في مقالٍ سابق (نُشر على موقع إضاءات)، تحدّثنا عن معاهدة لندن 1840، التي وقّعتها وفرضتها على مصر بالقوة كل من بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا، وقد حدّدت هذه المعاهدة وضع مصر الدولي إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914، وقد جعلت الاتفاقية لمصر شخصية دولية، ورفعتها من ولاية إلى دولة مستقلة مقيدة بسيادة اسمية من الدولة العثمانية.

هذه التبعية الاسمية التي ربطت القاهرة بإسطنبول سوف تستفيد منها مصر كثيراً، وتحميها من أخطار مُحدقة، كادت تصل إلى خلق مستعمرة فرنسية على ضفاف قناة السويس، واحتلال الحركة الصهيونية لشمال سيناء.

مستوطنة فرنسية على ضفاف قناة السويس وترعة الإسماعيلية

خلال سنوات الاحتلال الفرنسي للقاهرة، فكر الفرنسيون في شق قناة بحرية تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر مباشرة، بيد أن المشروع أخفق لخطأ مساحي وقع فيه المهندس الفرنسي بأن منسوب البحر الأحمر يرتفع عن منسوب البحر الأبيض بتسعة أمتار.

رفض محمد علي ومن بعده عباس الأول إحياء المشروع، حتى نجح المهندس الفرنسي ديلسيبس (1805-1894) في الحصول على موافقة سعيد باشا بشروط مجحفة. الخطير في مشروع القناة أن فرنسا لم ترد به فقط حفر قناة بحرية تصل البحر المتوسط بالأحمر، وإنما خلق «مستعمرة فرنسية»، تُحقِّق بها ما أخفقت فيه حملة بونابرت العسكرية (1798-1801).

المشروع الفرنسي اتخذ شكل مثلث، قاعدته تستند على طول مجرى القناة من السويس إلى بورسعيد، وتمتد رأسه عبر ترعة الإسماعيلية إلى القاهرة، إلى جانب امتلاك أراضٍ في «بولاق»، ميناء القاهرة النهري، وعقارات في دمياط، أحد موانئ مصر المهمة على البحر المتوسط. [1]

في هذا السياق يمكن إدراك مغزى اشتراط نص حفر القناة منح الشركة الفرنسية أراضي على ضفتي القناة والترعة العذبة بعرض كيلومترين. فتخلق نواة المستوطنة الفرنسية، تستدعي فرنسا آلاف العمال الفرنسيين، وهؤلاء بالتدريج سوف يستدعون أقاربهم. وباستغلال الامتيازات الأجنبية، تتمتع المستعمرة باستقلال في التشريع والقضاء والإدارة، مما يؤدي إلى تكوين حكومة فرنسية داخل الأراضي المصرية. [2]

خاض إسماعيل، يسانده الباب العالي، صراعاً لمنع احتلال منطقة برزخ السويس، بإنقاص مساحة الأراضي اللازمة لاستغلال وتشغيل القناة البحرية. استفادت الدولة العثمانية من اشتراط موافقة السلطان على حق الامتياز، ولأن السلطان لم يكن قد صدق على المشروع، فكان موقف شركة القناة في بداية عهد إسماعيل عام 1863 غير شرعي من الناحية القانونية. [3]

في 6 إبريل/نيسان 1863 أصدر الباب العالي مذكرة توضح شروطه للتصديق على امتياز حفر القناة، وهي: أولاً، وجود قرارات دولية تضمن توفير الحياد التام للقناة، وثانياً، وجود شروط تحافظ على المصالح المهمة المطلوب حمايتها. وانتقدت المذكرة أعمال السخرة في حفر القناة، والتنازل للشركة عن كل الأراضي المجاورة للقناة مع الترع الموجودة فيها:

ويترتب على ذلك أن مدن السويس والتمساح وبورسعيد، وكل الحدود مع بلاد الشام، ستقع بالضرورة بين يدي شركة مساهمة لا تحمل اسمها، وتتكون معظمها من أجانب خاضعين لتشريعات وسلطات الدول التي يتبعونها. إذاً، فلم يتبق على الشركة إلا إنشاء مستعمرات تقع على نقاط مهمة من أراضي الدولة العثمانية وتكون شبه مستقلة عنها. [4]

مع تأزم الموقف بين إسماعيل والشركة، ارتضى إسماعيل اللجوء إلى التحكيم الدولي، وفي الواقع لم يكن تحكيماً دولياً، إذ لجأ إسماعيل إلى إمبراطور فرنسا نابليون الثالث، فكان هو الخصم والحكم، فقد كان معروفاً عنه تأييده للشركة الفرنسية وعطفه على ديلسبس. [5]

جاء حكم نابليون الثالث في صالح الشركة الفرنسية، وأكد تعاطفه مع مشروع المستوطنة الفرنسية، إذ جعل للشركة ملكية 23 ألف هكتار تقريباً، منها 10264 هكتاراً على جانبي القناة البحرية، 9600 هكتار للترعة العذبة، و3000 هكتار لمباني الشركة. [6]

