تعد الأساطير الإغريقية أو أساطير اليونان من أشهر الأساطير في التاريخ وأكثرها خيالاً وإثارةً. أسهمت تلك الأساطير بدورٍ مهمٍ في الأدب اليوناني، وكان أكثرها يدور عن الحب والآلهة. كرّم اليونانيون القدماء الحُب وقدسوه، فكان في غاية الأهمية لديهم، وإن كان مؤلماً ومدمراً ومُميتاً في معظم الأساطير لكنه كان أمراً حيوياً ومهماً للوجود.

إحدى هذه القصص الأسطورية تحكي عن قصة حب «أورفيوس» Orpheus.

مُوسيقاه تطربُ لها الأشجار والأحجار

تروي قصص الأسطورة الإغريقية القديمة أن أورفيوس ابن ربة الفن عند الإغريق، قد عُرف بمهارته في فن الحكمة والسحر، واشتهر بسحر موسيقاه التي من شدة عذوبتها كانت تطرب لها الأشجار والجماد حيث يسير، وتتوقف الأنهار عن جريانها حين تسمع ألحانه الجميلة على القيثارة، وأنه بسبب مقدرته المبهرة تمكّن البحّارون أثناء إحدى مغامراته البحرية أن يمروا من خلال السيرانة (كائنات أسطورية لها رؤوس نسوة وأجساد طيور، يغرون المارة من السفن بغنائهم الساحر لكي تتحطم سفنهم على شاطئ الجزر). وقد كان أورفيوس عند سماعه غناءهم يمسك بقيثارته ويبدأ العزف، وبعذوبة فريدة كان يستطيع أن يجتذب الركاب بعيداً عن السيرانة.

حكاية حُب لم يُكتب لها العيش طويلاً

أحب أورفيوس «يوريديس» كثيراً وتزوجها، ولكن حياته السعيدة معها لم تدُم طويلاً. فـوفقاً للأساطير اليونانية، وفي يوم زفافها، كانت تتجول في الحشائش الطويلة حتى سقطت في عش ثعابين وانقضوا عليها فماتت، وبعض الحكايات تقول، إنها كانت تهرب من إله الصيد الذي طاردها للإيقاع بينها وبين أورفيوس.

اشتد الحزن على أورفيوس حتى عصر قلبه، وظل يجوبُ في الأرجاء عازفاً ألحانه غارقاً في أحزانه يبكي محبوبته، حتى تأثرت الآلهة والحوريات ونصحوه بالذهاب للعالم السفلي. ذهب إلى عالم الموتى عازماً على إرجاع محبوبتِه لعالم الأحياء مرة أخرى واستطاع بسحر موسيقاه التأثير على قلب ملك العالم السفلي وزوجته فاستجاب لرجائه ولكن بشرط واحد، ينبغي أن يلتزم به لتحقيق أمنيته، وهو أن يمضي من فوره صاعداً لدُنيا الأحياء واثقاً أن محبوبته تمشي خلفه، وألّا ينظر خلفه خلال رحلة الصعود، وإلّا اختطفها الأشباح- التي ستلازمها طوال الرحلة- وأعادوها للعالم السفلي مرة أخرى.

وافق أورفيوس وشكره ومضى عائداً لدنيا الأحياء ويوريديس تتبعه، وقبل أن يقترب من الوصول غالبه الشوق لكي يتطلع لوجهه محبوبته التي لم يذقْ للسعادة طعماً مِن دونها، واستدار فجأة بعد أن راوده الشك أيضاً من أنها تتبعه، فلم يكد يفعَل حتى اختطفها الأشباح وأعادوها للعالم السفلي وخسرها من جديد ولكن هذه المرة للأبد.

عقوبة النظر للخلف

عاش أورفيوس باقي أيامه حزيناً يائساً أكثر من ذي قبل؛ لأنه أضاع حبيبته من يديه بعد أن أوشك على الفوز بها، واعتزل النساء. تحكي بعض القصص أنه انتحر حتى يلتقي بمحبوبته في العالم الآخر.

كتب عن هذه القصة العديد من الشعراء الإغريق والرومان، وانتقد أفلاطون أورفيوس بأنه «جبان»؛ فلو كان يُحبها حقاً لما هاب الموت ولختار الموت على الحياة. وعلى مر الزمن أصبحت قصة هبوط أورفيوس للعالم السفلي فكرة متشائمة تقول إن الإنسان لن يستطيع الحصول على ما يتمناه من السعادة إلا في العالم الآخر، وإننا كثيراً ما نكاد نلامس لحظات السعادة ولكن سرعان ما تتبدد في اللحظة ذاتها وتغيب عنّا للأبد.

فكثيراً ما نمضي في هذه الحياة وراء أهدافنا بكل شغف، ونبذل في سبيلها من وقتنا وجهدنا، لكن لأن الإنسان بطبعه «عجُول» فهو متلِهف للحصول على نتائج فورية قبل موعدها الطبيعي، وهذا التسرع وسوء التقدير قد يجعلنا نرتكب من الأخطاء ما يُفسِّد علينا بلوغ أهدافنا ويُبعدها عنّا بعد أن كدنا نحصل عليها.

الرحلة أم الوصول؟

تخيل معي عزيزي القارئ أن تتسلق جبلاً شاهقاً وتكابد حتى الوصول للقمة… أو… أن تهبط بك طائرة فوراً إلى قمة الجبل دون أنْ تكلف نفسك أي عناء… أيُهما أكثر متعة بالنسبة إليك؟

أكتب هذا إلى المهمومين بتحقيق أحلامهم المشروعة لنيل السعادة والأمان… إلى المُتعَبين الذين أتعبهم طموحهم… إلى الحائرين الذين ضاعوا في رحلة البحث عن ذواتهم الحقيقية وتخبّطوا في الحياة حتى عصفت بهم الطرقات يميناً ويساراً… إلى الباحثين عن وجهتِهم… إلى منْ كادوا يتذوقوا لذة سعادتهم المنشودة حتى ضاعت وتبخّرت مِن أيديهم كأنها سراب وما زالوا يبحثون… ما زالوا يبحثون عن سببٍ واحد لينفضوا عنهم تراب اليأس غير عابِئين بالسقوط… إلى الذين ينسجون من هزائمهم خيوطاً جديدة للأمل والصمود.

فنحن في هذه الحياة نسير وفق أقدار الله، وما علينا سوى السعي ومواصلة السير والحركة. هي رحلة إن طالت أو قصرت- ولله، سبحانه، حكمة في التوقيت- ليس بأيدينا سوى الاستمتاع بكل لحظة فيها؛ لأنه إنْ تعجلنا للوصول واستغرقنا في القلق سنكون قد قضينا على أنفسنا، فنعيش في بؤس وحزن، وكما قال الشاعر الألماني «جوته» حين وصف نفسه قائلاً:

أنا كنُجوم السماء لا تمضي في عجلة لكنها تسير سيراً دؤوباً لا يعرفُ السكونْ.

نحن مُطالبين في هذه الحياة بـ الحركة والسعي الدائم؛ لأن السكون هو عجز وموت وفشل. يجب أن نواصل جميعاً الحركة نحو أهدافنا النبيلة، عسى الله أن يكتب لنا أن نجتمع بها… فلا نتعجل وننظر إلى الوراء كما فعل أورفيوس، فتُصيبنا الحسرة والندم… فهل نستطيع أنْ نفعل؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.