أنا الآن في اللحظات الأخيرة من حياتي، وغير آسفة، هذه البلد لا تستحق العيش فيها.

هكذا خرجت سمية طارق عبيد، المعروفة بـ «فتاة المول» في بث مباشر عبر حسابها بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، في الساعات الأولى من صباح الجمعة، وظهرت بفيديو أطلقت عليه اسم «الدقائق الأخيرة»، وهي في حالة يرثى لها، معلنًة أنها ستنتحر.

«سمية» (25 عامًا) فتاة مصرية، خمرية اللون يكسو وجهها الحزن وتمتلئ عيناها بالدموع الحبيسة، لجأت إلى وسائل الإعلام على أمل أن تتلقى سلالم النور، لتنتشلها من لجة ظلماء غارق فيها مجتمعنا، والذي يرفض محاولات عدم الإذعان للانتهاكات الجسدية التي تتلقاها المرأة، فتُصدَم بسلالم الأمل وقد تحولت لسلاسل تقيدها، لتجد في الموت حبل النجاة الأخير.

تعرضتْ «فتاة المول» للتحرش، فأبلغت السلطات، ويدخل المتهم السجن، ومن ثم يُفرج عنه عازمًا على الانتقام، وتخرج «سمية» من الأزمة بجرح قطعي في الوجه، وجروح غائرة في النفس والروح.

«50 غرزة في وشي، و3 ساعات في العمليات، خايفة أخرج من بيتي»،بكلمات تخرج من طيات دموعها التي ملأتها الخوف، تصرخ سمية: «ياريتنى خدت القلمين وسكت، أنا بنت عادية زي أي حد نمت وصحيت لقيت نفسي في مصايب ومشاكل مش عارفة أخلص منها».

قصة سمية عبيد تشاركها كثير من النسوة في العالم اللواتي يتعرضن للتحرش والتعنيف، دون أي رادع يؤمن لهن حرية التنقل والتصرف دون إزعاج أو اعتداء، وكانت وسائل الإعلام محل إنصافهم وبالمثل مصرعهم.


كاسرات الصمت: شخصية عام 2017

في كسر هو الأول من نوعه لعادة حافظت عليها منذ 1927،اختارت مجلة «تايم» الأمريكية ضحايا التحرش الجنسي لقب شخصية عام 2017، حيث وقع الاختيار على النساء اللاتي تحدثن عن تعرضهن لتحرش وانتهاكات جنسية.

وفي العادة تختار المجلة لغلاف نهاية العام الشخصيات التي كانت أكثر تأثيرًا في الأحداث خلال السنة، بصرف النظر عن طبيعة التأثير، سلبيًا كان أم إيجابيًا.

وتم تسمية النساء وراء حركة #MeToo (أنا أيضًا) «كاسرات الصمت»، واللاتي تحدثن بصراحة عن تعرضهن لاغتصاب أو انتهاكات جنسية من قبل رجال ذوي نفوذ.

الهاشتاج سمح للنساء بالتحدث عن تجاربهن، وفضح العديد من مشاهير العالم، خاصة فضيحة المخرج الأمريكي، هارفي واينشتن، والممثل كيفين سبيسي.

وانتشر هاشتاج الحركة التي أسستها الناشطة تارانا بورك، على موقع تويتر، لقرابة المليون مرة في غضون 48 ساعة؛ بغرض نشر التوعية حول العنف الجنسي منذ عشرات السنوات.

صرخة تلك النسوة اللاتي ظهرن على غلاف التايم بدت في البداية واهنة، وتحولت مع تزايد التفاعل إلى عاصفة أطاحت برؤوس كبرى في دوائر السلطة والإعلام والسينما العالمية.

«كاسرات الصمت»، اللواتي ظهرن على غلاف تايم هن: آشلي جود «ممثلة»، وسوزان فولر «موظفة في أوبر»، وآداما إيو «ناشطة»، وتايلور سويفت «مطربة»، وإيزابيل باسكول «مكسيكية تعمل في جمع ثمار الفراولة»، بالإضافة إلى ذراع امرأة مجهولة، قالت المجلة إنها موظفة بإحدى مستشفيات تكساس، رفضت الكشف عن هويتها خشية تعرض أسرتها للانتقام ممن أساؤوا إليها.

يرى إدوارد فيلسينثال، رئيس تحرير المجلة الأمريكية، أن تلك المجموعة فجّرت «أسرع حركة تغيير اجتماعي» تشهدها واشنطن منذ عقود، بعدما شجعت مئات النساء والرجال حول العالم على الحديث صراحة عن تجاربهنّ مع التحرش الجنسي.

