك وشعرك.

غريب كم المشاعر التي تثيرها في النفس موسيقى كايروستيبس بشكل عام، ومقطوعتهم الأخيرة بشكل خاص، الشعور بالشبع المليء بهذا الكم من التواصل الحسي الصوفي لا يقدر بثمن، ولا يمكنك أن تجده بسهولة مع فرقة موسيقية أخرى.

الفيديو كذلك تم تصويره بشكل بسيط للغاية يغيب عنه أي شكل من أشكال البهرجة والتكلف والمغالاة في الإبهار التي أصبحت سمة سائدة في شرائط الفيديو الموسيقية المصرية والعربية، قام المصور «مايك ماير» بتصوير الفريق في أوضاع تلقائية ومريحة داخل كادرات فنية تم تجهيزها بدقة وحرفية عالية، تارة يجلس أحدهم على البساط في صحراء الأهرامات، ثم يفرشها اثنان منهم على مقهى ويجلسان عليها، أو يجلسون عليها جميعًا على متن قارب شراعي يمخر بهم عباب النيل، وكأن المقطوعة والفيديو رسالة قوية وملهمة للعودة إلى البساطة، والتمهل لدقائق وسط الحياة العصرية ذات الإيقاع السريع والمرعب، ومحاولة التقاط الأنفاس للاستمتاع بكل ما حولنا من جمال وطبيعة وذكريات وأشخاص وأماكن وتراث.