أثار التمييز بين الضروري والظرفي الكثير من النقاش ولم يزل، برغم أن التمييز يبدو للوهلة الأولى بسيطًا. فسقوط التفاحة –مثلاً-في عالمنا الذي تحكمه الجاذبية ضروري، فلا يمكن للتفاحة ألا تسقط. بالمقابل فإن هزيمة نابليون في واترلو لا تبدو ضرورية، فقد كان من الممكن أن ينتصر في ظرف مغاير. الحقائق الضرورية محكومة بقوانين تقتضيها، بينما الحقائق الظرفية تتعلق بالملابسات والظروف التي حكمتها، وقد تختلف في سياقات أخرى.

النقاش بصدد هذا التمييز يدور حول السؤال: كيف لنا أن نعرف فيما إذا كانت إحدى الحقائق ضرورية أو ظرفية؟، هل التاريخ -مثلاً- محكوم بقوانين تجعل من تعاقب أحداثه ضروريًا أم أنها ظرفية ولا يحكمها قانون؟


ماركس وسياقه

شكل التنوير -المؤسَس على الإيمان بالتقدم والعقل وتحرير الإنسان الفرد من قيود التقاليد والتسلط المرتبطة بالنظام القديم- التراث المشترك بين الاشتراكيين والليبراليين، وهم لم يفترقوا عن بعضهم البعض بشكل حاسم إلا مع ربيع الشعوب عام 1848. فإن اكتفى الليبراليون بالتحرر السياسي والفصل مع الكنيسة بوصفها الشروط الكافية لتحرير الفرد، فقد مدّ الاشتراكيون هذه الشروط الضرورية إلى المجال الاقتصادي، فلا يكفي التحرر السياسي بل يجب أن يتحرر الإنسان أيضًا من القسر الاقتصادي الملازم لنظام الملكية الخاصة.

الاشتراكية والليبرالية كانتا إستراتيجيتين متباينتين لتحقيق قيم التنوير. أن يكون المرء اشتراكيًا يعني ضمنًا أنه تنويري وإن بشكل متميز عن صنوه الآخر الليبرالي.

الاشتراكية والليبرالية كانتا إستراتيجيتين متباينتين لتحقيق قيم التنوير، فاشتراكية ذلك العصر قبلت التنوير ضمنًا، أما الاشتراكيات المستندة إلى تقاليد مسيحية فقد كانت في حالة انحسار كإيديولوجيا لحركة اجتماعية مؤثرة. أن يكون المرء اشتراكيًا يعني ضمنًا أنه تنويري وإن بشكل متميز عن صنوه الآخر الليبرالي.

لم يكن التصور الثوري والطبقي للتاريخ والمرتبط بإيديولوجيا التقدم خاصًا بالماركسية، فجذوره تعود إلى كتابة التاريخ البرجوازية نفسها، حيث يصور التاريخ باعتباره تاريخ تقدم يحكمه الصراع الطبقي، وإن تكن الطبقة الثورية وقتها الطبقة الثالثة؛ البرجوازية. وقد تغير هذا الحال مع ظهور الطبقة العاملة -ضمن الشروط التي حكمت عملية التصنيع في ذلك العصر- كفاعل ثوري ورث دور الطبقة الثالثة.

لدينا أفكار متلازمة، روح العصر، في السياق الذي فكر فيه ماركس، فلم يكن هناك حاجة للتفكير في هذا التلازم أو برهنته، بل الانطلاق منه والبناء عليه. هكذا استبطن ماركس في نظريته «العلمية» تلازمًا ضروريًا بين التقدم والاشتراكية والثورة والطبقة العاملة.

الواقع الذي عاصره ماركس كان تجسيدًا لهذا الترابط، فالإيديولوجيا التي هيمنت في القرن التاسع عشر هي إيديولوجيا التقدم، وأن يكون المرء اشتراكيًا فهذا يعني مسبقًا أنه أيضًا تقدمي. الثورة كانت حاضرة في كل مكان، والطبقة العاملة دخلت على الساحة السياسية منذ منتصف القرن التاسع عشر باعتبارها الفاعل السياسي الأقوى والملتزم بإيديولوجيا التقدم وقيم التنوير بشكل كامل. على مستوى النظرية انطلق ماركس من هذا التلازم بوصفه ضرورة، دون الحاجة إلى أن يبرهن على ارتباطات منطقية ضرورية بين الثورة والتقدم والطبقة؛ أي ما الذي يجعل من التقدم ملازمًا ضروريًا للثورة أو للطبقة؟، وما الذي يستلزم ضمن مفهوم الطبقة فكرة التقدم أو الثورة بشكل ضروري؟

لم يحتج ماركس إلى أن يجيب على هذه الأسئلة، ولم تكن ذات معنى أو أهمية بالنسبة إليه آنذاك، فالتلازم بين التقدم والثورة والطبقة كان معطى في السياق العملي، النظرية تنطلق من كون هذا الاقتران تلازمًا ضروريًا. لكن ما بدا لماركس تلازمًا ضروريًا لم يعد كذلك في زمن لاحق. غير أن هذه الضرورة المفترضة كان لها أثرها الحاسم على تطور الماركسية النظري والعملي اللاحق.

