ذلك عصر لا حد لغرابته؛ عصر البطولة والاستشهاد والدفاع عن الإسلام الذي لم يؤمنوا به، ولم يطبقوا حرفًا من تعاليمه، زمن السفه والإسراف وعدم الانتماء إلا لكرسي السلطنة، الملابس المزركشة، النساء الشهيات المتفجرات أنوثة المنغمسات في مؤامرات القصور، عصر «ملاقشة» النساء في مجامع الأسواق وخطفهن والزنا بهن في صحون المساجد، عصر الإتاوات والضرائب والغرامات والعقوبات الجماعية. ثلاثة قرون من الظلم، تحكم مصر خلالها طبقة غريبة عن المصريين لا تعرف من لغته إلا القليل، لا تتزوج منهم ولا تصاهرهم، بل تحتقرهم وتسومهم سوء العذاب.

هذا ما أقره الأستاذ «صلاح عيسى» في كتابه «حكايات من دفتر الوطن»، في مستهل حديثه عن فترة الاحتلال العثماني لمصر بشكل عام، وهو ما يمكن أن يثير شكلًا من أشكال الطموح لدى أنصار هذا العصر، بأن يكون الحال أكثر إشراقًا في عهد الأسرة العلوية. بينما يقف دفتر التاريخ حائلًا أمام هذا النوع من المشاعر.

«مصر ملكاً للسلطان العثماني»

ففي العهد التركي العثماني المملوكي كان المصريون يُسمَّون في الوثائق الرسمية بـ «العبيد»، وظل هذا الاسم مُلصقًا بهم في عهد محمد علي وخلفائه الأوائل. فعندما أصدر محمد علي قانون «السياسة نامة»، وهو أول قانون نظامي يصدر في مصر، خاطب فيه المصريين ووصفهم بأنهم «عبيد». ولما تم تشكيل مجلس الشورى عام 1866 نصّ أمر تشكيله على أنه يتألف من «ذوات مقدار الكافي يصير انتخابهم من العبيد مجربي الأطوار وأصحاب قابلية ولياقة ومفهومية لدى ولي الأمر». [1]

وهذا ليس غريبًا على العثمانيين فقد كانت عودتهم الثانية مع الإنجليز وبالًا على مصر والمصريين، وحملت لمصر ما يكفي من الشرور والوحشية، ما جعل المصريين يقارنون الاحتلال العثماني بـ ويلات الاحتلال الفرنسي. فبعد جلاء الفرنسيين عن مصر وثّق الجبرتي أن العثمانيين كانوا يعتبرون المصريين كفرة وفرنسيس، بل وذهب قاضي العسكر العثماني إلى القول بأن مصر أصبحت ملكًا للسلطان العثماني، فيحتاج أربابها أن يشتروها من الميري ثانيًا، وبذلك ليس من حق المصريين أن يتملكوا فيها عقارًا دون أن يشتروه من خليفة المسلمين السلطان العثماني استنادًا على أن مصر فتحت عنوة، ذلك على الرغم من الاستقبال الحافل الذي استقبله المصريون للعثمانيين. وهنا وجد الشعب المصري نفسه تحت نير ثلاث قوى باطشة، المماليك والعثمانيون والإنجليز. [2]

نطف السادة والعبيد

وفي مقابل هذه الشريحة الواسعة من العبيد (على حسب التسمية الدارجة آنذاك) تشكلت هنالك طبقة السادة، أصحاب الجنس السامي والنطف ذات النفوذ السلطاني، إذ كان للحيوان المنوي الملكي أو التركي مستقبل أكثر إشراقًا من جموع المصريين. فمنذ يوم قدومهم الأول. وبدأت تترسخ مع الوقت هذه الجدلية «جدلية العبد والسيد» في صورتها المتعارف عليها تاريخيًا، في العقل الجمعي. فيقتنص السادة كل يوم صفة إلهية جديدة وينسبونها إلى أنفسهم، بينما ينغمس الشعب المغلوب على أمره في وحل العبودية وتحت نيرها أكثر فأكثر، ويتعمق شعوره بالدونية، ذاك الذي يلعب دورًا مهمًا في تجديد إقصائه عن دائرة الفعل الاجتماعي، ويعيد تخليق طوق العبودية حول رقبة كل فرد.

