«صديقي العزيز

أنا أمر بأكثر فترات حياتي توترًا وتوهجًا أيضًا، أشياء كثيرة تحدث بعد سنوات من الجمود والتيبّس.

ليس كل ما يحدث لي الآن جيد وليس كله رديء، ولكن كان لابد للرديء أن يكون حتى يوجد الحسن والجميل.

الصحة مثلا منحناها في هبوط ملحوظ. حتى أخذت أجهّز نفسي لموت وشيك، من هنا انفتحت قوى وطاقات خفية في الروح ثم بدأت الكتابة. وها أنا الآن شبه متوقف بعد أن كتبت في ليلة واحدة كمًا لا بأس به يكاد يفوق كمًا كل ما كتبت من شعر في حياتي. لماذا؟ لأن الطنين الذي يملأ رأسي من القوة بحيث أنني لا أستطيع السيطرة على نفسي وأختار من بين المواضيع التي أكتبها في رأسي طوال الوقت. بأيها أبدأ وأيها أرجئ إلى حين.

في النهاية أنا سعيد وأرى عن كثب تغيرات كثيرة تحدث في نفسي. في فهمي لنفسي وفهمي للآخرين. حالة من انجلاء البصر أتمنى ألا تكون حالة مؤقتة.

الصحة تابعة لتغيرات مزاجي، ساعةً تكون في الحضيض وأخرى تكون في السماء. ولكن المهم هو أنني صرت أكثر تشبثًا بالحياة من أي وقت مضى»

رسالة إلكترونية من أسامة الدناصوري إلى أحمد يماني – منتصف ٢٠٠٦

ما الذي فعله أسامة الدناصوري ليحوز كل هذا الحب من أصدقائه، وكل هذا الإخلاص من قراءه؟ أسامة الدناصوري، المغمور إعلاميا، واحد من أهم شعراء جيل التسعينيات وأواخر الثمانينيات، هو وأصدقاءه من رواد القصيدة النثرية، إيمان مرسال وعلاء خالد وأحمد يماني. ولد في كفر الشيخ وعاش فيها، فالإسكندرية ثم القاهرة. كان شاعرا صرفا، أحب الشعر ولم يبالِ. كتب مرة يقول أنه لا يحب العمل، وأن الله خلقنا لا لنعمل بل لنستريح من عناء حيواتنا السابقة، وأن أباه كان لا يولي اهتماما كبيرا لقدرته على إنجاز الأشياء، عكس أخيه النشط المتيقظ «بينما أنا كسول ودائم السرحان والهرب من أي التزام».

هذا العالم الداخلي الذي سيطر على الدناصوري طوال حياته، بدأ من مرضه المزمن في المثانة، الذي انقلب عليه بفشل كلوي عشر سنوات كاملة قبل أن يسلم الروح. معاناته مع المرض أورثته، عكس المتوقع، هدوءا بوذيا، تحدث عنه بحيادية وربما لا مبالاة، تسليمٌ للأمر الواقع، لا تعلم تحديدا إن كان من فرط اليأس أم الأمل.

لم يحب كليته ودراسة العلوم والجيولوجيا فانشغل بكتابة الشعر والحفلات الثقافية، كتب شعرا عاميا في البداية، ثم بدأ بكتابة القصيدة النثرية الفصحى، وأخرج أربعة دواوين (حراشم الجهم ١٩٩٠ – مثل ذئب أعمى ١٩٩٦ – على هيئة واحد شبهي ٢٠٠١ – عين سارحة وعين مندهشة ٢٠٠٣)

كان آخر ديوان هو أول ما قرأته له، أهداه لي صديق، وفوجئت بالاسم، ظللت أقول لنفسي: كيف هذا؟ عين سارحة وعين مندهشة؟

وقرأت الديوان كله لأعرف كيف يكون هذا الموقف، وما هي ملاباسته، متخوفا من أن تكون جملة العنوان غير موجودة بداخله. حتى وصلت إلى قصيدة “كمن يعتذر”

«لكن وجهَكِ مجهد

معذَّب ومجهد

دائمًا يبدو كمن يعتذر

عن الفتنة المخاتلة التي تطلّ منه

“لكن وجهَكِ مجهد
معذَّب ومجهد
دائمًا يبدو كمن يعتذر
عن الفتنة المخاتلة التي تطلّ منه

أتراها في نظرة العين؟

أم في انفراجة الشفتين أثناء الكلام؟

أم يا ترى في لون البشرة الشاحب؟

.

معذرة:

هل يعلو الحاجب الأيمن قليلًا؟

.

يا الله!!

.

