مع كل تصعيد من إسرائيل لاعتداءاتها على الشعب الفلسطيني، تخرج تظاهرات كبيرة في شوارع العواصم اللاتينية تندد بممارستها وبراعيتها الأولى (الولايات المتحدة)، وتُقام فعاليات التضامن التي تشترك فيها منظمات مجتمع مدني ونقابات وأحزاب وحركات اجتماعية، فضلاً عن وجود وسائل إعلام تبرز جرائمها، وفي الحد الأدنى، لا تتبنى وجهة النظر الإسرائيلية، تحت شعار «الحياد»، وذلك في مقابل المدعومة من الكيان أو التي يمتلكها يهود في بعض الدول مثل البرازيل.

ودائمًا ما يثير ذلك نفس السؤال الاستفهامي المصاحب لكل موقف حاد ورافض من قِبل حكومات تلك الدول، لكن الإجابة قد تحمل من الاختلاف بقدر ما يحمل موقف الشعوب اختلافًا عن الحكومات؛ لجهة الثبات والتجذر والحدة، وأحيانًا الفاعلية.


الذهنية الجمعية المعادية للإمبريالية

يرجع البعض النشاط المناهض لإسرائيل في أمريكا اللاتينية إلى وجود الجاليات العربية التي اضطلعت بدور كبير في التنظيم المدني والشعبي لنصرة القضية الفلسطينية، ولا يمكن إنكار هذا، لكنه أيضًا ليس العامل الوحيد المحرك لذلك النشاط، فثمة ما يدفع الشعوب اللاتينية للإيمان بعدالة القضية، ورفع رايتها، والتضامن معها عبر صور متنوعة.

لدى اللاتينيين ما يدعوهم لاعتبار الفلسطينيين شركاء نضال، فهم شعب يواجه اغتصاب الأرض ومحاولات الإبادة والحصار وعنجهية القوة وإرهابها.

«إسرائيل» لدى تلك الشعوب كيان يرتبط بالإمبريالية التي تسببت في عقود من المعاناة لها، وما يستهدفه ويفعله هو تحت رعاية ودعم واشنطن وإحدى سلاسل جرائمها، وهي العدو التاريخي لهذه الشعوب. فيرى الأمريكيون اللاتينيون أن ما يعانيه الشعب الفلسطيني لا يختلف عما عانوه من استعمار وإبادة واستغلال، وقمع المقاومة من أجل الحقوق.

وبجانب الرمزية، فعمليًا قامت إسرائيل بأدوار قذرة كذراع للولايات المتحدة وداعم لحلفائها من الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات، في مواجهة القوى والحركات المقاومة لها، وذلك عن طريق تدريب وتسليح فرق القتل والميليشيات المرتزقة، ولا يزال ضلوع «إسرائيل» قائمًا حتى اليوم في تمويل ودعم عصابات وميليشيات في دول مثل المكسيك وكولومبيا وهندوراس والدومينيكان.

إذن؛ فلدى اللاتينيين ما يدعوهم لاعتبار الفلسطينيين شركاء نضال، فهم شعب يواجه اغتصاب الأرض ومحاولات الإبادة والحصار والإكراه وعنجهية القوة وإرهابها، وعندما يقاوم يُوصف نضاله بالإرهاب، وهو في كل هذا يحاذيهم على ذات الرصيف.


الحضور الفلسطيني في أمريكا اللاتينية

تعد القارة اللاتينية مهجرًا لكثير من العرب، وبالأخص من نزحوا من بلاد الشام (سوريا، ولبنان، وفلسطين) في النصف الأول من القرن العشرين، وهؤلاء استقروا واندمجوا في المجتمعات اللاتينية، ومع الوقت بات لهم حضور قوي على المستوى السياسي. وبالنسبة للفلسطينيين، فمنهم من تقلد مناصب هامة في دول كثيرة (السلفادور، هندوراس، بيرو، الدومينيكان، شيلي) كعمد للمدن، ورؤساء بلديات، ووزراء، ورؤساء حكومات، وصولاً إلى منصب رئيس الجمهورية، وذلك بدءًا من الأربعينيات وحتى اليوم، الذي يُقدر فيه عدد من هم من أصل فلسطيني في أمريكا اللاتينية بما يتجاوز 700 ألف، وهو أكبر تجمع للفلسطينيين خارج العالم العربي، ويتركز في شيلي وهندوراس.

تعد القارة اللاتينية مهجرًا لكثير من الفلسطينيين الذين استقروا واندمجوا في المجتمع، ومع الوقت بات لهم حضور قوي على المستوى السياسي.

دور هؤلاء في التعبئة من أجل القضية الفلسطينية متفاوت، مكانًا وزمانًا؛ أي أنه اختلف باختلاف المراحل الزمنية والدول، فقد بدأ بجمع الأموال والدعم اللوجستي، ثم تشكيل بعض الكيانات الجامعة للفلسطينيين في الشتات. ومع العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وبعد توقيع اتفاق أوسلو، وتزايد النشاط الصهيوني، والترويج لما سُمي «عملية السلام» انحسرت الحركة، ثم عادت لتنشط مع بداية الألفية الثالثة، سواء على مستوى تأسيس الكيانات والاتحادات الفلسطينية وانضمام اللاتينيين لها، أو تنسيقها وتكثيف نشاطها بالتعاون مع تنظيمات ومؤسسات أهلية ومهنية، وجميعها يستهدف دعم القضية على مستويات عدة.

