الحقيبة مفتوحة على مصراعيها، بها كافة أغراضها، من ملابس السباحة حتى ملابس السهر والحفلات وما يتخللهم من أغراض إضافية متكدسين فوق بعضهم البعض، وكأنهم يتزاحمون من أجل الحصول على مكان في قطار مكتظ.

تعرف تمام العلم أنها ستنسى أشياء مهمة رغم إعدادها قائمة لكل ما تحتاجه، ولن تنتهي من حزمها إلا قبل السفر بدقائق، ولكنها جهّزتها بهذا الشكل حتى ترتاح من إلحاح أبيها قبل سفرهم غداً، لطالما احتفلت بعيد ميلادها في إجازة الصيف على نسيم البحر، وطالما رأت ذلك نوعاً من الحظ، سرعان ما انقلب إلى بعض المخاوف والهواجس أن تكون أخذت حظها في الدنيا في شيء تافه.

عقرب الساعة يمر ببطيء، تُمسِك بهاتفها المحمول مُنتظرة مكالمة من صديقها. تبقّى دقيقة واحدة على بلوغ منتصف الليل، دقيقة واحدة تفصلها عن عامها الثامن عشر، وكأن الوقت الذي مرّ والعمر الذي ضاع والقلب الذي احترق لن يُحتسب إلا عند مرور هذه الدقيقة.

تُمسِك بهاتفها بشدة متلهفة، تعرف أنه لن ينسى، لن ينسى أحد مثل هذا الموعد في بداية العلاقة، وبخاصة أنه صارحها بحبه منذ أيام قليلة فقط، ولكن تخشى أن يكون مثلهم جميعاً، كأن يغفو أو يلهو في اللعب مع أصدقائه أو أن ينشغل بالحديث مع فتاة أخرى، رغم لهفتها وانتظارها الذي ربما يبدو عليهم اليقين إلا أنه يتخلّلهم شك مُحرِق، كعادتها تشك في كل شيء، فتحترق وتحترق معها كثير من لحظاتها السعيدة.

الهاتف يرن وقبل أن تهم بالرد، تسمع طرق الباب وتهم أمها بالدخول مُسرعة وكأنها هاربة من وحش بالخارج، ينتابها الدهشة.

ليس من عادة الأم أن تدخل دون أن تسمع منها كلمة «ادخل»، في إحدى المرات كانت تستمع إلى موسيقى بصوت عال، لم تسمع طرق الباب، ولم تعرف أن أمها تريد أن تدخل إلا بعد أن راسلتها، ماذا حدث هذه المرة؟

ترى أمها كمن يُقدِّم خطوة ويُؤخر أخرى، تشعر برجفة يديها رغم محاولتها البائسة من شد أعصابها حتى لا ترى اهتزازاتها، عينها مغرورقة بالدموع كأنها على وشك البكاء، أو أنها انتهت منه، وبيدها ظرف أبيض تُحكِم عليه الإغلاق وكأنها تعتصره.

نسيت صديقها وهاتفها، نسيت عامها الثامن عشر الذي طالما رغبت في الوصول إليه وكأنه سيكون علامة فارقة في حياتها، يراودها تساؤل واحد: ماذا حل بك يا «علياء»؟

لطالما نادت على أمها باسمها، كانتا صديقتين، فلم يكن لهما سوى بعضهما، لطالما حاولت أن تسأل أمها لم لم تأت لها بأخ أو أخت، هربت الأم من الإجابة على السؤال، كل مرة تخلق عذراً جديداً، وبتوالي المرات لم تلح على سؤالها. كانت خير سند وصديق، فكانت تحبها بكل قلبها وتغفر لها زلاتها، على عكس والدها، الذي كان يحفر بداخلها جرحاً أعمق وأعمق، في كل مرة لا تحاول أن تُطهِّره أو تُوقِف نزيفه، بل كانت، عندما تأمن أن البيت هادئ، وأنه لا أحد يسمعها أو يطرق بابها فجأة، كانت تمد يديها في جرحها لتفتحه أكثر وأكثر، فينزف شلالاً من الدم، بينما تسبح عيناها في محيط دموعها.

أقبلت الأم في تردد، جلست على حافة السرير، تسرّب من عينها دمعتان حاولت أن تمنعهما لكن باءت محاولتها بالفشل، حاولت الكلام فلم يخرج صوتها، حاولت التماسك أكثر وأكثر، أخذت نفساً عميقاً، ثم تمتمت بصوت منخفض يغلبه الخنق والبكاء.