(عين سارحة

وعين مندهشة)!»

هكذا أدهشني الدناصوري، في كل قصيدة من هذا الديوان، وفي كل شعره. هذه الطزاجة المذهلة، في العناوين وفي متن القصيدة، وفي نهاياتها الصادمة غالبا. يلعب الدناصوري كثيرا على المفارقة، حتى أن قصائده تبدو أحيانا كنكتة، من فرط المفارقات الساخرة، الصادقة، والسوادء.

« خذني معك إذن أيها الشاعر

سأدور خلفك من مقهى لمقهى

ومن شارع لشارع

لألملم تلك الزوائد الروحية

التي تتساقط من جسدك على الأسفلت

.

سأملأ لها وعاء عميقًا من دمي

وأدعها تسبح أمام عينيّ

كسرب صغير من الأسماك

.

إنني أبكي لأجلك أيها الشاعر

أبكي

لكنني أقسم أنك لو عرفت حكايتي

لبكيتَ أنت.»

عاش أسامة الدناصوري كما يكون الشعراء الكلاسيكيون الذين نكتب عن معاناتهم، عرف المرض وترصد الموت، وحوى بداخله مزيجا وحشيا من تأمل الذات والعالم والايروتيكية والغربة، يكتبه بسخرية غالبا، وببساطة. يمزج الفصحى بكلمات عامية دون أن تكون خارج السياق أبدا، بل تقرأ مرة أخرى فلا تجد كلمة بديلة لتضعها في هذا الموضع. ربما كان هذا سبب ارتباط كل من رأى الدناصوري وقرأ له به. التلقائية والصراحة الصادمة، يفعل هذا ببساطة، كأنه لا يقول شيئا.

«ما أحوجني الآن لكتابة قصيدة

ليس لأن شيطان الكتابة يتلبّسني

ولا لأني أهيم عشقًا بحبيبٍ لا مبالٍ

.

لا

فقط لأني وحيد

ولكني خجول

أحجم، عادة، عن مبادرة أصدقائي

.

«كان لي صديق

أكلِّمه وقتما أشاء

لكنه الآن خارج البلاد”.

.

بينما لو كتبتُ قصيدة جديدة

لكان من حقي إذن

أن أباغت أيًا منهم في أي وقت

وإن انتزعتُهُ من النوم

بلا أدنى شعور بالخجل

بل بغبطة كافية

لجعله يجلس مقرفصًا لساعاتٍ طويلة

مشغولًا باقتسامها معي.

.

لست سيئًا

أنا أكتب القصائد من أجل أصدقائي.

.

(.. إن شئتم الصدق

أكتبها في الحقيقة من أجل نفسي.)

.

كتبتُ ذات مرة عن الكلاب

لا لأن الكلاب أصدقائي كما قد تظنون

بل لأن أصدقائي كلاب.

كتبتُ ذات مرة عن الكلاب
لا لأن الكلاب أصدقائي كما قد تظنون
بل لأن أصدقائي كلاب.

.

هل أكتب إذن عن أصدقائي؟

لكنني حتى الآن

مازلت أجهل عنهم الكثير

آآآه، ليت أصدقائي

كلاب.»

كان أسامة، إبداعيا، يتدرج في هذه الصراحة، من الفجر الوحشي في ديوانيه الأولين، وحتى هذا الهدوء المتصالح في ديوانه الأخير، تهاجمه الذكريات ومازوخيته وغربته، فيكتبها كما هي، كأنها مشهد في قصة قصيرة، اللقطات البسيطة التي تمر بعقلك، الكلمات التي يخبرك بها آخرك في عمق تعاستك، يمسكها الدناصوري ليجعل منها قصيدة كاملة، فلا يصبح شعره سطحيا في الحزن والمواساة، بل بارزا، كدمامل مؤلمة تؤرق صاحبها.

«عوِضا عن لعبة التذكّر

والحنين، الدامية المملّة

بدءًا من الليلة

سوف أحلم بكِ

ها هي تأتي من بعيد

سابحةً نحوي بعزم وإصرار

سمكةُ القرش المختالة الرائعة

.

لا

بل سمكة أبو سيف

شيطان الماء العابس

بحربته المشرعة.

.

آآه

ها أنا مختَرَقٌ من صدري مرة أخرى

أشق بظهري الأمواج

مخلِّفا نُهيرا صغيرا من الدماء.

.

ثم

ها هي القروش النهمة

تتكالب لتبدأ الوليمة.

.

يا إلهي

.

حتى في الحلم

تطاردني

نفس الذكريات!!»

