تمهيد

إن التفكير الصهيوني تفكير غربي استعماري عنصري حتى النخاع، ولذا فهو يتسم بالتعميم والتجريد والانتقاء، فالمستوطن الصهيوني إن لم يفعل هذا وجد نفسه أمام وجود إنساني متعين، له قداسته وله قيمته الإنسانية والحضارية.
عبد الوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية (أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني)، جمعية مصر للثقافة والحوار، 2002.

منذ أكثر من ستين عاما ظهر في قلب الوطن العربي والإسلامي كيان لم يكن له وجود من قبل بهذا الشكل، وهو بحسب مصطلح الدولة القومية الحديثة يعد دولة، ولكنها من الناحية الفعلية ليست كأي دولة، وقد أثارت الكثير من الجدل في الأوساط الفكرية والسياسية والفلسفية والدينية في مختلف الثقافات والمرجعيات المختلفة، فالجدل المثار حول «إسرائيل – الكيان الصهيوني» لا يقتصر فقط على الأروقة العربية والإسلامية فحسب؛ بل يمتد ليشمل ساحات غربية ناقدة لأي فكرة تستند على العنصرية والتمييز التي تبرر أعمال قتل وتدمير وإبادة، والتي تتم بشكل يومي على أرض فلسطين العربية.

ولعل من أهم الاختلافات التي ظهرت في تحليل الظاهرة اليهودية – الصهيونية هو تحديد ماهية الصراع وشكله ومحدداته، إذًا نحن بصدد تصورين مختلفين عن الصراع والنظرة إليه وتأثير ذلك في تحليل مآلات الصراع ومستقبله والمصطلحات والمفاهيم الرئيسية التي تشكل العقل العربي والمسلم تجاه مثل ذلك الصراع وأثر ذلك على مسار ومستقبل القضية الفلسطينية.

فهناك من يتصور الصراع أنه عبارة عن محاولة لإعادة ترسيم الحدود بما يضمن حياة أفضل للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي – الصهيوني في إطار حل الدولتين الذي تم إثارته من قبل العديد من الأطراف الدولية والعربية، والذي فشل في تحقيق مزاعم وادعاءات السلام العادل الشامل الذي يتم ترديده في وسائل الإعلام المختلفة. أما التصور الآخر فهو ذلك المتعلق بالنظرة إلى الصراع على أنه صراع وجودي بمعنى أن بقاء أحد الأطراف متوقف على طرد أو إبادة أو قتل أو فناء الطرف الآخر بشكل دائم وأبدي.

ويمكن القول بأنه في بعض الأوساط وخاصة السياسية بمستوياتها الرسمية وغير الرسمية تم التدرج من التصور الثاني «الوجودي» إلى التصور الأول «الحدودي»؛ مما كان له أثر بالغ سوف نعرض له في تفكيك البنية الفكرية لكل من هذين التصورين.

كما سنعرض تأثير كل من التصورين على مصير ومسار القضية وعلى التصورات الخاصة بالأجيال القادمة لما عرف على مر العصور بالحقب الاستعمارية _ ليس بمعنى «العمران» ولكن بمعنى الاحتلال _ التي يتم من خلالها تجريف البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية للشعوب المحتلَّة.

صراع الحدود

التصور الأول «الحدودي» لا ينفي الاعتراف بـ«إسرائيل» كدولة مستقلة لها شرعية دولية وفقا لتعريف القانون الدولي المعاصر للدولة القومية الحديثة، ذلك القانون الذي صاغه فقهاء القانون من القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية والتي في أغلبها قوى إمبريالية ذات نزعة استعمارية، ذلك التعريف الذي يضع الدولة «نظام الحكم» في إطار شعب وسلطة وأرض، واعتراف من المجتمع الدولي بذلك الكيان الجديد.

وعليه فإن أبناء ذلك التصور لا يرون أن ثمة مشكلة في الاعتراف بكيان يهودي الديانة صهيوني المذهب على أرض «فلسطين المغتصبة»، وربما لا يرون أي مشكلة في تعايش الشعبين سويا على أرض واحدة تقسم الحدود بينهما بما يقضي بعدم المساس بمصالح كلا من الشعبين الفلسطيني العربي واليهودي الاسرائيلي.

