إن المراقب لأحوال النظام المالي العالمي المعاصر، والمطلع على الاضطرابات التي حصلت مؤخراً في البورصات العالمية، والأزمات الحادة التي تعصف به بين الحين والآخر، والتضخم الذي انتشر في الفترة الأخيرة انتشار النار في الهشيم، يُدرك سريعاً أن هذا النظام المالي السائد اليوم، قائمٌ على أسس مالية وفكرية تتسم بالهشاشة والضعف.

لقد أضحت اليوم بعض كبريات الاقتصادات الرأسمالية للدول قائمة على قاعدة ضئيلة من الأصول الثابتة الحقيقية، بينما تضخّم فيها الاقتصاد الوهمي المكوّن من الديون وفوائد الديون، البسيطة منها والمركبة، والمشتقات المالية، والمؤشرات، وما أشبه ذلك من الصور الوهمية، والتي أصبحت، رغم أنها لا تعكس أي نوع من أنواع النشاط الاقتصادي الحقيقي أو أي شكل من أشكال المبادلات التجارية الواقعية، تشكل بمجملها أضعاف الاقتصاد الحقيقي، وهذا ما يتجسد في ما يعرف بالهرم المقلوب.

حتى الدول الغنية التي تمتلك موازين إنتاجية هائلة وثروات بشرية وطبيعية ضخمة، نراها –وياللعجب- ترزح تحت ضغط أرقام مخيفة من الديون، وبناءً عليه وُضعت مقدرات المجتمعات وثروات الأمة في خدمة الديون والتمويل بدل أن يحصل العكس.

هذا ما دفع الاقتصاديين والخبراء الماليين إلى التنبؤ بانهيارات مالية قادمة والتحذير منها، وراج لهذه الاعتبارات وصف الاقتصاد الرأسمالي بالفقاعة التي لابد أن تتضخم وتنتفخ ثم تنفجر، وهكذا دواليك.

أزمة النظام المالي المعاصر

لقد تشكّل النظام المالي العالمي الحديث بناء على القيم الليبرالية، ومن أبرزها: الفردانية، والتمركز حول الذات، وانفصال الحركة الاقتصادية عن القيم الأخلاقية، والبحث عن الربح المادي السريع، وتحقيق التقدم والتنمية بأي ثمن كانت، ولو كانت على حساب تفكك العلاقات الاجتماعية، وانهيار منظومة الأسرة، وتكريس مبدأ الفردانية والاستهلاك الذي لا ينطفئ لهيبه.

في سبعينيات القرن الماضي جرى التحوّل عن النظرية الكينزية الداعية إلى تدخل الدولة لترشيد الحركة الاقتصادية، والحد من الفوضى الاقتصادية نحو النظرية النيوليبرالية القائمة على مبدأ السوق المفتوحة، والمطالبة بكسر الحواجز الجمركية، وإطلاق الحركة الاستهلاكية، مما أفضى إلى نشوء العولمة، وتشكّل «إنسان السوق» حسب اصطلاح «روجيه جارودي».

انزوت بذلك أفكار ريكاردو وآدم سميث التي كانت سائدة سابقاً، والتي أعطت العمل دوراً جوهرياً في تحديد قيمة النشاط الاقتصادي، وكذلك آراء جون لوك عن حرية التملك، وأصبحت الرؤية المادية الموجودة في النمط الليبرالي هي الأساس والمرجعية في تحديد حاجات الانسان وقيمه.

يقول «الطيب بو عزة» في كتابه «نقد الليبرالية»:

المشروع النيوليبرالي لا يهدف إلى تحرير الإنسان، بل إلى تحرير رأس المال الاقتصادي من كل قيد بما فيه قيد القيم، وتحجيم سلطة الدولة لتتصرف القوة الاقتصادية كما تشاء، ومن هنا فإن الرؤية النيوليبرالية ليس فيها شيء (نيو)، بل هي رؤية تسعى إلى استعادة البداية المتوحشة للنظام الرأسمالي مع لحظه الثورة الصناعية خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث كان لرأس المال كل الحق في طحن المعادن والبشر على حد سواء من أجل نفخ حافظة النقود.

وعليه، ظهر عوار هذا النظام بصور عديدة وعلى مستويات مختلفة، منها: تكدّس الأموال بيد قلة قليلة من الناس، وزيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وتضخّم بعض القطاعات التي تؤدي إلى انتهاك الفضائل والأخلاق، وتُحدِث أضراراً جسيمة بالمجتمعات واستقرارها النفسي، كما تغوّل تأثير الشركات الكبيرة العابرة للقارات، وتوجّه بعضها إلى تشكيل لوبيات ضغط سياسية وإعلامية مؤثرة في توجيه الناخبين، وتكوين خزانات انتخابية للرؤساء والأحزاب، فاستطاعت بذلك فرض مصالحها على سياسات الدول، وتوجيه قراراتها، وتحديد اختياراتها، وكان بعضها سبباً لنشوء الحروب، وتفاقم الأزمات… إلخ.