ولم يتوقف الأمر عند نطف السادة والعبيد، بل كانت هنالك أسس أخرى تعمق فكرة عبودية المصريين للمحتل الأجنبي. بحيث كان هنالك نوع آخر من النطف تتوسط سلم الطبقة الاجتماعية؛ وهي «النطف التركية» والتي كان لأصحابها على مدار حكم هذه الأسرة نوع من الأبهة والوجاهة والنفوذ تفتقر إليه طبعًا نطف العبيد، فمن وُلد للعبيد يظل عبدًا بعيدًا عن المناصب القيادية أو الاجتماعية أو العسكرية.

فحين فكر الباشا للمرة الأولى في إقامة جيش من المجندين في ولايته تمثلت خطته في تعيين ضباط يتحدثون التركية ليقودوا ويأمروا العبيد (الفلاحين) المجندين أبناء العرب. وكان هذا الأساس اللغوي للتمييز بين الضباط والجنود قائمًا أيضًا في أوساط البيروقراطية المدنية؛ حيث إن أعضاء المراتب العليا والأرستوقراطية كانوا يتحدثون التركية كشرط للتعيين في هذه المناصب، ولم تكن اللغة التركية كافية لترقي الوظائف بل كانت الهوية التركية شرطًا لا يقل جوهرية عن اللغة، فكان أحقر رجل تركي يحظى بمنزلة أعلى بكثير من السكان الأصليين. [3]

دولة الباشا

وعلى صعيد آخر؛ يمكننا أن نقول إن دولة الباشا قامت على عرق الفلاح الذي لم يُقَم له ظهر فيها، ولم يراعَ له جانب، فبعد أن كان نظام الالتزام ينهك الفلاح ويثقل كاهله بالضرائب الباهظة، أُلغيَ هذا النظام إلى نظام الاحتكار، وهنا احتكرت دولة الباشا قوت الناس وحيواتهم ولحم أجسادهم إن صح التعبير.

فكانت الحكومة مسئولة عن شراء المحاصيل من الفلاحين وكذلك بيعها بسعر أعلى بكثير، ولا يتعلق هذا بما هو للتصدير وحسب، بل بكل المحاصيل التي كان يحتاجها الفلاح لسد حاجته من الغذاء. بل وكان الجنود العثمانيون يداهمون بيوت الفلاحين فلا يبقون فيها من الحبوب ما يدخره الفلاح لسد جوعه مما زرعه. [4]

ولم يقف الأمر عند هذا الحد من السطو على بيوت الفلاحين وزراعتهم ومحاصيلهم، بل كانوا يفرضون الضرائب الباهظة على مختلف القرى، وتكون هذه الضرائب على المستقرين في هذه القرى باعتبار أن أرض مصر ملك للباشا وليس لسكانها وقاطنيها. ومن البديهي أن قيمة هذه الضرائب تنخفض وفقًا لانخفاض عدد الأحياء في القرى بفعل الأوبئة المنتشرة في هذا الزمن أو بفعل خطف ساكني القرى للعمل بالسخرة أو جهادية الباشا؛ ولكن هذا ما لم يكن يحدث.

إن سياسة الإفقار تلك تُعظِّم من فرص الاستبداد وتُعمِّق بدورها سطوة الجهل والمرض على رقاب الناس، وتسحق طموحاتهم في التغيير أو تمحوها محوًا كاملًا. وبين كل هذا الجوع والفقر والمرض وتجهيل أفراد الشعب، روّج محمد علي عن نفسه أنه هو مؤسس مصر الحديثة، وتلقفها المؤرخون لتصبح مُسلَّمة صدّرها التاريخ للأجيال.