وعليه، فإن الأمر بالنسبة لهم على طاولة المفاوضات مجرد محاولة لإعادة ترسيم الحدود في إطار حل الدولتين الذي جاء على لسان العديد من الأوساط السياسية العربية والغربية «الأوروبية والأمريكية»، بل ولا حديث الآن في أروقة منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بل والجامعة العربية إلا من خلال حل الدولتين، وبضمان حالة من الطمأنينة لدولة إسرائيل على أمنها القومي وإشعارها بأنها تعيش بين جيرانها العرب، مما يستتبع عدم وضع قيود لمسألة التطبيع مع هذا الكيان الغريب في الجسم العربي، لا سيما في منتجات وسلع يستقوي بها بنو صهيون على جيرانهم العرب من خلال تجريدهم من حياتهم وتوسيع عمليات الاستيطان والقيام بأعمال القتل والتشريد.

بناءً على البنية الفكرية والنظرية لذلك التصور فإن ذلك قد يغير عالم المفاهيم والمصطلحات، فأصحاب هذا التصور لا يرون بالضرورة أن المقاومة المسلحة ضد الاحتلال حلًا من أجل «التوصل إلى اتفاق» فضلًا عن أنها ليست حلًا للحصول على الاستقلال الذي اختفى ترديده في أروقة الاجتماعات العربية – العربية، بل وقد تدرج ذلك إلى أنه لا بد من التخفيف من أعمال المقاومة من أجل ترك مجالٍ أوسع لمفاوضات السلام لتأخذ مجراها وتؤتي ثمارها وتحقق الأمل المنشود «الزائف»، مرورًا إلى توصيف بعض أعمال المقاومة والجهاد بـ «الإرهابية» تارة و«الانتحارية» تارة أخرى.

لقد كان من الطبيعي أن يتم ذكر تلك المفاهيم في أروقة الغرب الرأسمالي الاستعماري؛ ولكن الملفت للانتباه هو ذكره وكثرة ترديده من أبناء المنطقة العربية والإسلامية على مستويات السياسة الرسمية وغير الرسمية، مما يؤثر على عالم أفكار الأجيال القادمة وبعض من الأجيال الحالية في إطار عدم الإلمام الكامل والحقيقي بأبعاد القضية، بل واستبعاد الحق الأصيل للشعب الفلسطيني والعربي والمسلم في الذود عن مقدساته وأرضه وعرضه ودينه، مرورًا باعتبار إسرائيل دولة كباقي الدول مما يستتبع تطبيع العلاقات معها بشكل طبيعي وليس فيه أي تغيير عن باقي العلاقات البينية والثنائية مع الدول الأخرى.

ينتج عن ذلك أيضا ازدياد شعور الشعب الفلسطيني بالعزلة في نضاله ومقاومته للاحتلال الذي أصبح هناك شك في شرعيته من قبل كثير من العرب والمسلمين، بعدما كان محل نظر واهتمام بل مناصرة ومؤازرة بالإمداد والتموين والسلاح والمساندة السياسية والدبلوماسية.

صراع الوجود

أود قبل أن أقوم بتحليل وتفكيك بينة التصور الثاني، كي يكون واضحا بكل أبعاده الفكرية والمعرفية، أن أعرض بعض الحقائق والمقولات المنسوبة لكثير من اليهود ومعتنقي المذهب الصهيوني الذين كثيرًا ما يدَّعون أنهم مع حل الدولتين الذي لا حل فيه ولا رابط، وبعض المصطلحات الهامة وموقف العقل العربي والإسلامي منه قبل تغيير عالم أفكاره وقبوله بالوضع الراهن الآن.

نبدأ في البداية بعرض ما أطلق عليه تيودور هرتزل بـ «المسألة اليهودية» في كتابه المؤسس لدولة إسرائيل «الدولة اليهودية»، والتي فيها يقول فيها:

إننا الآن سوف وسوف نظل جماعةً تاريخيةً ذات خصائص عامة لا يمكن أن تخطئها العين، إننا شعب واحد، ما أسميناه بشكل تقريبي بـ نسيج انسانيتنا.[1]

تعد تلك الكلمات بمثابة الأفكار التي بنيت عليها وعلى غيرها من الأفكار أسطورة «الشعب المختار» و«أرض الميعاد»، فكثيرًا ما ربطت الدعاية الصهيونية بين فكرة «الحقوق التاريخية» والمرتبطة بتاريخ اليهود في أرض فلسطين وكيفية قراءة ذلك بطريقة انتقائية شكلت وجدان الجماعات الوظيفية «الوسيطة» اليهودية، التي شكلت بناية المجتمع الإسرائيلي في بادئ الأمر، الذي تطور بعد ذلك ليصبح دولة قومية ذات حدود «غير واضحة» المعالم، وفكرة «أرض الميعاد»، والتي أيضًا جاءت من خلال استقراء انتقائي من نصوص التوراة كما جاء على لسان حاخام برتبة نقيب في الجيش الإسرائيلي أثناء حرب لبنان، وقد نشرته صحيفة هآرتس بتاريخ 5/7/1982، بأنه:

علينا ألا ننسى أجزاء التوراة التي تبرر هذه الحرب. فنحن نؤدي واجبنا الديني بتواجدنا هنا. فالنص المكتوب يفرض علينا واجبًا دينيًا هو أن نغزو أرض العدو.[2]

وارتباط ذلك بأسطورة «الشعب المختار» التي تقضي بسمو الجنس والعرق والديانة اليهودية فوق باقي الأعراق والأجناس والأديان، كما كان المذهب النازي الذي اعتبر الجنس الآري فوق كل الأجناس، مما يستتبع عملية تبرير لأعمال العنف والقتل والتهجير والتدمير الذي يقوم بها ذلك الجنس المتميز عنصريا على غيره.

فنحن أمام أسطورة شعب «مختار» يريد أن يعيش وحده في أرض «الميعاد» استنادًا على «الحق التاريخي»، وبناءً على عدم قابلية اندماج ذلك العرق المتميز مع باقي الأجناس والأعراق، لذا فهناك حاجة إلى إنشاء وطن قومي «لليهود».

استغل اليهود – وتحديدًا أصحاب المذهب الصهيوني – حادثة الهولوكست التي تم فيها حرق حوالي 20,000 يهودي على أقل تقدير، حيث يصعب حتى الآن التأكد من حقيقة تفاصيل الحادثة وهناك عدم مصداقية وانعدام منطقية الأرقام التي يطلقها اليهود في هذه المحرقة.

وكما أورد الدكتور عبد الوهاب المسيري في كثير من أدبياته، ونخص بالذكر منها موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية التي ضبط فيها عدة مصطلحات ومفاهيم خاصة بما أسماه الرؤية الصهيونية للخلاص، مصطلح الصهيونية وغيره من المفاهيم التي نذكر بعضها على سبيل المثال، فبالنسبة لرؤية الصهيوني للخلاص تتمثل في «تطبيع الشخصية اليهودية الهامشية في طريق تخليص الأرض والإستيطان فيها، كما أن الدولة تشارك في عملية الخلاص من خلال طرد العرب واستصدار القوانين التي تجعل الاستيلاء على الأرض أمرًا ميسورًا ومشروعًا».[3]

ننطلق مع المسيري لنتعرف أكثر على مصطلح الصهيونية والذي ذكر أن المعاجم الغربية اقتصرت على تعريفها أنها «حركة القومية اليهودية وعودة اليهود لأرض الأجداد»[4]، ولكن المسيري ذكر أنه صك مفهومًا جديدًا وأسماه «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة»، والتي لخصها في:

اليهود شعب عضوي منبوذ غير نافع، يجب نقله خارج أوروبا ليتحول إلى شعب عضوي نافع، وينقل ذلك الشعب إلى أي بقعة خارج أوروبا، واستقر الرأي على فلسطين بسبب أهميتها الاستراتيجية للحضارة الغربية ومقدرتها التعبوية لليهود من كل أنحاء العالم.[5]

كما تنطلق الحركة الصهيونية من أن اليهود بأنه شعب بلا أرض، وأن فلسطين أرض بلا شعب، وهذا هو الأساس البنيوي لأي ظاهرة استعمارية.

فكثيرًا ما يلجأ الاستعمار لتبرير موقفه الاستعماري والإستيطاني بأنه ذهب إلى أراضٍ خالية، أو صحراء ليس بها أحد يريد أن يقوم بتعميرها، ومن ثم هو ينكر الشعب المقيم على تلك الأرض بالفعل، وهو ما حدث مع الهنود الحمر السكان الأصليين للقارة الأمريكية.

وما حدث ويحدث مع الشعب الفلسطيني الذي تعتبره دولة «إسرائيل» هو والعدم سواء فلا وجود له، ولكن التناقض يأتي في دعوة إسرائيل إلى تطبيع العلاقات مع الدول العربية كسبيل للتوصل إلى سلام في منطقة الشرق الأوسط ولحل القضية الفلسطينية التي لا تراها مشكلة وفقا لذلك التحليل المفاهيمي النظري القائم على إنكار بل وإلغاء وجود الآخر.