أرسل الباب العالي عثمان باشا نوري بصفته مندوباً عنه لكي يدرس المسألة على أرض الواقع. في 27 ديسمبر/كانون الأول 1864، أرسل المندوب العثماني تقريراً للصدر الأعظم قدّر فيه مجموعة الأراضي اللازمة لتشغيل القناة البحرية بما لا يتجاوز 1784 هكتارًا فقط، وهو رقم ضئل مقارنةً بالرقم الذي تقدره فرنسا وشركتها بـ 10264 هكتاراً، والترعة الحلوة تحتاج إلى 597 هكتاراً فقط، مُقدِّراً المساحة التي يمكن أن تعطى للشركة بـ 651 هكتاراً فقط طوال المدة اللازمة لتنفيذ الأشغال في القناة البحرية. [7]

بعد مغامرات عديدة، وفي يناير/كانون الثاني 1866، وقّع إسماعيل اتفاقاً مع الشركة الفرنسية يسمح فيه للشركة بالاحتفاظ بمساحة 10 آلاف هكتار، كما جاء في قرار التحكيم، وفي المقابل تتنازل الشركة عن الترعة الحلوة (ترعة الإسماعيلية) والأراضي الواقعة على ضفتيها، واعترفت الشركة للحكومة المصرية في أن تشغل أي موقع استراتيجي تراه ضرورياً للدفاع عن البلاد، وأن تشغل أي موقع تراه مناسباً لتُقيم عليه خدماتها الإدارية من بريد وجمارك وثكنات عسكرية. [8]

الدولة العثمانية تنقذ مصر من الاحتلال الصهيوني

مع تأسس الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر، سعت إلى الاستحواذ على فلسطين بطرق أبواب السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (حكم 1876–1909)، بيد أنها أخفقت في الحصول منه على شيء. طرح الصهاينة ثلاثة بدائل للقفز على فلسطين مستقبلاً: جزيرة قبرص، أوغندا، منطقة العريش في شبه جزيرة سيناء.

في أوائل يونيو/حزيران 1902، توجّه تيودور هيرتزل (1860–1904)، مُؤسِّس الحركة الصهيونية، إلى لندن، ودخل في مباحثات مع الحكومة البريطانية للحصول على أرض يتجمع فيها اليهود. كانت لندن في مأزق، فقد تدفق إلى بريطانيا 100 ألف يهودي، فخلقوا مشاكل اقتصادية في البلاد، وأثاروا استياء الطبقات العاملة البريطانية، فالعمال اليهود على استعداد لتقاضي أجور أقل. في الوقت نفسه لا تستطيع الحكومة إغلاق باب الهجرة لأنه قد يلقى معارضة من الرأي العام البريطاني.

لحل المشكلة اليهودية في بريطانيا، وخلق كيان وظيفي يخدم المصالح الاستعمارية البريطانية وافقت لندن على تحويل أفواج اليهود إلى منطقة تتفق عليها مع الحركة الصهيونية. في لقاء جمع بين هيرتزل ووزير المستعمرات البريطانية جوزيف تشمبرلن (1836–1836)، رفض الوزير البريطاني اقتراح هيرتزل بنقل اليهود إلى قبرص، خشية إثارة مشكلات مع اليونان وروسيا، ومقاومة أهلها المسلمين. اقترح هيرتزل تكوين شركة يهودية في سيناء والعريش، فأحاله الوزير البريطاني إلى اللورد كرومر مُمثل الاحتلال البريطاني في القاهرة.

في أواخر يناير/كانون الثاني 1903 جاءت بعثة صهيونية إلى القاهرة، ودخلت في مفاوضات مع الاحتلال البريطاني بشأن إقامة مستوطنة صهيونية في العريش، في مساحة تبلغ 630 ميلاً مربعاً، تكون نقطة وثوب على فلسطين. مكثت اللجنة شهراً في سيناء، وفي 26 مارس/آذار 1903 كتبت تقريرها في الإسماعيلية، وقد قلّل من عدد سكان سيناء، واقترح تعميرها من خلال نقل مياه النيل إليها عبر سحّارات تمر من تحت قناة السويس، وإقامة خزانات تخزن مياه الأمطار التي تهطل على جبال سيناء.

