يرى الفيلسوف الأمريكي ألفرد نورث وايتهد خطأ الاعتقاد «بأنه من الضروري تنمية عادة التفكير فيما نفعل، فالواقع عكس ذلك بالكلية. إن الحضارة تتقدم بتوسيع عدد العمليات التي نستطيع القيام بها بدون التفكير فيها. تشبه عمليات التفكير هجمات سلاح الفرسان أثناء معركة ما محدودة في العدد بشكل صارم، تحتاج إلى خيول جديدة، ويجب القيام بها في اللحظات الحاسمة فحسب». يتضح ما يرمي إليه وايتهد عندما نعلم أن معالجة المخ للمحفزات التي تأتيه من البيئة المحيطة واختيار السلوك المناسب للتفاعل معها ليس بالأمر الهين، وإذا قمنا بذلك بصورة واعية فسيصبح الأمر أبطأ وأكثر استهلاكًا للطاقة، ولهذا يتم الكثير من هذه الأمور بصورة أوتوماتيكية غير واعية.

نقصد هنا بمصطلح «غير واعية» المعنى الذي صكه العالم الألماني هيرمان فون هيلمهولتز من قبل في القرن التاسع عشر، أي العمليات التي تحدث خارج وعينا ونستطيع الإدراك واتخاذ القرارات بواسطتها، وهذا يختلف عن معنى اللاوعي عند سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي. فالعمليات غير الواعية بمثابة خَدَم عقليين يقومون بالأعمال الفرعية في بلاط العقل صاحب الجلالة، لتتفرغ العمليات الواعية للقرارات الهامة والمصيرية التي تحتاج إلى الوعي.

اللاوعي وعملياته الأوتوماتيكية

منذ ولادتنا والدماغ يتعلم بطريقة غير واعية، ويكوِّن شبكات عصبية تربط السلوكيات بالمفاهيم والمشاعر، وهذه الشبكات العصبية التي تكونت بغير إرادة منا تنشط أوتوماتيكيًّا في سياقات مشابهة للسياقات التي كونتها فتتحكم في سلوكياتنا بل تشكل شخصياتنا وعاداتنا. تخيل أنك نشأت في بيت لم يعرك أحدٌ فيه اهتمامًا كأنك غير موجود، وقد ولَّد هذا إحساسًا بانعدام القيمة داخلك والعديد من المشاعر السلبية الأخرى، ومع مرورك بهذه التجربة تشكلت شبكات عصبية تربط بين هذه التجربة المريرة وبين المشاعر السلبية التي انتابتك.

من الممكن أن تمر لاحقًا أثناء حياتك بتجربة مشابهة، فلا تعيرك زوجتك الاهتمام الكافي لفترة، فينتابك العديد من الأفكار والمشاعر السيئة الشبيهة بما مررت به في صباك، وربما استشطت غضبًا منها بطريقة مبالغ فيها. هذا نتيجة لتنشيط الخرائط العصبية التي تكونت داخلك بسبب تجربتك السابقة، والتي تم تفعيلها عند مرورك بتجربة مشابهة. يعكس هذا الأمر أننا لا نرى الحاضر في مرآة الماضي فحسب، بل يتجسد الماضي في سلوكنا في الحاضر.

كائن لا تُحتمل تلقائيته

في ورقة بحثية كلاسيكية في مجال علم نفس الاجتماع بعنوان «كائن لا تُحتمل تلقائيته The Unbearable Automaticity of Being» والمستوحى من عنوان رواية للروائي التشيكي ميلان كونديرا بعنوان «كائن لا تُحتمل خفته»، نقرأ عن الدور الهام الذي يلعبه اللاوعي في تصرفاتنا، فنجد أن الباحثين لاحظوا أنه عند عرض صور لأمريكيين من أصل أفريقي على المشاركين في التجربة بشكل دون عتبة وعيهم (أي دون أن يعي المشاركون أنهم يشاهدون هذه الصور) يصبح المشارك أكثر عدوانية عند تعامله مع الآخرين، وهذا يرجع إلى تفعيل الصورة النمطية لديهم عن الأفارقة أوتوماتيكيًّا، فتكون ردود أفعالهم عنيفة تجاه الآخرين. ليس هذا فحسب، فعند تعرض المشاركين لكلمات مرتبطة بالفظاظة أو بالأدب بشكل دون عتبة وعيهم يتأثر سلوكهم تجاه الآخرين تبعًا للكلمات التي تعرضوا لها.

