تعتبر الأزمة المصرية من الأحداث التي شكّلت تاريخ الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، حيث هدّدت الكيان العثماني الذي أجمعت القوى الأوروبية على ضرورة الحفاظ عليه في مؤتمر فيينا 1815 (في نهاية الحروب النابليونية)، حيث مرت العلاقة بين السلطان العثماني ومحمد علي باشا بمرحلتين: مرحلة الخضوع التي حارب فيها الباشا تحت اللواء العثماني، ومرحلة التوسع التي مثّل فيها محمد علي تهديداً للكيان العثماني، مما أجبر الدول الاوروبية على التدخل.

حرب الشام

لا يمكن النظر لحملة الشام بمعزل عن الإجراءات الاقتصادية التي اتبعها محمد علي منذ سيطرته على مصر، ومهّدت لمشروعه التوسعي، وكانت البداية بنظام الاحتكار الذي مكّنه من إحكام قبضته على الموارد الداخلية لولايته مما وفر له تمويلاً هائلاً، تزامن هذا مع إدخال القطن طويل التيلة عام 1821 الذي أكمل به بناء قوته المالية لتكوين جيشه الحديث الذي ظهر في حملتي المورة والشام[1]. فالأولى كانت بغرض استكشاف قدرات جيشه، أما الأخرى، فجاءت من أجل إمداده بالأخشاب اللازمة لبناء أسطول جديد محل الذي خسره في نافارين، واعتبارها حصناً عازلاً إذا حاولت الدولة العثمانية عزله عسكرياً.[2]

أعطت الصراعات بين ولاة الشام فرصة لمحمد علي ليتدخل في شئونها، ويعود الأمر لعام 1810 عندما توسط محمد علي لدى السلطان لإعادة يوسف كنج (والي دمشق) لباشويته بعد الصراع مع والي صيدا (سليمان باشا)، وأصبح الباشا متدخلاً في أمور الولاية الداخلية، ولم تغب تلك التدخلات عن أعين السفراء الأوروبيين ومنهم (دروفيتي) السفير الفرنسي الذي أكد لحكومته: تطلع الباشا لينال الشام حتى لو دفع الأموال.[3]

وفّرت الأحداث التي مرت بالدولة العثمانية، كالقضاء على الإنكشارية، والحرب الروسية 1828، فرصة من أجل مشروع الباشا التوسعي، تزامن هذا مع النتائج التي تمخضت عن حرب المورة، والتي أثبتت ضعف الدولة العثمانية، وسوء إدارة قيادتها لميدان القتال وعدم سماعها للتحذيرات الأوروبية التي تأكدت بإغراق الأسطول المصري في نافارين[4]. وجاء تحرك الحملة المصرية عام 1832، وأتت النتيجة بانتصارات لصالح الجانب المصري بقيادة (إبراهيم باشا) رغم محاولات العثمانيين تدارك خسائرهم التي استمرت حتى موقعة قونية 1832.[5]

كوتاهية

مثّلت انتصارات القوات المصرية مفاجأة لمحمد علي، الذي تقاطع مشروعه مع طموحات ابنه العسكرية. حيث أراد محمد علي جعل الشام خط دفاع، أما (إبراهيم) فرأها فرصة لإسقاط الدولة العثمانية.[6]

تمخضت رؤية محمد علي عن عدة أسباب منطقية: تضارب رسائل إنجلترا رغم العلاقات التجارية التي ربطتها بالباشا، وحاجتها إلى محصول القمح في ظل غلق السلطات العثمانية لميناء البوغازين بعد انخفاض المحصول داخل أراضيها[7]، والسبب الثاني: مرتبط بسياسات إنجلترا الأوروبية، وحاجتها للأسطول لفرض عقوبات تجارية على هولندا[8]. ورغم إرسال السلطان لمبعوثيه للدول الاوروبية، وعلى رأسها (إنجلترا) إلا أنها لم تقدم له مساعدات للأسباب السابقة، ومن أجل التوصل لاتفاق عُقدت مفاوضات بوساطة فرنسية حتى لا تعطي فرصة للروس لحل المشكلة بمفردها، والتي تدخلت بدورها من أجل قضية المضايق.