أمّا من الناحية النظرية، فلم يخجل بعض منظري النيوليبرالية من تكرار بعض المقولات اللاإنسانية الفجة مثل قولهم:

إن مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئاً لا يطاق.

وقولهم:

إن شيئاً من غير المساواة بات أمراً لا مناص منه.

الحديث عن ريادة الاقتصاد الإسلامي

من هنا برز الحديث عن الريادة الإسلامية المُحتملة في طرح نظام بديل يُخلّص العالم من مساوئ النظام المالي السائد، استناداً إلى مبادئ الاقتصاد الإسلامي وأُسسه، وصرنا نسمع من وقت لآخر تصريحات لبعض المنصفين من الاقتصاديين والمفكرين والفلاسفة تنبّه إلى ضرورة الاستفادة من ميزات الاقتصاد الإسلامي، وتلفت نظر العالم إلى مركزية العدالة في نظامه.

وهذا يدفعنا إلى الوقوف على أحوال المصرفية الإسلامية الحديثة باعتبار أن البنك هو العنصر الجوهري في العملية الاقتصادية، وطرح تساؤل مفاده: ما هو حال التجربة المصرفية الإسلامية المعاصرة، وما مدى توافقها مع المبادئ الإسلامية في المعاملات المالية، وهل استطاعت أن تقدم نماذج مشرقة يمكن اقتفاء أثرها، والاستفادة منها.

التجربة المصرفية الإسلامية بين الناقدين والمؤيدين

الحقيقة أنه عند تقييم التجربة المصرفية الإسلامية المعاصرة، سنقف أمام وجهات نظر متباينة، فهناك منْ يعتبر أن التجربة نجحت نجاحاً باهراً لا تشوبه إلا بعض الشوائب الصغيرة التي يمكن تفاديها بجهود محدودة، مُستدلاً على رأيه باتساع رقعة انتشار المصارف الإسلامية، حتى وصولها إلى البلاد غير الإسلامية في أوروبا وأمريكا، وضخامة حجم الأموال التي تُديرها (تصل إلى المليارات)، وتتعامل بها، وظاهرة انتشار النوافذ الإسلامية في البنوك الربوية، ونحو ذلك.

بينما يرى الطرف الآخر أن التجربة المصرفية الإسلامية لم تحقق الأهداف التي أُنشئت من أجلها، وأنها انحرفت عن المسار الصحيح، وتورّطت في الاعتماد الكبير على المعاملات المشبوهة التي تحوم حول الربا أو تقع فيه، لذلك تكاثرت الكتابات الناقدة لبعض المعاملات أو الآليات التي تتبناها هذه البنوك وتعمل بها، وقد انضم إلى هذا الفريق بعض المؤسسين الأوائل والمتخصصين الذين يعملون أو عملوا في هذه البنوك لفترات طويلة.

والمقام يضيق بمناقشة مستندات كل طرف، لكن الباحث المُنصِف والمُدقِّق في معاملات المصارف الإسلامية المعاصرة لا يستطيع إنكار جملة من الإشكالات التي تعانيها طريقة عمل الكثير من المصارف الإسلامية، مثل: الاعتماد المبالغ فيه على معاملات تمويلية لا تسلم من إشكالات فقهية، وحضور التحايل في ابتكار بعض العقود الصورية من أجل القفز فوق الضوابط الشرعية.

كما أن النجاح «الكمي» للبنوك الإسلامية، أي زيادة عملائها، وانتشارها في معظم بلاد العالم، وارتفاع حجم الأموال التي تتعامل بها، لا يعني أن التجربة ناجحة بكل المقاييس، وليست هذه المعايير كافية للحكم بنجاح التجربة أو فشلها، وإذا كانت كذلك، فتصبح البنوك الربوية بهذا المعيار في قمة النجاح.

تحديات البنوك الإسلامية المعاصرة

إن بعض المشكلات والتحديات التي تعاني منها البنوك الإسلامية، ذات طابع إجرائي يتعلق بالناحية التنظيمية والإدارية، وهي الأقل ضرراً، ويمكن تجاوزها في المدى القريب، ومنها ما هو بنيوي مرتبط بجوهر عمل المصرف الإسلامي والأسس الشرعية والفكرية التي يقوم عليها، وهذه التحديات هي الأخطر والأكثر تأثيراً.