إن القول بأن العمليات غير الواعية بمثابة خدم عقليين لا يعني على الإطلاق أنها قليلة الأهمية، بل على العكس، فهي تمثل الأغلبية الساحقة من العمليات الذهنية ولها عدة مميزات؛ فقدرتها على معالجة المعلومات أكبر بكثير، وهي أسرع وأكفأ في المهام الروتينية من العمليات الواعية، ويمكن للعديد منها أن تحدث متلازمةً في وقت واحد على العكس من تلك الواعية، ولكنها تفتقر إلى المرونة التي تتميز بها العمليات الواعية.

نجم اللاوعي

يأتي الدور الآن على نجم العمليات الأوتوماتيكية غير الواعية وهو المخيخ، فلا يغرك اسمه الذي يعني المخ الصغير؛ فعدد خلاياه العصبية أربعة أضعاف الخلايا الموجودة بالقشرة المخية ويربطه بها حوالي 40 مليون مسلك عصبي! ظن العلماء لفترة أن دور المخيخ يقتصر فقط على تنظيم المهارات الحركية والتحكم في دقتها وتوقيتها والتنسيق بينها بطريقة لاشعورية، فعندما نتعلم قيادة السيارة نقودها في البداية ونحن واعون بالخطوات التي نقوم بها، ولكن مع التمرس والتكرار نقوم بها أوتوماتيكيًّا والفضل يرجع في ذلك إلى المخيخ.

سلوكنا كمسرحية من إخراج المخيخ

كيف يقوم هذا العضو المدهش بوظيفته؟ عندما تتعلم مهارة حركية ما ترسل القشرة المخية أوامر حركية لعضلاتك لتنقبض وتبعث نسخة من هذه الأوامر الحركية إلى المخيخ، بالإضافة إلى معلومات عن البيئة المحيطة التي جمعتها القشرة المخية عن طريق الحواس، فيقوم المخيخ بمحاكاة وخلق نموذج للنشاط الحركي الذي ستقوم به، أي أنه يتنبأ بما سيقوم به الدماغ، ويسمي المختصون هذا النموذج بالنموذج المستقبلي (Forward model). ثم يبعث المخيخ إشارات إلى القشرة لتتصرف بحسب هذا النموذج، ويقوم بالمقارنة المستمرة بين سلوكك الفعلي وبين النموذج الذي كونه، ويقوم بتعديل هذا السلوك ليتماشى مع ذلك النموذج، وهذا ما يُعرف عند الباحثين بالتعلم المراقَب (Supervised Learning)، فأنت تتعلم هذه المهارة تحت إشراف نماذج المخيخ.

لكن لمَ كل هذه الجلبة؟ لماذا لا تقوم القشرة المخية بإرسال المعلومات الحركية إلى العضلات فحسب دون الاحتياج إلى تنبؤ المخيخ بما سيحدث؟ لتصوُّر مدى تعقد الأمر؛ تخيل أنك تريد مد ذراعك للإمساك بشيء ما، فيرسل الدماغ إشارات للعضلات فتنقبض، إذا انتظر الدماغ المعلومات البصرية ليقوم بمعالجتها ليحدد ما إذا كانت ذراعك وهي في النقطة (أ) متجهةً في الاتجاه الصحيح أم لا، فسيستنزف هذا بعض الوقت وتكون ذراعك قد غادرت النقطة (أ) إلى نقطة أخرى ويتأخر الدماغ في تصحيح مسار الذراع. لحل هذه المشكلة يخلق المخيخ نموذجًا مستقبليًّا لتتتبع القشرة المخية خطاه.