هذا الظرف تركه لكِ خالك، وكتب عليه إلى صغيرتي عندما تبلغ الثامن عشر، لم يكتب أكثر من ذلك لم يترك لي شيئاً، فقط هذا الجواب لك، ترددت طوال هذه السنين بل امتلكتني رغبة عارمة في إحراقه لأنه تركه لكِ فقط ولم يُكلِّف نفسه بكتابة بعض الكلمات إليّ، ثم حملتني حرقة وغضب في أن أعرف ما بداخله، لكن كلما أمسكت به، رأيته يقف أمامي بابتسامته الهادئة التي تدل على ضعفه ورقّته، فلم أستطع. حاولت مراراً وتكراراً، وحين تأكدت من عدم قدرتي على ذلك، احتسبت الأيام والليالي كمثل سجين ينتظر يوم حريته، الآن سلّمتك الأمانة، معك الليل بطوله لكي تقرأي ما به على راحتك، وأنا سأحاول النوم على أمل أن ألقاه في منامي، ليشكرني على إيصال الرسالة، ولعلّه يُخبرني شيئاً حينها أو يقول لي وداعاً، لا أدري إذا بإمكاني النوم أم لا لكن سأحاول، آمل أن أنام سريعاً على عكس كل ليلة، فقد أزحت حجراً ثقيلاً عن قلبي، أن أغفو بنشوة أني سأقرأ كلماته في الصباح.

سكتت الأم، كما توقف سيل دمعها. قبّلت ابنتها على جبينها ثم تركت الغرفة.

الآن نسيت كل شيء، عيد ميلادها، صديقها، رحلة الصيف، أمها، بيدها الظرف. يفترسها الماضي، ترى خالها، تذكر رحلة الصيف الأخيرة، تذكر ضحكاتهم ورقصاتهم، تذكر عندما علّمها السباحة وركوب الدراجة، عندما كانت تقص عليه مشاكل الطفولة الساذجة قبل أن تخبر أمها، بل كان كثيراً ما تكتفي به فقط، تنزف من عينها قطرات، ولكن دون أن تنتحب، خارت قواها لدرجة أنها شعرت أن الظرف موصد بقفل، تُخرِج الخطاب تفتحه ببطء ثم تقرأ.

أكتب لكي ولا أعلم إذا كانت أمك ستُسلِّمك خطابي أم لا، وإذا لم تكن قد قرأته أو حرقته بالفعل، ولكن بينما تتبعثر كلماتي أمامي وتتهاوى خائفة تارة وضائعة تارة أخرى، تتناثر الحروف مني وكأني طفل يتعلم الكتابة ويتهاجى كل كلمة، ليس لدي وقت لأعيد صياغة ما كتبت أو حتى جعله متماسكاً، سأسكب ما بداخلي حتى أجف وكل أمنيتي أن أنتهي من هذا الهم الثقيل قبل أن تخار قواي أو قبل أن تذوب شجاعتي، فأنا أحترق بداخلي أثناء كتابة هذا الخطاب.
أعرف أن مقدار دموعي المنهمرة لن تشفع لي، عيناي تسبحان في بركة من الدموع على أيام لن نحياها سوياً على كل لحظة أتذكرها بيننا، وعلى كل مشهد مُتخيل يأتي على بالي وأنا أشاهدك تكبرين يوماً بعد يوم.
عدت لتوي من معرض صديقتي، فرغم علمي أني سأُقدِم على ما فعلت وانعزالي لأيام بمنزلي رغبةً أن أستيقظ يوماً وبداخلي القدر الكاف من الشجاعة، إلا أني لا أستطيع أن أرفض طلباً كهذا لإحدى صديقاتي، فأن أرى أحد الأصدقاء ينجح فيما قد فشلت به، يستدعي هذا أن أدعمه وأقف بجانبه، حتى لو كنت في أحلك لحظات حياتي، وهذا حتى يأتي اليوم الذي يستطيع فيه أن يكف عن التأكيد على أصدقائه -كثيراً- على حضورهم، خشية أن يجد المكان فارغاً وأن يقف وحيداً، فحينها يتمنى أنه يا ليته لم يُمسك بقلم أو فرشاة.
 ما بالك إذا كانت نادية، الذي أتمنى أنك ما زلتِ ترينها، فكانت دائماً ما تهم بالسؤال عليكِ، وقامت برسمك مرات عدة، لا أدري إذا ما زلتِ تحتفظين برسوماتها تلك أم ضاعت منك؟ ولكن أتذكر أنكِ ذكرت أنكِ تحبينها، كما أتذكر عندما قمت بسؤالي هل سأتزوجها، ضحكت حينها حتى الثمالة، أنا ونادية كنّا خير صديقتين، لها مكانة خاصة بسبب رغبتها المستمرة في انتشالي ومحاولة إنقاذي المستمرة عندما كنت في القاع.
 كانت تتصل بي يومياً للاطمئنان أني ما زلت حياً، وأتمنى من كل قلبي أن تسامحني على إفساد بهجة نجاح معرضها الأول، حتى عندما يرحل الإنسان ربما ما زال يأمل على أقل تقدير أن يتذكره أحباؤه بخير.
حتى لا أطيل فطاقتي قاربت على النفاذ، لقد ابتعت لوحة، عند رؤيتها للوهلة الأولى بكيت، لم أقدر على التماسك، حاولت بكافة الطرق أن أتوارى لكنها لاحظت، وعندما سألتني قلت إن لوحتها لمستني للغاية، لم تفهم أو ربما لم تُصدِّق، ولكن حالفني الحظ وهمَّ أحد بالنداء عليها، تركت ملحوظة لأمك أن تُعلِّقها بغرفتك بعد فترة، وألّا تُخبِرك أني من اشتريتها، خوفاً من أن تمزقيها.
عندما شاهدتها تذكرت وأنا أمسك بيديكِ وننظر إلى البحر لآخر مرة سوياً، وكأن نادية كانت معنا، استأذنتها بأن أشتريها وأذهب سريعاً حيث لم أعد قادراً على التماسك أكثر من ذلك، أتمنى أن تكون مُعلّقة على الحائط أمامك الآن، وآمل أنكِ أحببتها.