نحيا اليوم في عالم انفصلت فيه هذه العوامل، الثورة والتقدم والطبقة العاملة، عن بعضها البعض. الثورة لم تعد مرتبطة بالتقدم، والطبقة لم تعد وحدها أساسًا للهوية السياسية

فتعديلية إدوارد برنشتاين ظهرت في مواجهة انفصام العلاقة بين التقدم والثورة مع تحول الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، مع دخوله الانتخابات بعد إلغاء القوانين المضادة للاشتراكية، لأكبر قوة حزبية. بالمقابل، فإنه تعثر في الوصول إلى الطبقات الأخرى بحيث يصبح حزبًا جماهيريًا حقيقيًا. لم يعد الطريق للاشتراكية يمر بالثورة ضرورةً، ولم تعد الطبقة العاملة وحدها المعنية بالتقدم ولها وحدها سيتجه الحزب. اختار برنشتاين أن يكتفي بالتقدم والاشتراكية كهدف بعيد المنال، مبدأً مؤسِسًا، فيما تصبح صلة هذا المبدأ بالثورة ذات طبيعة ظرفية. التجربة البلشفية على الجانب الآخر كانت الثمن الباهظ للحفاظ على الضرورة، فالحزب المسلح بنظرية علمية عن التاريخ يعرف ما هو صحيح للثورة والطبقة العاملة.

على هذا الأساس استبدل الحزب نفسه بالطبقة العاملة وخاصة مع زوال الطبقة العاملة موضوعيًا مع نهاية الحرب الأهلية. فاستبداد الحزب يجد أحد جذوره في التصور الضروري والعلمي للتاريخ الذي افترضه ماركس، فلا معنى للخلاف بالرأي مع نظرية علمية. في القرن العشرين ظهر وبشكل متزايد أن لا رابط ضروري بين الطبقة العاملة والثورة، فالطبقة العاملة لم تعد الطبقة الثورية في مواجهة الرأسمالية كما ظهر في 1968.

نحيا اليوم في عالم انفصلت فيه هذه العوامل، الثورة والتقدم والطبقة العاملة، عن بعضها البعض. الثورة لم تعد مرتبطة بالتقدم، والطبقة لم تعد وحدها أساسًا للهوية السياسية، فاسحة المجال لظهور أشكال أخرى من الهويات السياسية المستندة إلى الإثنية والجنسانية والبيئية وهلم جرا. فالإسلاميون يحملون راية الثورة ضد الطاغوت، ولكنهم لا يحيلون إلى التقدم إنما إلى استعادة عصر ذهبي مفترض في ماض سحيق، بالمقابل أمست إيديولوجيا التقدم إيديولوجيا تستخدمها أنظمة مستبدة في مواجهة شعوبها. فأن يكون المرء عاملاً لا يخبرك بشيء بصدد انحيازه السياسي، وأن يكون ثوريًا لا يعني إيمانًا بالاشتراكية أو التقدمية، وأن يكون اشتراكيًا أو يساريًا لا يمنع من انحيازه لأنظمة شديدة السوء والطغيان.


التفكير في «ما بعد الضروري»

كل انتهاء التصور الضروري للعلاقة بين هذه العوامل المختلفة بداية ما بعد الماركسية كما تبدو مثلاً لدى إرنستو لاكلاو وشانتال موف؛ ما دفع مقولة «الاختلاف» لتحتل موقع الصدارة باعتبارها نفيًا للشكل الضروري الذي يحكم عملية التمثيل السياسي. فإن لم يعد هناك رابطة ضرورية بين الاشتراكية (كإيديولوجيا طبقية) والانتماء الطبقي للمرء فهذا يعني أنه يمكن له أن يختار أية إيديولوجيا ممكنة من تنويعة هائلة من الإيديولوجيات المتاحة والتي قد تستدعي انتماءً مغايرًا للانتماء الطبقي. وإن لم يعد هناك رابط ضروري بين الثورة والتقدم، فهذا يعني أنه من الممكن للثوري أن يتحرك في أي اتجاه وقد لا يستدعي في إيديولوجيته الثورية قيمًا عقلانية أو تحررية مفترضة، بل على العكس قد يعتبر مثل هذه القيم شكلاً مخادعًا للسيطرة.