هذا الصدق، وهذه البساطة في التعبير عن دواخله مهما بدا شهوانيا وساخرا ومغايرا، أعطى كلماته طعما جديدا، مدهشا، وثباتًا في القلوب. شخصيا، لم يهز روحي ديوان مثل ديوانه “عين سارحة وعين مندهشة” و”أحسد الموتى” لياسر الزيات، حتى أنني حتى الآن، وبعد ست سنوات من قراءة أول قصيدة له، مازلت أستيقظ أحيانا لأجد نفسي أردد سطوره، أو أراها تمر بخاطري مع موقف هنا وهناك.

بعد ديوانه الأخير، ظل لثلاث سنوات منقطعا عن الكتابة، ربما لانقطاع الالهام، أو لتتابع الألم والمرض، حتى صحى في يوم ما محموما بالكتابة، فظل يكتب لأيام وأسابيع، نثرا كاملا، عن حياته كلها وما رآه وما يراه وما حل به. وخرج من ذلك كتابه الأخير “كلبي الهرم، كلبي الحبيب”. رواية أو سيرة ذاتية أو نص غير قابل للتصنيف، لا يهم، لكنه كتب ليواجه حياته وفنائه، متشبثا بآخر ما يمكن التشبث به: أن يكتب المرء ذاكرته فيتحقق وجوده كاملا.

ومات قبل نشره، نُشر الكتاب بعد وفاته بأشهر، وأكمل فيه ما بدأه منذ أول قصيدة: التعري تماما.

تعرى من كل شيء، من مرضه، وأفكاره، وتصرفاته، وعلاقته بجسده، أكثر أسراره خصوصية، أدخلنا معه المستشفيات وغرفة نومه والحمام، وروحه كلها، ببساطة وهدوء، كان يودع كل شيء، أو ربما كان يظن أنه هكذا يقترب من الحياة أكثر، ويزحزح نفسه عن الموت أكثر.

رحل عنا في الرابع من يناير ٢٠٠٧، وفي العام السابق أعلنت دار ميريت جائزة باسمه، تهدى للشعراء الشباب الذين لم ينشروا بعد. تقدم الأعمال في شهر مولده، أغسطس، ويعلن الفائز في ذكرى رحيله، وقد فاز بالدورة الأولى منذ أيام الشاعرين نهى البلك وأحمد عبد الرحيم.

وفي العام السابق أيضا، أخيرا، تم تدشين موقع إلكتروني باسم أسامة الدناصوري، يحوي أعماله كلها، ومسوداته، وما كُتب عنه، فأصبحت كلها متاحة للجميع، بعد أن نشرت ميريت أعماله الكاملة منذ ست سنوات ونفذت وأصبح البحث عنها صعبا.

كان ٢٠١٥ عاما سعيدا على الدناصوري، وعلى محبيه، وعلى قلوبنا التي توحدت مع روحه الاستثنائية، حتى أننا لا نجرؤ على أن نرثيه، بل أن نتماهى مع عريه، متجاوزين تلك السخافات المتتالية، التي نسميها حياةً.

«أنظر إلى حالي، فأرى كلبي الهرِمْ، كلبي الحبيبْ الذي يرقد بجواري على السرير، ساندًا رأسه على يديه المفرودتين، وناظرًا إليّ طوال الوقت بعينين ناعستين، يفاجئني أحيانًا وأنا ذاهلٌ عنه، بإفاقته، وارتعاشة عضلات جسده، وطرقعة أذنيه، ونباحه القادم من عالم آخر. يشرئب محاولًا لمس كتفيّ بيديه، واضعًا عينيه في عينيّ بالضبط، كأنه يقول لي: أنا هو، كلبك السلوقي الذي طالما قنص من أجلك الطرائد، وطالما ملأك بالزهو الصامت، وسط بقية الصيادين. ثم لا يلبث أن يعود إلى سُباته العميق. نمْ يا صديقي. نمْ وحرّرْ نفسك من الخجل الذي لا يليق بك. ومن إحساسك الدائم بالتقصير، وخذلانك لي في لحظات حرجة. حرّرْ نفسك من وهم إرضائي. واعلم بأنني فخور بك. وبأننى راضٍ تمامًا. ولكي تطمئن: اعلم أيضًا بأنني بتّ لا أهوى الطّراد. وبتّ لا أنخدعُ بمرأى الطرائد التي تتقافز أمام عينيّ طوال الوقت. الطرائد فى الرأس يا صديقي. إنها تسقط من تلقاء نفسها بين يديّ الآن كلما رغبتُ فيها. فقط عليّ أن أرغب فيها بقوة.»