تنظر إلى اللوحة المُعلَّقة أمامها تُمعِن النظر، تُغلِق عينيها وتحاول استعادة ذكريات هذه الرحلة، تبدو ضبابية غير مُرتبة، تتداخل مع بعضها البعض فتمتزج لتخلق صورة أكثر حزناً، تغلق عينيها بإحكام أكبر، لمحاولة الإمساك بأي خيط تنسدل منه الصور متتابعة، مرّت ثماني سنوات لكنها بداخلها تؤمن أنها تستطيع أن تتذكر، أن تزيل الغبار عن اللحظات والذكريات التي حاولت دفنها خلال الأعوام الماضية.

تتذكر؛ يرميان حقيبتهما في الغرفة، يخرجان مسرعين، الأب يحاول النداء عليهما لكنهما، يتظاهران بأنهما لم يسمعا شيئاً، يلقيان النظرة الأولى على البحر محاولان التقاط آخر شعاع للشمس قبل الغروب، يجلسان على الشاطئ يراقبان الناس وهم يهمون بالخروج من الشاطئ، يراقبان الفتية والفتيات، ليختارا من هو الأوسم والأكثر جاذبية، يُغيِّران رأيهما كل لحظة، هذه اللعبة التي أصبحت هوايتهما طوال الأسبوع.

تتذكر اجتماعات العائلة وكأن القرية بأكملها ملك عائلة أبيها، لم تكترث إلى جلسات الكبار حيث كان كل من هم في سنها يُشكِّلون دوائر مغلقة فيتسامرون ويضحكون ويتسللون واحداً تلو الآخر حتى يجلسوا بعيداً عن أعين الكبار، لكنها كانت ترسل ناظريها بين الحين والآخر إلى خالها، فتجده صامتاً، لا ينبس بكلمة ولا يبتسم، خالها الذي كانت تكافح حتى تجعله يتوقف عن الكلام، وكأنه يحاول معها ومع أصدقائه إخراج ما في جعبته من كلمات كتمها وكادت تُغلِق حلقه، فيسكب الكلمات عليهم بسرعة لدرجة أنك أحياناً لا تفهم ما يقوله، وكأنه يحاول مُسرعاً إخراج كل ما لديه خوفاً من أن ينفذ الوقت قبل أن تنتهى كلماته.

