في ختام عام 2017، انتقل الإنجليزي الشاب «جادون سانشو» من مانشستر سيتي إلى فريق بوروسيا دورتموند في ألمانيا. يمكن اعتبار ذلك الانتقال كأنه طلقة كاشفة أطلقها الجناح الإنجليزي ليوضح بها لكل المسؤولين الألمان، وربما في أوروبا كافة أنهم يفتقرون لمواهب خالصة بتلك الكيفية.

قبل ذلك التاريخ بـ 17 عامًا، اكتشفت بلجيكا نفس الأمر، فبالرغم من تنظيم بطولة اليورو بالتعاون مع هولندا، لكنها لم تنجح حتى في بلوغ الدور الثاني من البطولة. كان مركز المنتخب البلجيكي آنذاك هو الـ 66 على مستوى العالم، وهو مركز لمنتخب يفتقد أي معنى للخيال الكروي، كانوا لا يعنون شيئًا في كرة القدم أصلًا.

لكن في عام 2015، كانت بلجيكا على قمة تصنيف الفيفا لمنتخبات العالم، خلال هذه السنوات الـ15، عدلوا في كل شيء يخص اللعبة هناك، وبلاعبين أمثال «هازارد» و«دي بروين» و«دينيس ميرتينز» والعديد من ذوي الخيال، نجحوا في بلوغ نصف نهائي كأس العالم عام 2018، فكيف تحول كل ذلك؟

نموذج بلجيكا للتطبيق

يشتهر فريق أياكس الهولندي بقدراته على إخراج المواهب لكافة أنحاء أوروبا. مؤخرًا، كانوا السبب في ظهور 4 من أهم اللاعبين الشباب في القارة: «زياش» و«دي يونج» و«دي ليخت» و«فان دي بيك». وهو ما يجعل هولندا دائمًا محل النظر كمنتخب في كافة العصور بلا اختفاء طويل، حتى لو بدون بطولات.

مع ذلك يؤكد أحد أهم رؤساء فرق الناشئين في النادي الهولندي، أن مواهب مدرسة أياكس الذين نشاهدهم في الفريق الأول، يؤدون بمستوى منخفض عما كانوا عليه قبل 10 سنوات، أي قبل الالتحاق بالنادي، يقصد بذلك أن استمرار هؤلاء اللاعبين داخل الأكاديميات الرسمية ينقص من قدراتهم.

في بلجيكا، يختلف الأمر كثيرًا. فالمواهب تزداد بريقًا بزيادة العمر؛ والسبب حسب ما وجده المدير الفني السويدي «شاول ايزاكسون-هيرست» مع رفيقه المدرب بأياكس، هو أن كل اللاعبين في أكاديميات بلجيكا الكبرى، خاصة في أندرلخت، قد اعتمدت على سكان المناطق الشعبية الضيقة، أو ما يُسمى بلاعب الشارع الحقيقي.

كانت الإجابة التي يبحث عنها كل أوروبا، هي بكل بساطة ممكنة «في الشارع»، كرة الأطفال، الكرة التي يفهمها جماهير الشرفات المنزلية ومرتادي المقاهي الشعبية. لكن كيف يتم تطويع عشوائية تلك اللعبة لتناسب كبار المنابر؟ حسنًا، يقول «ألبرت أينشتاين» إن اللعب هو أعلى تكوينات البحث.

صغار لا يركبون دراجات الكبار

حاول المدربون في بلجيكا الإجابة عن السؤال الصعب: كيف تُلعب كُرة القدم؟ وتخلوا لسنوات عن الإجابة المُكررة التي تؤكد أن كرة القدم لعبة جماعية. إذ تعتمد أغلب الأكاديميات في كل العالم على أنظمة لعب 11 ضد 11 و8 ضد 8 في فرق الأطفال والناشئين.

لكن يعتقد «كريس فان دير هايجن»، مدير تعليم المدربين بالاتحاد البلجيكي لكرة القدم، أن تلك الأنظمة تعني أن تُجبر الأطفال على ركوب دراجة للكبار. يبدو الأمر وكأنك تقتل فيهم الإبداع منذ الصغر بحجة خلق النظام.

والحقيقة أن النظام يملك الوقت الكافي للتكوين في سنٍ مُعينة، لكن قبل ذلك السن، يحتاج الأطفال لتنمية القدرات الإبداعية. وهنا تكمن قيمة اللعب في الشارع.

يقول «دان ميتشيتشي»، المدرب السابق لمنتخب شباب إنجلترا، إن اللاعب يأتي إلى الأكاديميات في الغالب وهو يمتلك 90% أو 95% من قدراته، فما عليك إلا البناء على تلك الإمكانيات وتطويرها، لا هدمها وبناء أخرى جديدة لكي تخلق ما يُسمى بالنظام.

وفي محاولة «فان دير هايجن» مسؤول المدربين بالاتحاد البلجيكي لتعديل نظم التدريب في بلده، تذكر كيف بدأ لعب الكرة عندما كان طفلًا، ومن ثم أسس نظامًا ليناسب تلك البيئة. إذ اعتمدت بلجيكا على تكوين نظام 1 ضد 1 وحارس مرمى، في سن الخامسة والسادسة. والأمر برمته يعتمد على عاملين: ما يمكن لهؤلاء الأطفال فعله، وما يمكن لهؤلاء الأطفال تعلمه.

يريد الأطفال لعب كرة القدم بطريقتهم الخاصة، وليس بالطريقة التي يريد الكبار اللعب بها.
«كريس فان دير هايجن»، مدير تعليم المدربين بالاتحاد البلجيكي لكرة القدم.