ومع تكرار هذا النشاط الحركي تصير تلك العملية أوتوماتيكية غير واعية، أي أكثر اعتمادًا على المخيخ وأقل اعتمادًا على الوعي. أليس المخيخ مدهشًا حقًّا؟!

أدوارٌ أخرى للمخيخ

تكشَّف للعلماء في الآونة الأخيرة أن دور المخيخ يشمل جميع الأنشطة المعرفية والشعورية والسلوكية الأخرى، فكما يقوم بمعالجة الحركات العضلية وجعلها أكثر تلقائيةً، يقوم أيضًا بهذا في العمليات الذهنية، فهو مسئولٌ عن معرفتك تلقائيًّا أن 2 + 2= 4، زائد 4= 8، مقسوم على 2= 4، بعدما كنت تقوم بهذه الحسابات على أصابع يديك في طفولتك.

ومن التلقائية وكثرة التمرس ينبثق الإبداع، فالذي يحترف نشاطًا حركيًّا أو ذهنيًّا يكون لديه القدرة على الابتكار في مجاله، وللمخيخ دور في هذا. ففي بحث مبتكر نُشر في مجلة نيتشر المرموقة، قام باحثون من جامعة ستانفورد برصد نشاط مناطق مختلفة من الدماغ باستخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي أثناء قيام أفراد برسم صورة تعبر عن كلمة معينة، كأن يرسم أحدهم ميزانًا ليعبر عن كلمة العدل مثلًا. وجد الباحثون أنه كلما زادت الناحية الإبداعية في الصورة المرسومة زاد نشاط المخيخ.

المخيخ
المخيخ باللون الأحمر

من شياطين الشعر إلى القشرة المخية

لا تنقضي عجائب العمليات الأوتوماتيكية عند هذا الحد، فقد تكشَّف للباحثين دور العمليات الأوتوماتيكية في الإبداع كالتلحين الموسيقي والشعر وغيرهما. توصلت مجموعة من الباحثين إلى نموذج متعدد الأبعاد يصف النشاط العصبي المسئول عن الإبداع بعدما قاموا ببحث مدهش على مجموعة من الشعراء المتخصصين والمبتدئين لدراسة نشاط أدمغتهم أثناء تأليفهم لأشعار جديدة.

وجد الباحثون أن القشرة الإنسية قبل الجبهية (medial prefrontal cortex) يتم تنشيطها خلال عملية تأليف الشعر، والتي تحفز بدورها مراكز لغوية وشعورية أخرى، بينما يتم تثبيط القشرة البطنية الوحشية قبل الجبهية (dorsolateral prefrontal cortex) ومناطق أخرى مسئولة عن معالجة المعلومات في الذاكرة وفلترتها، لاختيار ردود الفعل الصحيحة وعن التحكم المعرفي في المراكز اللغوية والشعورية لتكون سلوكيات الإنسان وأقواله مناسبة للسياقات المختلفة. عند تثبيط هذه المناطق ينعتق ذهن الشاعر من ذلك التحكم المعرفي وتقييداته مما يتيح له إنشاء تراكيب لغوية وحسية غير تقليدية، وكلما كان الشاعر أكثر خبرة كان تنشيط وتثبيط تلك المناطق من الدماغ أشد والإبداع الشعري أكثر تلقائية.

القشرة قبل الجبهية
القشرة قبل الجبهية

يبدو أن لافظ بن لاحظ شيطان الشعر الذي اعتقد عرب الجاهلية أنه يملي على امرئ القيس قصائده الفذة، لم يكن سوى هذا التفاعل بين المناطق الدماغية المختلفة في دماغ ذلك الرجل. فربما عند تنشيط القشرة الإنسية قبل الجبهية وتثبيط القشرة البطنية الوحشية قبل الجبهية، وصف امرؤ القيس نجوم الليل الطويل بأنها مربوطة بجبل يذبُل بحبال مبرومة بإحكام عندما قال:

فيا لك من ليل كأن نجومه * بكل مغار الفتل شُدَّت بيذبل

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.