بناءً على تقرير اللجنة جرت صياغة مشروع الاحتلال، وقد تخفّى في رداء تأسيس شركة يكون من حقها احتلال الأرض الكائنة شرق قناة السويس، يحدها من الشمال البحر المتوسط، ومن الشرق الحدود العثمانية، ومن الجنوب خط 29 درجة، وتضم من الشرق خليج السويس، ومن الغرب منطقة العقبة وجبال العقبة (البند الأول). مدة الامتياز 99 سنة (البند الثاني) وللشركة الحق في استغلال الأراضي (البند الثالث) يصبح المستعمرون القادمون إلى المنطقة عن طريق الشركة من الرعايا المحليين (البند الرابع) يصرح للشركة إنشاء موانئ وخطوط سكك حديدية وتلغراف وتليفون، وكافة المشروعات ذات المصلحة العامة (البند السابع) للشركة حق تحصيل رسوم الموانئ مع إعفاء بواخر الحكومة المصرية (البند الثامن) يحق للشركة تجديد الامتياز لمدة 99 سنة أخرى (البند الحادي عشر). [9]

جاء رد الحكومة المصرية على مشروع إنشاء مستوطنة لليهود في سيناء في رسالة بعث بها بطرس غالي وزير الخارجية في حكومة مصطفى رياض باشا إلى مندوب هيرتزل بالقاهرة المستر جرينبرج:

القاهرة في 23 فبراير/شباط 1903: إن حكومة حضرة صاحب السمو الخديوي أخذت علماً باقتراحاتكم بشأن الحصول على امتياز لإنشاء شركة تقوم باستيطان اليهود في شبة جزيرة سيناء. إلا أن الحكومة المصرية لا تستطيع وفقاً للفرامات الشاهانية لأي سبب أو مبرر التنازل عن جزء أو كل من الحقوق المتعلقة بالسيادة، ولذا فإنه يجب أن تستبعد بصفة قاطعة كل فكرة ترمي إلى الحصول على اتفاقيات من هذا النوع. [10]

وهكذا رفضت الحكومة المصرية المشروع الصهيوني متعللة بالفرمانات العثمانية. وللتخلص من ضغط الحركة الصهيونية، وحتى لا تُتهم حكومة القاهرة ولا اللورد كرومر بمعاداة الصهيونية والسامية، تذرّع الفريقين بصعوبات فنية تتعلق بنقل المياه إلى سيناء عبر سحّارات تمر أسفل قناة السويس، وعدم الجدوى الاقتصادية من إقامة خزانات في شمال سيناء لخزن المياه المتساقطة على الجبال هناك، وصعوبات سياسية خشية إثارة مشاكل مع الباب العالي.

في 14 مايو/أيار 1903 أرسل اللورد كرومر إلى وزير الخارجية البريطاني لورد لاندسدوان (1845–1927) تقريراً مُفصلاً شرح فيه كل تطورات المشروع الصهيوني في سيناء، والأسباب الفنية لرفض المشروع، وأن معارضة القاهرة لا ترجع إلى شهور معاد لليهود، بل تستند إلى أساسين:

  1. الأول: إنها لا تعتقد في الإمكان نجاح مشروع كهذا، وتشاركها في الرأي كل الجهات المختصة سواء كانت أهلية أو بريطانية.
  2. الثاني: من المشكوك فيه إمكان التوفيق بين مشروعات هيرتزل ومصالح الباب العالي، إذا ما سُمح بهجرة أناس متعددي الجنسيات إلى شبة جزيرة سيناء، لأسباب ومبررات هي قطعاً ذات طابع سياسي، وسيؤدي إلى مضاعفة الصعوبات القائمة الآن. [11]

أنقذت تبعية مصر الاسمية للدولة العثمانية من مشروع تأسيس مستوطنة يهودية تبتلع غالبية مساحة سيناء، وتتخذها نقطة وثوب إلى فلسطين.

المراجع
  1. محمد صبري السربوني، الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل والتدخل الأنجلو/ فرنسي (1863–1879)، ج 1، ترجمة ناجي رمضان عطية، الطبعة الأولي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010)، ص 125: 132.
  2. الشناوي، السخرة في حفر قناة السويس، (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 2010)، ص 7. بيتر كرابيتس، إسماعيل المفتري عليه، ترجمة فؤاد صروف، (القاهرة: دار النشر الحديث، بدون تاريخ)، ص 55، 56.
  3. السربوني، ج 1، ص 408.
  4. مرجع سابق، ص 424.
  5. عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، الجزء الأول، الطبعة الثانية، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1367هـ/ 1948)، ص 90.
  6. الرافعي، ص 91.
  7. السربوني، ص 454.
  8. الرافعي، ص 94. طلعت حرب، قناة السويس، (القاهرة: مطبعة الجريدة، 1328هـ/ 1910)، ص 85. السربوني، ج 1، ص 456، 457، ويذكر أن الاتفاق الجديد لم يخرج منه ديلسيبس مهزوماً أو حتى نصف مهزوم، فقد انتزع من الحكومة تعهداً بدفع ثمن تفتيش الوادي وجميع المبالغ المحكوم بها على أقساط شهرية تنتهي في أول ديسمبر 1869، بعدما كانت تنتهي في 1879.
  9. للاطلاع على نص مشروع الامتياز: إبراهيم أمين غالي، سيناء المصرية عبر التاريخ، (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 2012)، ص 298: 300. ص 403: 405.
  10. مرجع سابق، ص 302.
  11. مرجع سابق، ص 306: 309.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.