اقرأ أيضًا:فضائح هزت الأمم المتحدة: التحرش خلف المكاتب الرسمية


التحرش سيف مسلط على رقاب الضحايا

تعتبر الانتهاكات الأخلاقية للضحايا وجعًا دائمًا، وموتًا أيضًا، فالإحصاءات المثيرة للقلق بشأن الاعتداءات الجنسية، أوضحت أنه من الشائع أن يعاني ضحايا الاغتصاب من الاكتئاب، في حين أن الاكتئاب غير المعالج هو السبب الأول للانتحار.

وفي الولايات المتحدة،يحدث اعتداء جنسي كل دقيقتين، وحوالي 33% من ضحايا الاعتداءات لديهم تفكير انتحاري، وفق بيانات الشبكة الوطنية لمكافحة الاغتصاب في واشنطن.

وحول الآثار النفسية للاغتصاب على ضحاياه الإناث، فقد عانى 94% من النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب من اضطرابات ما بعد الصدمة لمدة أسبوعين، فيما فكّرت 33% منهن في الانتحار، فيما حاول 13% بالفعل الانتحار.

وكشفت أبحاث أجراها معهد جامعة لندن عام 2014 بتمويل من مجلس البحوث الطبية البريطانية، أن 40% من النساء اللاتي شملهن الاستطلاع، يعانين من مرض نفسي حاد جراء الاعتداء الجنسي، من بينهن 53% حاولوا الانتحار نتيجة لذلك.

وكان علماء من الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا درسوا الآثار النفسية للتحرش الجنسي والاغتصاب،ووفقًا للدراسة التي نُشرت على موقع EurekAlert أن التحرش ينبغي أن يكون مساويًا للاغتصاب، لأن العواقب النفسية في الحالتين متطابقة. وفيما يلي أبرز تأثيرات الانتهاكات الأخلاقية على حياة الضحايا:

الحياة اليومية

يمكن أن يؤدي الاعتداء الجنسي إلى التعرض لمشاكل في النوم، واضطرابات في مواعيد الطعام، وأزمات عاطفية، بالإضافة إلى الإصابة بالاكتئاب ومحاولات الانتحار.

وقال الدكتور ديبرا بوريس، أستاذ مساعد في علم النفس بجامعة كاليفورنيا، إن التحرش الجنسي مرتبط باضطرابات النوم، وضحاياه الأكثر عرضة للأرق والكوابيس؛ بسبب التوتر والقلق من الحدث.

الوضع الصحي

تشمل الآثار الصحية المصاحبة للاعتداءات الجنسية الإصابة بالصداع، وآلام في الظهر والبطن، واضطرابات في الألياف العضلية والجهاز الهضمي، ومحدودية الحركة واعتلال الصحة بشكل عام.

الحالة السلوكية

يمكن أن يؤدي العنف الجنسي، لاسيما أثناء الطفولة، إلى زيادة احتمال التدخين وإدمان المخدرات والكحول، كوسيلة للتأقلم، وانتهاج سلوكيات جنسية خطرة في مرحلة لاحقة من العمر .

كما توجد علاقة بين التعرّض لذلك العنف في الصغر وممارسته (فيما يخص الذكور)، أو الوقوع ضحية له (فيما يخص الإناث) عند الكبر.

الآثار الاجتماعية والاقتصادية

يؤدي العنف الممارس ضد المرأة إلى تكبّد تكاليف اجتماعية واقتصادية ضخمة تُخلّف آثارًا عديدة على المجتمع قاطبة، فتعاني النساء من العزلة، وعدم القدرة على العمل، وفقدان الأجر، ونقص المشاركة في الأنشطة المنتظمة، وعدم التمكّن من الاعتناء بأنفسهن وأطفالهن إلا بشكل محدود.

وتشير إحصاءات مركز «راين» للدراسات إلى أن 38% من ضحايا العنف الجنسي يعانون من مشاكل العمل أو الدراسة، والتي يمكن أن تشمل مشاكل كبيرة مع رئيس العمل، أو زميل الدراسة، أو الأقران.


ليس النساء فقط

هكذا تشير الدراسات التي أُجريت حول حوادث التحرش، وفيما يلي أبرز الملاحظات بشأن أنواع الانتهاكات الأخلاقية التي يتعرض لها غير النساء:

الذكور:تعرّض 3% من رجال أمريكا لمحاولة اغتصاب، واعتبارًا من عام 1998، وقع 2.78 مليون شخص من الذكور ضحية لمحاولة اغتصاب، أو واقعة اغتصاب كاملة.