ومن زاوية أخرى فإن بعض هذه المشكلات راجع إلى قصور البنك نفسه، والبعض الآخر عوامل خارجية يفرزها الواقع الراهن بمختلف مجالاته، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن أهم هذه التحديات والمشكلات النقاط التالية:

1. اعتماد عقود تمويلية فيها شبهة التحايل على الربا

مثل العينة، والتورق المُنظَّم، وذلك فتح عليها عاصفة من الانتقادات، والاتهامات بالشكلية والصورية، وعدم مراعاة مقاصد الشريعة في المال، وما دفع البنوك الإسلامية إلى ابتكار هذه العقود والعمل بها، هو سعيها إلى تجنب المخاطرة وتضييع أموال الناس، وطمعاً في الربح المضمون، مما أدى إلى الجمود، وضمور روح الابتكار والمبادرة، وهذا ما يتعارض مع قاعدتي «الخراج بالضمان» و«الغنم بالغرم».

2. الاعتماد الكبير على العقود المولِّدة للديون

ومن الإشكالات الجوهرية اعتماد البنوك الإسلامية مؤخراً بشكل متزايد على صيغ العقود التي تقوم على توليد الديون مثل: المرابحة، والتورق المُنظَّم، والسلم الموازي؛ لا على المضاربات والشراكات التي تعتبر أكثر كفاءة في تحقيق مقاصد الاقتصاد الإسلامي، حتى أوشكت هذه الصيغ الأساسية على الاختفاء من تعاملات البنوك الإسلامية المعاصرة.

3. المماطلة في تسديد الديون

بناءً على النقطة السابقة صارت الديون تشكل حصة كبيرة من أصول البنك، بحيث أصبح التأخر في سداد الديون من قبل العملاء يتسبب بخسارة للبنك، وبما أن للزمن حصة من الربح كما قرّر الفقهاء، فإن التأخر عن موعد السداد يضيع على البنك الربح الذي يتمثل في الزيادة على الثمن الأصلي (هامش الربح) مقابل الأجل، وصحيح أن البنك يطلب ضمانات عينية ورهوناً عند تقديمه للتمويل، فإن هذه الضمانات لا يمكن التنفيذ عليها إلا بأمر قضائي، وإصدار حكم من المحكمة يستغرق وقتاً طويلاً.

ولما كان فرض غرامة مالية على المدين يستفيد بها الدائن غير جائز شرعاً لأنها عين ربا الجاهلية، دفع ذلك البنوك إلى المبالغة في المطالبة بالضمانات، ومعلوم ما في ذلك من ضرر على من لا تتوفر فيهم القدرات المالية العالية، كما لجأت البنوك أيضاً كإجراء احترازي إلى رفع الربح في عمليات التمويل تحسباً للخسارة المحتملة الناشئة عن المماطلة.

4. انخفاض جودة الخدمات

من ناحية سرعة تجاوب المصرف مع متطلبات العملاء، والتقصير أحياناً في استخدام أحدث الوسائل التكنولوجية مقارنة بالبنوك التقليدية، وضعف كفاءة الكوادر العاملة بها، ويمكن إرجاع ذلك إلى حداثة التجربة، ونقص الكفاءات الإدارية والتنظيمية.

5. عدم تقبل فكرة الخسارة من قبل العملاء

إن الحسابات الاستثمارية في البنوك الإسلامية تقوم أساساً على مشروعات حقيقية، لذا فإن خطر الخسارة يظل قائماً، ولكن جهل بعض المودعين بطريقة عمل البنوك الإسلامية القائمة على الاستثمار، ووجود إمكانية الخسارة فيها، وتأثرهم بطريقة عمل البنوك الربوية، جعل بعضهم يستنكر فكرة الخسارة، ويعمد إلى إغلاق حساباتهم لدى المصارف الإسلامية، والعودة إلى البنوك التقليدية.

6. هيئات الرقابة الشرعية

تُنتقَد البنوك الإسلامية لأجل طريقة عمل اللجان الشرعية فيها، وتساهلها في إباحة المعاملات المستحدثة التي تبتكرها بعض البنوك، بخاصة في ما يتعلق بصيغ التمويل المشكلة، ويُرجِع الناقدون ذلك إلى أن هذه الهيئات غالباً ما تكون تابعة لإدارة البنك، وتتقاضى مرتباتها منه، فكيف يمكن أن تحاسبه وتراجعه؟!

وهناك أيضاً بعض المشكلات الأخرى التي لا يتسع المقام لعرضها مثل: المماطلة في تسديد الديون من قبل العملاء، والارتباط بأسعار الفائدة العالمية، ومشكلة السيولة، والمخاطرة الأخلاقية، وإعادة تشكيل المحافظ الاستثمارية، والاستثمار في العملات الأجنبية، ومسألة الكلفة، ومسألة إلزامية الوعد في المرابحة للآمر بالشراء، ومسألة التوكيل، ومسألة الضمان، وسوى ذلك.

هذه التحديات أصبحت تُشكِّل عائقاً أمام تقدم مسيرة التجربة المصرفية الإسلامية، بل وتشكل تهديداً وجودياً لها، وذلك يتطلب من القائمين عليها أخذها على محمل الجد، وتطوير الحلول المبتكرة من أجل تفادي انحراف التجربة وانهيارها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.