تُرىَ أي تأسيس قصده محمد علي والمؤرخون؟ فـ هل تتأسس الدول إلا ببناء الوعي الجمعي لمواطنيها من خلال تعليمهم، وتثقيفهم، ومعالجتهم من المرض، وحمايتهم من الفقر؟

بناء على ما سبق، وبعد ما يُقارِب قرن من الزمان على إنهاء حكم أسرة محمد علي، نقف من هذه التسمية موقف الشك والارتياب والتساؤل، ذلك بأن المصريين على اختلاف عقائدهم قد عانوا مُر المعناة والاستعباد في هذه العصور الغابرة. فنحن إذ نتحدث عن المصريين آنذاك، فنحن بالأحرى نتحدث عن عبيد ذاك الزمان وأوباشه بحكم التسمية المطلقة عليهم في مراسيم محمد علي وذريته (الأوائل على أقل تقدير)، نحن نتحدث عن الفلاحين، وعمال السخرة، وجنود الباشا، لا عن الأطباء أو مديري المصالح الأميرية، ولا قادة الجيش أو ضباطه.

لقد كان الفلاحون يهجرون أراضيهم لعجزهم عن دفع الضرائب الباظهة، فيهربون من نار الضرائب الباهظة إلى نار السخرة في الأبعديات التي كان الباشا يهبها لكبار موظفيه وقادة الجيش من الأتراك، فكيف لهذه الدولة التي كانت تتعامل مع مواطنيها على أنهم عبيد الباشا، وملك يمينه أن تكون دولة قوية يحفى أجيالها المتأخرون بمن سمى نفسه مؤسسها.

يذكر صلاح عيسى في كتابه «هوامش المقريزي» أن مصر قد عاشت في عهد عباس الأول عهدًا أسود حيث أُغلقت المدارس، ونُفي المفكرون، وتدمرت المصانع والفبريكات، وحكم الوشاة والجواسيس مصر. فقد كان عباس عصبيًا شديد التطير والتوجس وكثير الوسواس يشك في كل الناس، وهذا ما ألقى به فريسة سهلة للوشاة، حتى أنه بعث للشيخ الباجوري شيخ الأزهر آنذاك يستفتيه في أمر طرد النصارى من مصر، فرفض الشيخ بأنه لم يطرأ على ذمة الإسلام طارئ ولم يصبها خلل حتى يبيح الغدر بمن في ذمته إلى يوم القيامة. [5]

وعلى هذا، يحتم الضمير الوطني أن يفرد الباحثون مساحة أكبر من النقاش والتحليل والتعاطي مع هذه الفترة من تاريخ الوطن، وإلقاء الضوء على دور أبناء مصر المخلصين في نيل مصر استقلالها منذ أن هتف ذاك الفلاح الشرقاوي أحمد عرابي، مرورًا بسعد زغلول، وانتهاءً بثورة يوليو.

المراجع
  1. صلاح عيسى، «هوامش المقريزي: حكايات من مصر: المجموعة الثانية»، القاهرة، دار القاهرة، 1983. ص 105.
  2. عصمت محمد حسن، «الجبرتي وعصره: دراسة في التاريخ الاجتماعي لمصر العثمانية»، القاهرة، دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية أو الاجتماعية، 2015. ص 212.
  3. خالد فهمي، «كل رجال الباشا»، القاهرة، دار الشروق، 2001. ص 322-323.
  4. عصمت محمد حسن، «الجبرتي وعصره: دراسة في التاريخ الاجتماعي لمصر العثمانية»، مرجع سبق ذكره. ص 229. خالد فهمي، «كل رجال الباشا»، القاهرة، دار الشروق، 2001. ص 322-323.
  5. صلاح عيسى، «هوامش المقريزي: حكايات من مصر: المجموعة الثانية»، مرجع سبق ذكره. ص 106. عصمت محمد حسن، «الجبرتي وعصره: دراسة في التاريخ الاجتماعي لمصر العثمانية»، مرجع سبق ذكره. ص 229.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.