غير أن السؤال، الذي يواجه اليسار عندها، هو كيف يمكن للمشروع السياسي اليساري الديمقراطي (وأي مشروع آخر عمليًا، وفي النهاية السياسة نفسها) أن يكون ممكنًا في حال غياب رابطة «ضرورية» بين الإيديولوجيا والجماعة التي ستحمل هذه الإيديولوجيا والفعل السياسي؟ أو بصيغة إيجابية، كيف يمكن إعادة الربط بين إيديولوجيا يسارية والناس؟

الإجابة هي إعادة الاعتبار للسياسة كفعل مؤسِس، بما أن هذه الرابطة ظرفية وليست ضرورية فلا يمكن تحقيقها بالتالي إلا عبر السياسة نفسها، هذه هي وظيفة السياسي. من هنا أتت إعادة الاعتبار لأفكار كارل شميت بين اليساريين الجدد، فهو الذي يقدم نظرية عن السياسة تجعلها الفاعل الحاسم، فالسياسة تخلق الهوية السياسية والإيديولوجيا التي ستحرك جماعة بشرية ما.

أفكار شميت ليست غريبة عن التراث اليساري نفسه، حيث يمكن العثور على موازيات لها كما في فكرة جورج سوريل حول الإضراب العام بوصفها أسطورة مؤسِسة للطبقة العاملة. والملفت أن سوريل كان أحد ملهمي موسوليني، كما يلهم شميت اليوم اليساريين الجدد كلاكلاو، وهو المعجب أيضًا بشعبوية بيرون.

الانتقال من الضرورة إلى الظرفية بصدد العلاقات التي تحكم التمثيل السياسي والعلاقة بين أفكار المتباينة والفعل السياسي والرفع من قيمة السياسة بوصفها إرادة وفعل وليست نتاجًا لضرورة ما قد عَنَت استبطان لموقف عدمي، فلا يوجد معنى أو حقيقة أو قانون خفي في مكان ما، مستوى نهائي يتجلى معنى السياسي فيه. كل شيء جائز وما يجعل من إمكانية ما واقعًا هو الإرادة والقدرة على الفعل.

للعدمية شكلان ممكنان فيما يتعلق بالتأسيس للفعل السياسي، العدمية الإيجابية كما يمثلها شميت. العدمية التي تسعى إلى فرض معنى ما عبر السياسية والفعل، بمقابل شكل آخر للعدمية وهو السلبي كما يمثله جياني فاتيمو. المحاججة الأساسية لفاتيمو بسيطة تمامًا، وتقوم على أنه بقبولنا بأن لا معنى أصلي موجود، وأن كل ما نقوله هو تفسير من بين تفسيرات أخرى ممكنة وبغياب مرجع نهائي يحكم بينها، فإن هذه التفسيرات المتباينة متكافئة ولا يحق لأحد أن يفرض تفسيره على الآخرين. عدمية فاتيمو تسعى سياسيًا لتأسيس موقف ليبرالي.

ينطلق فاتيمو من العدمية باعتبارها إطارنا التاريخي، مصيرنا الذي نعيشه ونقطة انطلاقنا. برغم الرجحان الظاهر للمحاججة التي يستخدمها فاتيمو غير أنها تعاني من مشكلتين. المجتمع ليس قصيدة شعر يمكن أن نفسرها بشكل لانهائي ونقبل بكل التفسيرات المطروحة. لا يمكن لمجتمع أن يستقر دون التزام قطعي بمجموعة من القواعد وبتفسير متفق عليه لمثل هذه القواعد.

هناك حدود للتأويل لا يمكن أن يتم تجاوزها دون أن يصبح معها استمرار المجتمع نفسه موضع تساؤل، فنحن لا يمكن لنا أن نطرح حق الملكية أو حق الحياة أو حق التعبير بشكل مستمر للتفسير والتأويل، ولن يكون من الممكن القبول مثلاً بتأويل الدولة الإسلامية لهذه القيم باعتباره تفسيرًا ممكنًا من ضمن تفسيرات أخرى. المشكلة الأخرى تتمثل بنقطة انطلاق فاتيمو والمتمثلة بالعدمية كإطار ناظم، وهو شيء قد تسنده المحاججة التاريخية والسياق الأوربي، ولكنه بالمقابل ليس نقطة انطلاق الفاعلين السياسيين لدينا. فالدولة الإسلامية لن تقبل بالعدمية والتنوع اللانهائي للمعنى بوصفه إطار للتفكير، وهي التي تعرف تمامًا ما الذي يريده الله.

العدمية الإيجابية فتحت الباب للكثير من الكوارث، والعدمية السلبية لا تسمح بأي تأسيس، كما أنها لا تتسق مع الخبرة المعاشة لعالمنا العربي.