لذلك يذكر المسيري أن «المواجهة مع السكان الأصليين ليست كما يظن البعض مسألة عرضية، وإنما هي نتيجة حتمية وملازمة لتحقيق المشروع الصهيوني» في شرحه لما سماه بـ «الأزمة البنيوية الصهيونية»[6].

وعلى الرغم من علمانية المدرسة الصهيونية إلا أنها تستغل الدين اليهودي و«الأصولية اليهودية» [7] التي لا تنفك من تأييد دولة إسرائيل، والذي يعتبر تحقيق هدف ديني مقدس على أيدٍ علمانية متمثلة في آباء إسرائيل الأوائل، وعلى رأسهم «بن جوريون» والحرس القديم وأشهرهم «جولدا مائير»، والتي قالت في إحدى المناسبات، في إطار تصريح لها لجريدة «الموندو» الفرنسية بتاريخ 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1971:

وُجد هذا البلد تنفيذا لوعد الرب ذاته، ولهذا لا يصح أن نسأله إيضاحًا عن شرعية ذلك الوجود.[8]

لذا نحن أمام ظاهرة استعمارية من الطراز الأول سياسية وعنصرية إنسانيًا ودينيًا، وقائمة على التناقض ففي الوقت الذي تتظاهر بإمكانية المضي في إنجاز حل الدولتين من خلال مفاوضات السلام، تحاول أن تمرر مشروع قانون القومية اليهودية والذي يقضي بإقصاء عرب 48، وإحلالهم كما تم مع باقي الشعب الفلسطيني.

أمام تلك الظاهرة يصعب الحديث عن تصور «حدودي»، والذي يعتبر مجرد مسألة إجرائية في حالات التفاوض بعد الحروب بين الدول، ولكننا أمام مشروع عنصري بامتياز يسعى إلى إبادة الجنس الآخر، والتفرّد بأرض تم اغتصابها بقوة السلاح وبوسائل أخرى مثل شراء الأراضي.

يقف العقل العربي والمسلم المحتفظ بعالم أفكاره السليم موقف المقاوم لهذا المشروع المدافع عن دينه وأرضه، حيث يستقرئ وبصورة فورية مصطلح «الجهاد»، «العدو»، وعدم التطبيع في الأمور التي يستقوي بها العرب والمسلمين وتقوى شوكته، ويرى أن «المقاومة» من أشرف الأعمال والقائم عليها مجاهدًا ومقاومًا وليس إرهابيًا، والذي يقتل بسببها يكون قد «استشهد» ولا يكون «منتحرًا» كما يرى بعض القادة العرب والمسلمين اليوم.

خاتمة

نحن أمام صراع وجودي بامتياز، صراع لن يتم حسمه داخل أروقة الفنادق المرفهة وغرف الاجتماعات المكيفة، والتي يستطيع بداخلها «اليهود» خلط الأوراق وتركيب المصطلحات، وتغييب المفاهيم أمام قادة أصابهم الوهن والضعف، واختلطت عليهم المفاهيم والمصطلحات، مما نتج عنه تشوه في المواقف السياسية يصل إلى حد التخاذل والتخلي عن مساندة شعب ظل يقاوم طوال أكثر من ستين عاما.

يظن خيرًا في الله أن نصره قريب وهو آت لا محالة، وليس عن طريق إعادة ترسيم الحدود، بل من خلال إعادة رسم المصطلحات والمفاهيم الدقيق الصحيحة المنضبطة التي لطالما شكلت العقل العربي والمسلم طوال 1200 عام تقريبا مضت. وكما قال الله تعالى:

«والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين».
سورة العنكبوت، آية 69
المراجع
  1. تيودور هرتزل، الدولة اليهودية، مركز نصوص، 2006، القاهرة، ص 80.
  2. روجيه جارودي، ملف إسرائيل: دراسة للصهيونية السياسية، دار الشروق، 1983، ص 91.
  3. د.عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الموسوعة المختصرة، المجلد الثاني، دار الشروق، 2010، ص 24.
  4.  المرجع السابق، ص 199.
  5.  المرجع السابق، ص200.
  6. المرجع السابق، ص 494.
  7. المرجع السابق، ص 498.
  8. روجيه جارودي، ملف إسرائيل: دراسة للصهيونية السياسية، دار الشروق، 1983، ص 82.