ضغطت فرنسا علي الباشا من أجل توقيع اتفاقية كوتاهية 1833، فحصل بموجبها علي حكم مصر والشام، ورغم أن اتفاقية كوتاهية جاءت تسوية مؤقتة، فإنها عبّرت عن تضارب وجهة نظر الباشا، ولكن كيف؟

أراد الباشا بناء شرعيته بناءً على قوته العسكرية التي أحرزت انتصارات، لكنها لم تُترجم لواقع في ظل السياسة الأوروبية التي اتخذت في مؤتمر فيينا 1815 قراراً بالمحافظة على الكيان العثماني، وهذا ما لم يدركه محمد علي جيداً، وعبّر عنه بقوله: رغم أنني كنت أفهم في الشئون التجارية الأوروبية فإنني جاهل حين يصل الأمر إلى الوضع السياسي[9]. فظلت شرعيته مبنية على تجديد الفرمان السنوي مع سعيه لحماية سلطته من مؤامرات البلاط العثماني، خصوصاً من خسرو باشا (العدو القديم الذي أزاحه محمد علي من منصبه في مصر).

القوى الأوروبية

تشكل الموقف الأوروبي منذ فترة طويلة، ولم يكن وليد لحظة الصدام المصري، وبالتتبع لموقف إنجلترا وروسيا وفرنسا، نستطيع أن نرسم سياقات القوى الفعالة في الشأن المصري، فجاءت الحروب الروسية العثمانية في القرن الثامن عشر لتمثل تهديداً لمصالح إنجلترا التجارية الهندية، فعملت على ضرورة الحفاظ على الهند بعيداً عن تهديدات الروس، وبنت سياستها على ضرورة حماية الكيان العثماني المسيطر على الطريق البري لمصالحها.

جاءت اتفاقية هنكار اسكلاسي 1833 لتجعل صناع القرار، وعلى رأسهم «بالمرستون»، وزير الخارجية البريطاني الأسبق، وسفيره (بونسونبي) في إسطنبول، يعيدون النظر بشأن المسألة المصرية، فرغم العلاقات التجارية مع الباشا فإن الاهتمام البريطاني بمشروعات الباشا الخارجية عائد لفترة ما قبل الصراع العثماني، وأبرز ملامحها: سيطرته علي البحر الأحمر بعد انتصاراته علي الوهابيين ليصبح سيد الجزيرة العربية[10]، ورغبتها في استعادة دورها المتوسطي، فرأت مشروع محمد علي ملائماً من أجل تدعيمه، وتقاطعت خطوط المسار السياسي مع الرؤية الاقتصادية التي نمت في أوروبا، واعتمدت علي تفكيك شبكات الاقتصادي الشرقي، وفي القلب منها الدولة العثمانية واحتكاراتها[11]. ومع تنامي المنتجات الأوروبية بفضل ثورتها الصناعية، وحاجتها إلى المواد الخام التي سيطرت عليها الاقتصاديات الشرقية، ومنها دولة محمد علي، رأت ضرورة إفساح المجال للتجارة الأوروبية الحرة، خصوصاً أن الباشا رفض مساعي سابقة من أجل تخفيض الضرائب على التجار الأوروبيين.[12]

جاء عام 1838 في صالح الدولة العثمانية، رغم إفصاح الباشا عن رغبته في الاستقلالية عن الدولة العثمانية فإن توقيع معاهدة بلطة ليمان قد شكّلت ملامح العلاقات الأوروبية-العثمانية، فبفضلها أنهت نظام الاحتكار في البلدان العثمانية، والسماح بالتبادل التجاري الحر دون القيود الشرقية، ورغم التردد العثماني فإن الأزمة المصرية سهّلت فرصة توقيعها.