ياسين الحافظ، عن سياقنا

للعدمية شكلان ممكنان فيما يتعلق بالتأسيس للفعل السياسي، العدمية الإيجابية كما يمثلها شميت، مقابل شكل آخر للعدمية وهو السلبي كما يمثله جياني فاتيمو.

في مقابل ماركس لدينا ياسين الحافظ. المشترك بينهما، بالإضافة إلى الإيمان والانحياز التام لقيم التقدم والتحرر والعدالة، هو استثنائية السياق التاريخي الذي حكم إنتاجهما. الحافظ كتب في غسق هيمنة الحركات القومية والاشتراكية، وأنتج نسخة عربية تتضمن الربط الضروري بين الثورة العربية والتقدم والاشتراكية والفاعل الثوري المتمثل بالإنتلجنسيا الثورية.

الحنين الذي نحمله للحافظ وكذلك لماركس اللذيْن نجحا في تأسيس موقف عقلاني وتحرري وعادل، هو حنين إلى عالمهما الذي تعايشت فيه هذه المواقف سوية دون أي تناقض.

نقد الحافظ للإيديولوجيا العربية كان نقدًا للفصام بين هذه اللحظات (العقلانية والثورية، العدالة والتحرر والعقلانية) لدى الحركات الثورية العربية وقتها، والذي بدأ يدركه على وقع هزيمة 1967 والحرب الأهلية في لبنان، وشكل عمله محاولة لإعادة انتاج نظرية للضرورة بوصفها عقلانية.

في زمن الحافظ كان هذا النقد ما يزال ممكنًا، ففي الحساب الأخير -وقتها- لم تزل الإيديولوجيا الاشتراكية والقومية العلمانية مهيمنة على حركة الشارع العربي، والإيديولوجيا الإسلامية كانت ضعيفة وتبدو كأثر من ماض متخلف يجب تجاوزه ولا تطرح تحديًا حقيقيًا، في المقابل شكل الاستعمار وإسرائيل التحدي الذي واجهه الحافظ وقتها.

الحنين الذي نحمله للحافظ وكذلك لماركس اللذين نجحا في تأسيس موقف عقلاني وتحرري وعادل، هو حنين إلى عالمهما الذي تعايشت فيه هذه المواقف سوية دون أي تناقض، حنين إلى عالم الضرورة البسيط الذي يتجلى في تنظيراتهما، حيث لا مشكلة في اشتقاق العدالة من الحرية، وهذه من التقدم وهلم جرا. أما اليوم فقد فُكت الروابط بين هذه اللحظات ولم يعد هناك ما يلم شتاتها، وقد أمست متناقضة في تعييناتها الواقعية. ثورية الإسلاميين لا تستدعي الحرية أو العدالة (كما نفهمها وليس كما يفهمهما الإسلاميون)، والانحياز للعقل والتقدم ينتهيان إلى دفاع علني أو مستتر عن الأنظمة المستبدة.

والشعب العربي أمسى سنيًا، أو شيعيًا أو نصيريًا وهلم جرا. لذلك فإنه لا معنى لنقد دعاة الثقافوية بكونهم لا يربطون بين ادعاءاتهم عن التقدم بحس ما عن العدالة، أو نقد دعاة الديمقراطية بأنهم يعادون الحرية وينتهون إلى الانحياز للإسلاميين حتى ولو لم يرغبوا بذلك. معضلة هذا النقد الإيديولوجي، وكذلك منقوده، أنه يرغب بأن يحقق بالنظرية ما يعجز عنه على أرض الواقع، هو نقد متجاوَز ما زال يحيا على افتراض رابط ضروري بين هذه القيم.

ما يزيد معضلة النقد الإيديولوجي ذي المرجعية التنويرية، وبمعزل عن التمايز غير المهم في حالتنا العربية بين اليسار والليبرالية، هو عدم ارتباطه بحركة سياسية مهيمنة أو يمكن لها أن تحقق شكلاً ما من الهيمنة في زمن قريب، هيمنة تسمح بحل عملي لعدد من التناقضات المستعصية على المستوى النظري.

التمييز بين الضروري والظرفي ليس موجودًا في العالم بل ينتمي إلى طرق تمثيلنا للعالم. إيديولوجيا التقدم بكل تنوعاتها افترضت رابطًا ضروريًا بين قيم معينة وحركة تاريخ مفترضة وحامل تاريخي لها. لكن اليوم ومع اندثار هيمنة التيارات المنحدرة من هذه الإيديولوجيا فقد انتهى الإيمان بهذه العلاقة الضرورية، ولم يعد هناك ما يضمن الربط بين الثورة والتقدم، العدالة والحرية، الهوية السياسية والطبقة أو الأمة. هذه هي عمليًا نقطة بداية التفكير بحالنا وحال غيرنا، ولا معنى لأي نقطة بداية سواها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.