كنز الشارع الأكبر

إن النظام الذي حاولت بلجيكا خلقه برعاية فان دير هايجن يحاول مُحاكاة لعب الكرة القدم في الشارع ولكن داخل الأندية والأكاديميات. في مباريات الشوارع بين الأطفال وغير المحترفين، النمط المُعتاد هو اللعب في مناطق أصغر، وبعدد لاعبين في كل جانب أقل.

إذا حاولت أحد الأندية اعتماد ذلك النمط فإنه سيقتل تدريبًا روتينيًا مُعتادًا، تقوم به كل الأكاديميات في كافة الأعمار السنية، وهو تدريب التمرير بكافة أشكاله. عليك أن تنظر لمنتخب ألمانيا لتكتشف أنهم يُتقنون التمرير جدًا في كل أوضاعه وكذا الانتشار والتحرك لكنهم يفتقدون للقرار، أو بالأحرى للخيال.

كيف يتخيل اللاعب الموقف ويتخذ قراره الأنسب فيه؟

يسعى السويدي، «شاول ايزاكسون-هيرست»، والذي يعتبر أحد أول المُنادين بضرورة تطبيق التدريبات الفردية بالأندية والأكاديميات، لخلق أنظمة لعب تقوم على مواجهة اللاعبين صغار السن لبعضهم البعض بعدد أقل، وهو ما أطلقنا عليه سابقًا، محاكاة لطريقة اللعب في الشارع.

لخلق لاعب ناشئ واعد، يجب خلق لاعب صاحب قرار، بالتالي تعتمد بعض الأندية الآن على خلق أنظمة تدريب يكون فيها (4 لاعبين ضد 4) وصولًا إلى وضعبة (1 ضد 1). والهدف خلق المشكلة أمام اللاعب وإجباره على إيجاد حل، ومطالبته بالإبقاء على الكرة أطول مُدة تحت الضغط لسرعة اتخاذ القرار.

مهارات جادون سانشو، الجناح الإنجليزي الذي تكونت موهبته بالشارع

يقول «محمدو جوري»، مدرب فريق تروسي الفرنسي تحت 16 عامًا، إن اللاعبين يتفاعلون دائمًا مع المعلومات الجديدة ويضطرون إلى اتخاذ قرارات بدون تأخير في ظل اللعب في مساحات ضيقة بدون تدخل المُدرب. إذ يعمل ذلك على تطوير الذكاء المستقل، لأنه ليس هناك مدرب ليدلك، أنت من يتخذ قراراتك.

العالم يتجه للشارع

الأكيد أن الجمهور يشعر الآن بانخفاض ملحوظ في مستوى الفنيات في اللعبة، ذلك اللاعب المهاري القادر على اتخاذ قرار بالمراوغة أو التصويب أو ما شابه، أصبح من العملات النادرة. نشعر الآن أن التطور الكروي هو السبب والتكتيك هو الذي خنق تلك التجارب الأخاذة لكن «واين روني» ينفي ذلك جزئيًا.

يعتبر الإنجليزي الأسطوري هو أحد أكثر التكتيكيين في تاريخ الكرة الإنجليزية، حيث شارك في كل مراكز النصف الثاني من الملعب تقريبًا، حتى أنه شارك كوسط ملعب. مع ذلك كان لروني قرار وكان صاحب مهارة وخيال.

يعترف واين أن كل ذلك قد تعلمه في مبارياته التي خاضها بالساحة الصغيرة القريبة من منزله، إذ يؤكد أن 95% مما تعلمه عن اللعبة قد استنبطه من هُناك. إذ يكون هناك وقت كافٍ للتكتيك لكن فيما بعد، بعد أن يكون الأساس قد بدأ فعلًا.

اكتشف العالم ذلك مؤخرًا، وبعدما قتلوا مواهب الشارع بأيديهم من قبل من أجل البحث عن وعي وثقافة تكتيكية وتنظيمية أكبر، ربما كان فوز فرنسا بكأس العالم 2018 سببًا في أن يكتشف العالم أن المواهب الفردية والقرارات تتفوق في أساسها على كل شيء، فلا يصلح أي تكتيك في ظل لاعب غير مسؤول عن قراراته.

تعج فرنسا بالساحات التي تمتلئ بالأجانب واللاجئين والمهاجرين، تلك الساحات تكون المنفذ الأهم لتفريغ الطاقات الكروية، لكنها المنفذ الأهم كذلك لمواهب من نوعية «رياض محرز» و«مبابي» و«عثمان ديمبلي» و«بوجبا».

الأكيد الآن أن الشارع لم يعد السر، بل عاد ليكون الواجهة من جديد، إذ حلل علماء في كرة القدم فريق ألمانيا الفائز بكأس العالم 2014 لينظر فيما يختلف هؤلاء الأبطال عن غيرهم من اللاعبين حول العالم، وكانت الإجابة الأهم هي أن كل هؤلاء قد لعبوا كرة قدم غير رسمية، كرة القدم الشوارع، حتى سن 22 عامًا.

تابعت تلك التحليلات عملها في إنجلترا، قبل أن تخرج من ألمانيا وقبل التأكيدات القادمة من بلجيكا وهولندا، لتؤكد أن الدور الحاسم التي تقوم به كرة الشارع في أكاديميات اللعبة حول العالم الآن، شيء لا يمكن تعويضه ولن يمكن الاستغناء عنه أبدًا.