الجولة الأخيرة

أتت الجولة الأخيرة في ظروف معقدة، فمع هزيمة نصيبين عام 1839، وفقدان الدولة لسلطانها، وتولي عبد المجيد الأول السلطة، ومع تسليم الأسطول للباشا في الإسكندرية، أعطت تلك المعطيات الصراع المصري-العثماني منحى جديداً، فلأول مرة تنهار السلطة العثمانية على كافة الأصعدة. مما استدعى الدول الأوروبية لإدارة الصراع، مؤكدةً حماية الكيان العثماني، رغم تباعد وجهتي النظر البريطانية والفرنسية.

وُقعت اتفاقية لندن 1840 دون فرنسا، إلا أنها ساهمت في خلق كيان مصري خاضع للدولة العثمانية حتى عام 1882، وسمحت في الوقت نفسه بإخراج القوات المصرية من الشام، لتصبح الأخيرة مجالاً للصراعات العثمانية-الأوروبية.

بتقييم الدور البريطاني، فلابد أن نشير إلى المجهودات التي مثّلها الشاب (مصطفي رشيد)، سفير إسطنبول والصدر الأعظم فيما بعد، الذي عبّر عن انحيازه لبريطانيا في مواجهة كل من: انحيازات خسرو (قائد الجيش العثماني) الروسية، وتهديدات محمد علي، فاستطاع بجدارة إدراك لحظة الضعف العثماني، وملامح السياسة الأوروبية، على عكس الرجلين، مع حاجة الدولة لفترة إصلاح جديدة، ويعتبر مصطفى رشيد أهم رجال فترة الإصلاح العثماني، وواضع «فرمان الكلخانة» عام 1839 الذي دشن عملية الإصلاح.

تشكّلت خيوط السياسة الأوروبية منذ مؤتمر فيينا معلنة عن ميلاد سياسة أوروبية جديدة معتمدة على الدبلوماسية، ورغم غياب الطرف العثماني فإنه أتى في سياقات المؤتمر باعتباره منطقة مهمة للنفوذ الأوروبي، وبالأخص بريطانيا، التي بنت سياساتها الخارجية على ضرورة حفظ التوازن الدولي الذي يمر بالدولة العثمانية، والتي شكّلت أيضاً طريقاً مهماً لمصالح بريطانيا في الهند، وأتت المسألة المصرية كتهديد لتوازن القوي، ومن ناحية أخرى ساهمت التدخلات الأوروبية في بلورة السياسات العثمانية، وأفقدتها صفة الاستقلالية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. هيلين ريفلين، “الاقتصاد والادارة في مصر”، ترجمة: أحمد عبد الرحيم مصطفي ومصطفي الحسيني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2016، ص 125.
  2. محمد سهيل طقوش، “تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب علي الخلافة”، دار النفائس، ط3، بيروت، 2013 ، ص 350.
  3. خالد فهمي، “كل رجال الباشا”، ترجمة: شريف يونس، دار الشروق، ط5، القاهرة، 2015، ص 99.
  4. عبد الرحمن الرافعي، “عصر محمد علي”، دار المعارف، ط5، القاهرة، 1989، ص 218.
  5. خالد فهمي، مرجع سبق ذكره، ص 113.
  6. محمد رفعت عبد العزيز، “الجيش المصري وحروب الشام الأولي”، عين للدراسات والبحوث الانسانية، ط1، القاهرة، 1999، ص 53.
  7. هيلين ريفلين، مرجع سبق ذكره، ص 251.
  8. خالد فهمي، مرجع سبق ذكره، ص 124.
  9. خالد فهمي، مرجع سبق ذكره، ص 403.
  10. خالد فهمي، مرجع سبق ذكره، ص 408.
  11. هنري لورنس وآخرون، “أوروبا والعالم الإسلامي”، ترجمة: بشير السباعي، المركز القومي للترجمة، ط1، 2016، ص 388.
  12. هيلين ريفلين، مرجع سبق ذكره، ص 261.