انسحب منها الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وأعلن خلفه جو بايدن أنه سوف يعود إليها حين يدخل البيت الأبيض، لكن حين فاز بايدن بالرئاسة فعليًا رفض العودة إليها، وأرسل إلى روسيا تحديدًا يخبرها أن الولايات المتحدة لا تريد سماوات مفتوحة مع روسيا.

السماوات المفتوحة هي اتفاقية عمرها 30 عامًا وقعتها الولايات المتحدة مع روسيا في البداية، ثم انضمت إليها العديد من الدول تباعًا. في عام 1955 عرض الرئيس الأمريكي أيزنهاور المعاهدة على نيكولاي بولجانين، رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي، أثناء لقائهما في مؤتمر في جنيف.

ملخص الفكرة التي عرضها أيزنهاور هو أن تتبادل الدولتان القيام باستطلاعات جوية في سماء كلٍ منهما، وهدف تلك الطلعات الجوية هو بناء الاطمئنان والثقة بين البلدين. فيصبح من حق كل دولة بشكل شرعي مراقبة الهياكل العسكرية والأنشطة التسليحية والتحركات البشرية في الدولة الأخرى.

أبلغ نيكولاي الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف، لكن الأخير رفض رفضًا قاطعًا بسبب شكوكه المُبررة في الجانب الأمريكي، خاصة في فترةٍ كانت الحرب الباردة على أشدها. بعد رفض خروشوف دخلت الفكرة في سُبات لأعوام طويلة، ولم تُبعث للحياة مرة أخرى إلا بعد 34 عامًا.

اقترحها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، لكن هذه المرة جعلها بوش الأب عامة، فهي وفقًا لاقتراحه الجديد سوف تكون اتفاقية مراقبة شاملة لأجواء الدول التي توقع عليها. وكانت الاتفاقية هذه المرة بين حلفين كبيرين، حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، وحلف وراسو بقياة الاتحاد السوفييتي.

الفكرة تتجمد، لا تموت

عام 1992 تم التوقيع الفعلي على الاتفاقية من طرف 23 دولة في هلسنكي، ووقع عليها وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر. لكن التوقيع لم يحوّل الاتفاقية إلى شيء واقعي إلا بعد قرابة 10 سنوات، فلم تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ الفعلي إلا عام 2002 حين وقعت عليها جمهوريتا روسيا الاتحادية وروسيا البيضاء، لتصبح بذلك الاتفاقية سارية حتى توقفها في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2020.

بموجب الاتفاقية، وعبر العديد من الإجراءات المعقدة، يحق لكل دولة مشتركة في الاتفاقية أن تتواجد في سماء كافة الدول الأخرى المُوقعة، هذا التواجد يكون بطائرات استطلاعية غير مسلحة، وغير قابلة للتسليح. ومن حق الدولة صاحبة السماء أن تحصل على نسخة من المعلومات التي تجمعها طائرة الدولة الأخرى الموجودة في سمائها، ويحق لكافة الدول الأخرى كذلك الحصول على نسخة من البيانات المجموعة.

وبالطبع، أول من استغل هذه المعاهدة هي الولايات المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول عام 2002 بالقيام بمهمة استطلاع نادرة وناجحة في سماء روسيا. وبلغ إجمالي الرحلات الاستطلاعية التي قامت بها الدول المشاركة في سماء بعضها البعض قرابة 1500 طلعة استكشافية منذ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، قامت بهم 30 دولة، هي إجمالي الدول التي انضمت للاتفاقية.

لكن قل عدد الدول المشاركة في الاتفاقية بعد قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاقية العام الماضي. ترامب برّر قراره بأن انتهاكات روسيا المتكررة تجعل من اتفاقية السماوات المفتوحة أمرًا بلا معنى. وجاء رد الفعل الروسي مساويًا للفعل الأمريكي فعلّقت روسيا العمل بالاتفاقية حتى تعود واشنطن وتلتزم بها.

بايدن ينتقد ترامب، ثم يقلّده

روسيا أعلنت تعليق العمل بالاتفاقية ككل، لأنها رأت أن المعلومات التي سوف تحصل عليها الدول الأخرى قد تصل إلى الولايات المتحدة بصورة أو بأخرى، وهو أمر غير مقبول للجانب الروسي، لذا اشترطت روسيا للعودة للاتفاقية ككل أن تعود الولايات المتحدة لها.

كانت موسكو تراهن على أن بايدن سوف يعود للاتفاقية بمجرد الفوز بالرئاسة، ولم يكن ذلك رهانًا عبثيًا، فرد فعل بايدن الرافض لانسحاب ترامب من الاتفاقية أوحى للجميع بذلك. ووصف انسحاب ترامب بأنه تجسيد جديد لسياسات ترامب قصيرة الأمد والانفرادية والتي سوف تؤدي إلى تراجع الدور القيادي للولايات المتحدة.

لكن القرار الأكيد صدر في 27 مايو/ آيار 2021 حين أبلغت واشنطن موسكو رسميًا أنها لن تعود للاتفاقية. بالتخلي عن تلك الاتفاقية تتخلى الدولتان عن مبادرة مهمة تُحدد الطموح العسكري لكليهما، ولم يُلجم طموحاتهما العسكرية سوى اتفاقية الحد من الرؤوس النووية والصواريخ النووية النشطة في الترسانة النووية للبلدين والمعروفة باسم نِيو ستارت. الاتفاقية المذكورة كانت ستنتهي في فبراير/ شباط عام 2021، لكن بايدن سارع لتمديدها 5 سنوات إضافية فور دخوله للبيت الأبيض.