المراهقون:الانتحار هو السبب الرئيسي الثالث للوفاة بين المراهقين.

المثليون: وجدت دراسة، أجُريت عام 2013، ونشرتها جريدة الغارديان البريطانية، شملت 93 ألف شخص من المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومُغيري الهوية الجنسية في أوروبا، أوضحت أن 50% من المبحوثين تجنب الأماكن العامة خوفًا من التحرش.

المرضى العقليون: 40% من المرضى الذين يعانون من مرض عقلي حاد تعرضوا لخطر العنف الجنسي، وعلى الرغم من قلق الجمهور إزاء العنف الذي يرتكبه المرضى الذين يعانون من أمراض نفسية حادة، فإن الواقع هو أنهم معرضون بشكل متزايد لخطر الوقوع ضحايا لبعض أنواع العنف الأكثر ضررًا، وفقًا لدراسة قسم الطب النفسي بجامعة كاليفورنيا.


حتى لا تتحول البلاغات إلى خطر يهدد أصحابها

القُبلة في الشارع ممنوعة، أمّا العنف عادي!

بهذه الكلمات افتتحت الكاتبة الصحفية رشا حلوة مقالها في موقع DW، تهكمًا على الوضع الذي تعانيه المرأة في المجتمعات العربية، مشيرةً إلى مدى صعوبة مشاركة النساء لقصصهن الشخصيّة، خاصّة في مجتمعات لا زالت تلوم المرأة التي تم التحرّش بها.

وبالتزامن مع الموجة الإعلامية لفضح الضحايا أحداث العنف التي تعرضن له،تؤكد المنظمات الحقوقية قصور القانون، وعدم تأمين السلطات للناجيات من حوادث العنف الجسدي، مطالبين بتوفير قانون حماية الناجيات من هذه الجرائم، والإعلان بشفافية عن سير المحاكمة، وتوفير الحماية الكاملة للمتحرش بهن.

ويعزو البعض تزايد الانتهاكات ضد المرأة إلى أزمة ثقافية ومجتمعية، ما يتطلب المساعدة في المضي قدمًا صوب وضع قواعد ثقافية أكثر سلمية، وتعزيز المساواة بين الجنسين؛ لتحقيق تغيير مستدام بهذا الشأن.

ومن جانبها،أشارت منظمة الصحة العالمية إلى عدة نقاط من شأنها تعزيز وضع المرأة مجتمعيًا والقضاء على العنف الموجه ضدها:

  • إنشاء قاعدة بيانات عن حجم العنف الممارس ضد المرأة وطبيعته في الأماكن المختلفة، ودعم الجهود التي تبذلها البلدان من أجل توثيق وتقدير معدلات هذا العنف وعواقبه، بوسائل منها تحسين أساليب تقدير العنف الممارس ضد المرأة في سياق رصد أهداف التنمية المستدامة.
  • إجراء بحوث عن التدخلات من أجل اختبار وتحديد التدخلات الفعالة التي ينفذها قطاع الصحة في ميدان معالجة مشكلة العنف الممارس ضد المرأة.
  • وضع إرشادات تقنية فيما يخص الوقاية من العنف الجنسي، بالاستناد إلى البيانات، وفيما يتعلّق بتعزيز استجابة القطاع الصحي لأشكال العنف المختلفة.
  • نشر المعلومات على البلدان ودعم الجهود الوطنية من أجل المضي قدمًا بحقوق المرأة وتوقي العنف الجنسي الممارس ضدها.
  • دعم البلدان لتعزيز استجابة القطاع الصحي لحل قضية العنف ضد المرأة، بما في ذلك تنفيذ أدوات منظمة الصحة العالمية والمبادئ التوجيهية.
  • التعاون مع الوكالات والمنظمات الدولية من أجل الحد/التخلص من العنف الجنسي الممارس ضدها في جميع أنحاء العالم.

وبالعودة إلى قضية «فتاة المول»، يُذكر أن مصر في عام 2014،غلظت العقوبةَ على جريمة التحرش الجنسي، لتصل إلى الحبس 6 أشهر، وغرامة لا تقل عن 3000 جنيه، ولا تزيد على 5000 جنيه.

وكانت «سمية»ظهرت على إحدى الشاشات التلفزيونية تروي تفاصيل الحادث الأليم الذي تعرضت له، فقاطعتها مقدمة البرنامج قائلة: «كوني شجاعة يا سمية»، وردت عليها باستهجان:

أنا مش عاوزة أكون شجاعة… أنا عاوزة أكون فتاة.