ربما يكفي عنوان الرواية ليُقدم لك نبذة عمّا أنت بصدده. ماذا يتبادر إلى الذهن حين ترى كتابًا يحمل هذا العنوان؟ مئة عام من العزلة.

الأمر أشبه بالسحر، دعني أخبرك أننا بصدد رحلة، رحلة حقيقية إلى داخل عقل كاتب بثقل كاتب تلك الرواية، وأمر آخر أنك حين تقرأ لـ «غابرييل غارسيا ماركيز»، عليك أن تُنحّي المنطق جانبًا، وكذلك تُوطِّن نفسك على رؤية أشياء لا يألفها عقلك كما لو أنها مسلمات.

«غابرييل غارسيا ماركيز» -الكاتب الكولومبي- ينسج لنا عالمًا كاملاً، مجتمع جديد بصراعاته وأفكاره ومراحل تطوره، بكل ألوان الحياة، ينسج من خياله الخصب مشاهد وأحداث مبهرة.

كتب غابرييل رائعته تلك في المكسيك عام 1965، ولم تكفِ النقود سوى لإرسال نصفها فقط للنشر، ليستيقظ ذات يوم فيجد زوجته «مرسيدس بارشا» قد رهنت خاتم الزفاف لنشر النصف الآخر. لتُنشر عام 1967، فتصل إلينا تلك الرائعة بعد ترجمتها لعدة لغات، وقد حاز عنها غابرييل على جائزة نوبل في الأدب.

مدينة ماركيز المعزولة

يروي لنا الكاتب قصة مدينة خيالية تدعى «ماكوندو»، أسسها «خوسيه أركاديو بوينديا» الأب، بعدما رحل وزوجته «أورسولا» عن بلده، واستقر بهما المقام إلى شبه جزيرة معزولة عن العالم، إذ ظلوا يبحثون عن طريق البحر قرابة العام ولم يعثروا عليه، فقرر خوسيه أن يؤسس مدينته التي ستبقى على مدى تعاقب ستة أجيال من عائلته، وستستمر لمائة عام حتى ينتهي بها الحال مع موت آخر فرد لعائلة بوينديا كما تقول النبوءة. وتبقى المدينة في عزلتها إلا من تلك الزيارة السنوية من مجموعة من الغجر، والتي ستتكرر على مدار تاريخ المدينة، إذ يأتون ليُسحِروا سكان ماكوندو المعزولين باكتشافاتهم الجديدة، وما يصل إليه العالم الخارجي من اختراعات.

تدور أحداث الرواية حول تلك العائلة -عائلة خوسيه أركاديو بوينديا- وتتعاقب الأجيال، وتتعدد المواليد، وتكثر الوفيات، وتبدأ هنا قصة وتنتهي هناك أخرى، ويتغير شكل العالم، وتقوم الصراعات بين الأحرار والمحافظين، وتُشن الحروب وتُدوي الانتصارات، وكأنها دنيا كاملة، يجسِّد فيها الكاتب واقع العالم المشتت وما قد يقوده إلى الهلاك بأسلوب أقرب إلى الفنتازيا.

دهشة المعرفة

يستهل غابرييل بمشهد خوسيه الأب وهو يصحب أحد أبنائه للتعرف على أحد الاكتشافات التي يأتي بها الغجر، يصف شعوره وهو يلمس الجليد لأول مرة، ويصف دهشة خوسيه الأب ومدى اهتمامه باكتشافات الغجر وولعه بكل ما هو جديد، ورغبته في جعل مدينته تلك المرآة التي تعكس العالم.

ومن أولئك الغجر يصف لنا غابرييل «ميلكيادس»، ذلك العجوز الغجري الذي تبدأ به الحكاية وتنتهي إليه، إذ إنه هو صاحب تلك النبوءة التي ستتحقق بعد قرن من الزمن بمجرد أن تُفك شفرتها، ورفيق كل اكتشاف جديد، ورفيق تلك العائلة المؤسسة، وبتطور الأحداث يسرد لنا كيف أنفق خوسيه عمره في معمله فقط من أجل الاكتشاف، من أجل شيء جديد، ينفق سنوات في تلك العزلة لاكتشاف أسرار الكون التي غُرست نبتتها في داخله عبر زيارات الغجر وعلاقته بميلكيادس، وما هو سيقوده إلى الجنون، فينتهي به الحال مربوطًا إلى شجرة الكستناء في ساحة المنزل حتى الموت.