لكن بعد إلغاء الاتفاقية الأخيرة بدأ التراشق اللفظي بين البلدين، فاستخدم بايدن مبررات ترامب، بأن روسيا تنتهك القانون الدولي، وأن أفعالها بصفة عامة لا تدل على أنها دولة ملتزمة وتريد بناء ثقة مع الولايات المتحدة. روسيا بدورها قالت إن انسحاب الولايات المتحدة، الذي كان يتوقعه بوتين، لا يوفر مناخًا مناسبًا للحديث عن الحد من التسلّح أو للحديث الودي بين بايدن وبوتين عامةً.

التجسس بإشعار مسبق

خروج عملاقين كروسيا والولايات المتحدة قد يهدد وجود الاتفاقية ككل، لكن حتى تتخذ الدول الأخرى قرارها بشأن البقاء في الاتفاقية من عدمه، فإنها تظل ملزمة بحصتها السلبية والنشطة من المعاهدة. الحصة السلبية هي عدد الرحلات الاستطلاعية التي يُفرض على الدولة قبولها في سمائها، وتتحدد تلك الرحلات بناءً على المساحة الجغرافية لكل دولة. ولا يحق لأي دولة أن تُعلن حظر الاستطلاع في منطقة معينة، بل كل مساحتها الجغرافية متاحة للطائرات المستطلعة.

أما الحصة النشطة فهي عدد الرحلات الاستطلاعية التي تقوم بها الدولة المعينة في سماء الدول الأخرى، ولا يمكن أن تزيد الحصة النشطة عن الحصة السلبية، فالدول تحصل على حق الاستطلاع في سماء الغير بقدر ما تسمح بالاستطلاع في سمائها.

الحيلة الموجودة في الاتفاقية أن الحصة السلبية يتم احتسابها بالوقت لا بعدد الطائرات المشاركة، يعني يجب على كرواتيا مثلًا أن تسمح بالاستطلاع في سمائها لمدة ساعتين، هاتان الساعتان هما حصة سلبية واحدة. سواء شاركت فيه دولة واحدة بطائرة واحدة، أو شاركت في عدة دول بطائراتهم، فسوف يظل حصة سلبية واحدة. لكن في الجهة الأخرى سوف تُحسب حصة نشطة على كل دولة مشاركة في الاستطلاع.

وللقيام باستطلاع يجب على الدولة أن تُقدم إشعارًا مسبقًا قبل 72 ساعة من الوصول للبلد المرغوب في التحليق فوقه. وأمام البلد المضيف 24 ساعة للرد بالقبول، لا مكان للرفض، ويقول للطرف الراغب في الاستطلاع إنه سيسمح له بالاستطلاع باستخدام طائرة البلد المضيف أم باستخدام طائرته الخاصة. وقبل 24 ساعة من بدء الاستطلاع سوف يُقدم الطرف المُستطلع خطة الرحلة، ليكون أمام المضيف 4 ساعات فقط لمراجعتها، وقد يطلب المضيف تغييرات في خطط الطيران لأسباب تتعلق بسلامة الطيران فحسب.

ويكون لدى الطرفين 8 ساعات للموافقة على التعديلات الجديدة، وإذا فشلت يمكن إلغاء الرحلة وتحديد موعد لاحق لها. أما حال الموافقة وسير كافة الترتيبات بسلاسة يصبح للطرف المستطلع قرابة 96 كاملة في سماء الدولة الأخرى، ما لم يتم الاتفاق على عدد محدد من الساعات.

مواصفات خاصة للطائرات

المعاهدة تسمح للأطراف بالتحليق فوق كافة أراضي الدول الأخرى، لكنها تُحدد مناطق محددة للدخول والخروج والتزود بالوقود. كما أنها أيضًا تحدد معايير محددة للطائرات التي سوف تقوم بالاستطلاع، ويجب أن تخضع الطائرة وطاقمها وأجهزتها للفحص الدقيق من الدولة المضيفة، وتحصل على موافقة منها بالتحليق.

فمثلًا تنص المعاهدة على وجود أربعة أنواع فحسب من الكاميرات داخل الطائرة، من بينهم كاميرا تعرض الصورة مباشرة أمام الطيّار، وجهاز استشعار بالأشعة تحت الحمراء. وقد تتفق الدول لاحقًا على إضافة أجهزة استشعار إضافية للطائرات لكن يجب أن يتم ذلك بشكل جماعي، كما أن دقة الكاميرات مُحددة مسبقًا، وأي رغبة في زيادة دقة الكاميرات المستخدمة يجب أن تتم بإشعار مسبق.

كما تفرض المعاهدة على الدولة المُستطلعة بأن تقدم تقريرًا لكافة الدول الأخرى بنتائج استطلاعها، ثم يحق للدول الأخرى شراء البيانات الكاملة لعملية الاستطلاع إذا أرادت ذلك. ولتنفيذ كل تلك الإجراءات توجد لجنة منظّمة تتألف من ممثلين عن كافة الدول المشاركة يتفقون فيما بينهم على عدد الحصص وأي أمور أخرى تتعلق بالمعاهدة.