تسمع صوت رسالة على هاتفها فتوقظها من ذكرياتها، تأخذ نفساً عميقاً ثم تكمل القراءة:

الآن حانت لحظة الوداع أعلم أنك ربما لن تتفهمي، ولكن أتمنى أنك كبرتِ كفاية لتعلمي أن الحياة ليس كجنة الأطفال، بل ربما في كثير من الأوقات الجحيم بعينه، أتمنى أن تسامحيني، أتمنى أن تتذكري لحظاتنا السعيدة، أتمنى أن تتذكري رقصتنا الأخيرة وجميع منْ حولنا تمنّوا لو تنشق الأرض وتبتلعهم من كثرة ما كان رقصنا مُضحكاً وأهوج. أتمنى أن تتذكريني بهذه الرحلة دائماً. ربما الآن علمتِ لما كنت أرفض الذهاب معكم دائماً، ولما وافقت هذه المرة.
في الواقع لم يحبني والدك ولم أحبه، ولا أدري لما ملاك كأمك تقع في غرامه، ولكنه الحب وشباكه، وأتمنى أن تكوني جرّبتي وجهه الجميل لا وجهه الآخر. كما آمل أن تكوني شاهدتِ فيلماً أو قرأتي قصة أو استمعتي لأغنية هنا أو هناك تنقل لكِ ما مررت به، وحبي لكِ. ولكني لم أستطع المكوث أكثر.
كنت قد قطعت وعداً وأنا في الخامسة والعشرين من عمري أنه أمامي سبع سنوات عجاف لا أكثر، وإذا لم أحقق مرادي وغايتي في أن أصبح كاتباً، سأرحل، وها أنا أنكث الوعد قبله بشهرين، لم أستطع حتى أن أصمد أكثر، لا تعلمي مقدار الألم الذي أخفيته تحت ضحكاتي معك، كنت عندما أشاهدك ونلعب سوياً، أنسى كل شيء، ولكن ما إن تلتفتي حتى يفترسني الحزن، وعندما تنظري إليّ بغتةً، أرسم على وجهي ابتسامة بلهاء، ربما تساءلتي ما سببها، وها أنت الآن قد عرفتِ، كنت أحاول ألا أجعلك تشعرين بشيء، ولكن أمك دائماً ما كشفتني، حاولت مراراً أن تجعلني أتحدث، ولكن طالما كذبت وأنا أعلم أن حيلي لم تنطل عليها، كانت تُصر على أن أبيت معكم لتجدني تسللت في الصباح باكراً، فتنهال عليّ باللعنات والسباب في الهاتف، وكانت هذه المرات الوحيدة التي كنت أستمع لأمك تسب وتلعن، ليت كانت أمنا كأمك لاختلفت الحياة، لربما ما كتبت هذا الخطاب، لا أدري بالطبع ما تطورات علاقتكما الآن بعد أن كبرتِ لأنك عنيدة ومتمردة مثلي، وأعلم ما يصاحب هذا العناد من إثارة للمشاكل ولكني متأكد أنكِ لن تجدي قلباً أحن من قلب أمكِ.
قاربت سجائري على النفاد، وأتذكر عندما شاهدتيني أدخن لأول مرة في المصيف، انتابتك الدهشة. حذّرتك حينها من التدخين، وقلتِ لي إنك عندما تكبرين تريدين أن تُجربي، وتعلمي أنه لا أحد سيساعدك على ذلك سواي، وكأني شيطانك الخاص، وافقت حينها وقطعت وعداً منك أن أول سيجارة ستدخنينها سأقوم أنا بإعطائها لكِ، وافقت على الفور بكل براءة، وأتمنى أنكِ لا تشبهيني في نكث الوعود أيضاً.

تضحك ضحكة هي أقرب إلى السعال من الضحك، ثم تنهمر في البكاء بشدة، غلبها كل شيء، افترستها الذكريات بفكيها، فلم تستطع أن تنسل منها، أصبحت ذبيحة غارقة في دموعها.

جلست لبعض الوقت حتى جف منبع دمعها، وتوقف زلزالها الداخلي، ثم واصلت القراءة:

أتمنى أنك ما زلتِ تواصلين القراءة، سأحاول الاختصار لأن استعادة ذكرياتنا تمزقني من الداخل، فأنا أتخيلك تقفين أمامي وأنا أكتب، فأنكس رأسي في الورقة هرباً من نظراتك.
بعد أن تخرجت، بدأت أنشر في بعض المجلات والصحف الصغيرة، شعرت أن المستقبل مُشرق، فإذا كانت هذه البداية، فالنهاية حافلة بالكثير بكل تأكيد، لكن سرعان ما اضمحل كل شيء. أغُلق ما أغُلق من هذه الصحف، والباقي أخبرني أنه يبحث عن كتابات من نوع آخر، حاولت جاهداً هنا وهناك، نجحت القليل من المحاولات، ولكن باء الباقي بالفشل، حتى اضطررت للعمل في عديد من الوظائف التي قضت عليّ، فلم يعد لديّ الوقت الكاف للقراءة ولا الكتابة، وكان كلما لم أجد رداً، قلّت رغبتي في الحياة والكتابة.
بدأ الاكتئاب يتسلّل إليّ، فأصبحت حياتي جحيماً، العمل ليس عيباً، لكن لم أحلم يوماً أن أعمل في هذه الوظائف، لطالما عشقت الكتابة، لم أر نفسي في شيء آخر، وربما كان هذا دائي، كما أن الكاتب أو الفنان بصفه عامة يرى أن غايته في الحياة أن يُقدِّم عملاً للجمهور، أن يُخلَّد، فإذا سُلبت منه هذه الغاية، فماذا يبقى؟
كنتُ أقص عليك القصص الذي أكتبها، كنتِ جمهوري الوحيد، لم أكن أُخبرك أني كاتبها، وعندما أسألك عن رأيك في النهاية وتخبريني أنكِ أحببتها، كنت أصبح في قمة سعادتي، ولكن لم أخبرك أني كنت كاتبك المفضل وأنت صغيرة قط، خوفاً من أن تسأليني عن كتب نشرتها، فأشعر بخزي حينها، فلم أكن أستطيع أن أكذب عليكِ، كنت فقط لا أخبرك الحقيقة كاملة.
ولكن المرات التي أخبرتك باسم الكاتب لم أكن أكذب عليكِ، كما قلت لكِ كنتُ أخفي جزءاً من الحقيقة لا أكثر. أتذكر عندما قصصت عليك قصة الفارس الذي لا يعرف ما إذا كان عليه أن يتحدث أو يموت، وقتها قرّرتي أن عليه أن يمتلك الشجاعة ويتحدث، آمل أنكِ ما زلتِ على نفس الرأي، فأملي الوحيد أن تبقى كما أنتِ، وألا تعبث بكِ الحياة، فيكفيكِ تحملها.
لقد أحببتي الرسم والموسيقى والرقص والسينما، وكنت تمتلكي روحاً برّاقة، كانت تملأ المكان دفئاً وحيوية. كنت أراكي دائماً كنجمة، ربما رسّامة أو ممثلة أو كاتبة، أراكي في كل شيء، ولكن بداخلي شعور آخر، أتمنى أن لا تكوني شيئاً من كل ذلك، فأخاف عليكِ من مصيري، ورغم ذلك، كل ما آمل أن تكوني سعيدة، فأنا أعلم تمام العلم أنه إذا همس إليكِ شيطان الفن، واستمعتِ إليه مرة بإنصات، فإن صوته لن يفارقك، وسواء اخترتي التغاضي عن الاستماع له أو حاولتي وفشلتي، فمصيرك الحزن والكآبة لا مفر، لذلك ورغم كل شيء أفعلي ما تريدين، فلا مفر من أنفسنا إلا لأنفسنا.
آن الأوان لخطابي أن ينتهي كما ستنتهي رحلتي، كل ما أتمناه مُجدداً، أن تظلي تذكريني، أن تتذكري لحظاتنا معاً، ضحكاتنا وألعاب الطفولة الجميلة، ومحاولاتنا البائسة للرقص سوياً، فنضحك أكثر ما نرقص، أن تشاهديني في السماء عندما تستمعي لأغنيتنا المفضلة (أغنية الفضاء) لنسبح في السماء سوياً.
بجانب خطابي تركتُ لكي كُتبي وهي كل ما أملك، بين الكتب ستجدي كتاب أسميته «ليلى»، سميته باسمك رغم عدم اِحْتِوَاءه على قصة بهذا الاسم، ولكن لأنه موجه إليكِ لا أكثر، ولم أجد أفضل من أسمك ليزين الكتاب، لم أطبع إلا نسخة واحدة، وبه كل ما كتبت، فأنتِ جمهوري الوحيد، كما كنت دوماً.
وداعا يا حبيبتي. قبّلي لي جبين أمك، واهمسي في أذنها أن تسامحني.

تغمض ليلى عينيها، ترى صورة، تحاول جاهدة أن تجعلها أوضح، ينتابها الشك للحظات، أهي تختلق أم تستجمع المشهد برأسها، تأخذ نفساً عميقاً وتهدأ، ترى البحر وتشم نسيمه، تسمع صوت أمها تناديها، ليركبوا السيارة للرحيل، تنظر لخالها المُمسك بيديها، يجسو على ركبتيه ويُقبِّل جبينها ويمسك برأسها بكلتا يديه ويُتمتم: «هتوحشيني».

تمت

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.