والقاسم المشترك في كل تلك الحكايات، هو العزلة، عزلة المدينة عن العالم، وتلك العزلة التي تنتهي إليها حياة أغلب الشخصيات، إذ يختار الأب العزلة في معمله من أجل حبه للعلم والتجريب، ويختارها الابن بعد سنوات من الحروب، ليقضي آخر ما تبقى من عمره في صناعة الأسماك الذهبية الصغيرة في معمل أبيه، وتختارها «ريبيكا» في المنزل حتى أن أحدًا لم يعرف إن كانت ما تزال حية، وتختارك العزلة حين تتوغل في داخل كل تلك الحكايات، فيأخذك الشعور بالرغبة في الانفراد بتلك القطعة الفنية الثمينة.

شبح الموت في ماكوندو

لا يكتب غابرييل مشاهد الموت بقلم عادي، لن تفلت من تلك المشاهد عند قراءتها، فمشاهد الموت متكررة على مدار المئة عام، وكل مشهد مهيب إلى حد أنه يجعلك تتوقف عنده… عند تلك الأزهار الصفراء التي كانت تهطل كما المطر في مشهد موت خوسيه الأب فتملأ الشوارع، وصعود روح ريميديوس الجميلة إلى السماء، أو لحظة موت الكولونيل في وسط ذلك الصخب حين رأى وجه وحدته البائسة في ذلك اليوم فأسند جبهته إلى شجرة الكستناء ومات في صمت.

أما عن موت أورسولا زوجة خوسيه، فقد مُنحت قبله فسحة من الحياة، منذ بداية تأسيس المدينة وحتى بعد أن تجاوزت أورسولا المائة وخمسة عشر عامًا، فأنفقت شبابها وشيخوختها معًا حتى ضاق بها الزمن فلم يجد طورًا أكثر تطورًا مما هي عليه، فبدأ في أن يعيدها إلى أطوارها الأولى فأخذت في التضاؤل حجمًا إلى أن أصبحت بحجم تمثال يسوع الطفل كما وصفها أحفاد حفيدها. وفي نهاية الأمر ماتت كما يموت الجميع، كما لو أن الزمان والمكان لم يعودا يتحملانها بعد الآن، كما لو أن البقاء قد ملّها.

في صفحات موت أورسولا، قد تتوقف لتعيد النظر في الرواية ككل، لتسترجع كل الأحداث منذ البداية، أو قد تتوقف بلا سبب، لأن موت أورسولا في بضع صفحات حدث لا يمر مرور الكرام.

بأي قلم يكتب غابرييل؟

في مواضع كثيرة كنت أتوقف عن استكمال القراءة من أجل سؤال واحد: بأي قلم يكتب غابرييل؟ فقدرته على الوصف والتشبيه وإغراقه في الخيال يجعل القارئ ينفصل عن الواقع، يجعله يتوحد مع الشخصيات في حالة إنسانية شديدة العمق.

كتابة ماركيز ترهق العقل وتخترق الوجدان فتصل إلى أعمق نقطة وتتركك في حالة من التيه والرهبة وربما الذعر، ذلك الشعور بالرهبة كما لو أنك اكتشفت شيئاً ثميناً أو عرفت لتوك سرًا قديمًا قدم الإنسانية ذاتها، فطالما كان العالم به أبواب مُقفلة تحوي بداخلها دروبًا من السحر والفن والأساطير عصية على استيعاب العقل البشري، وكما لو أن ماركيز يكتب بقلم خرج من دفة أحد تلك الأبواب، كما لو أن هذا القلم مسحور.

قد تبدو مبالغة، ولكنني لا أزال أقع تحت هذا التأثير… تأثير مئة عام من العزلة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.