ومن الكيانات التي يتجلى فيها الوجود الفلسطيني ومحاولة استخدامه لصالح القضية، نادي «بالستينو» في شيلي، وهو واحد من أقدم فرق كرة القدم هناك (1920)، وأسسه مهاجرون فلسطينيون، وقد أراد لاعبوه (أصحاب الأصول الفلسطينية) في يناير/كانون الثاني 2014، توصيل رسالة تذكير بمعاناتهم، وطلبًا للدعم والتضامن، فتم تصميم قميص الفريق عليه رقم «واحد» على شكل خريطة فلسطين؛ أي فلسطين تاريخية واحدة بدون «إسرائيل». وعلى الرغم من أن اتحاد شيلي لكرة القدم فرض غرامة على النادي ومنعه من ارتدائه، إلا أن النادي الذي يلعب في دوري الدرجة الأولى في تشيلي أثار اهتمامًا إعلاميًا واسعًا، في مقابل انزعاج إسرائيلي وجهد، رسمي وإعلامي، لعقابه وتشويهه.

نادي بالستينو التشيلي
نادي بالستينو التشيلي

امتد الانحياز الشعبي في أمريكا اللاتينية للقضية الفلسطينية ليشمل تنظيم فعاليات التضامن مع القضية والتعريف بها، سواء في تشكيل اللجان أو التظاهرات والمسيرات والمؤتمرات، وذلك من قِبل الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والاتحادات الطلابية والنقابات. كما قامت برلمانات بعض الدول بإصدار قرار باعتبار يوم 29 نوفمبر يومًا للتضامن مع الشعب الفلسطيني، بعد إقرار ذلك من الأمم المتحدة عام 1977.


حركة «بي دي إس BDS» ومطاردة «إسرائيل» وعزلها

حققت حركة «بي دي إس» العالمية لمقاطعة «إسرائيل» وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات عليها إنجازات كبدت الكيان خسائر في دول كثيرة حول العالم، منها دول أمريكا اللاتينية، فنشاط المجتمع المدني ومشاركته في الحملة في تزايد، وغير متأثر بالموقف الرسمي للحكومات التي تنتهج سياسة «الحفاظ على التوازن»، أو حتى تلك التي تتخذ مواقف منحازة للكيان، وهو ما أفاد الحركة في بناء شبكة متنامية من المنظمات والحركات الاجتماعية من أجل تعزيز مقاطعة الشركات الإسرائيلية العاملة في مجالات عدة، مع التركيز على الأمنية منها والمتورطة في أعمال تجسس وتدريب وتجهيز فرق وجماعات عسكرية وشبه عسكرية، وكذلك المقاطعة الأكاديمية والفنية والرياضية، وفي الأخيرة شهد العام 2015 حملة نظمتها الحركة في دول المنطقة لرفض مشاركة «إسرائيل» في أولمبياد 2016، تحت عنوان «أولمبياد بدون أبرتهايد».

على مستوى المقاطعة الأكاديمية، عملت الحركة في أوساط روابط العلماء اللاتينيين وفي الجامعات والمؤسسات البحثية والتعليمية، وبالتنسيق مع اتحادات الطلاب، وكثير من الشخصيات الأكاديمية البارزة؛ الأمر الذي تجلت إحدى نتائجه في استفتاء أجراه طلبة كلية الحقوق في جامعة شيلي في إبريل 2016، فقد صوت 60% من الطلبة لصالح قطع العلاقات مع الجامعات الإسرائيلية، وعدم مشاركة المسئولين الإسرائيليين في أي نشاطات بالكلية أو تمويلها.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحركة الطلابية في شيلي نشطة جدًا منذ عدة سنوات في مناهضة خصخصة التعليم، ولها تأثير قوي على مستوى مثيلاتها في القارة. وبجانب شيلي فإن ثمة مئات من الأساتذة والباحثين، وخمس عشرة مؤسسة في كل من البرازيل والأرجنتين أعلنت التزامها بمقاطعة الكيان الصهيوني.

لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن منسقي الحركة ينشطون على المستوى الرسمي، ويلتقون المسئولين للتنسيق ودفع التعاون في مجالات تجارية مع فلسطين، وهو ما حدث مع حكومة البرازيل التي استجابت لدعوة الحركة وأنهت عقدها مع شركة المياه الإسرائيلية Mekorot في مايو/آيار 2016، كما أنهت بعض الشركات في كولومبيا عقودها مع شركة الأمن G4S التي تشارك في إدارة الأمن داخل الأراضي المحتلة الفلسطينية، هذا بجانب ترويج الحركة لمقاطعة منتجات المستوطنات الصهيونية في كل دول القارة.

تحاول الحركة استخدام ما يجمع بين الشعوب الأمريكية اللاتينية والشعب الفلسطيني من مشتركات على أرضية النضال، لذلك فهي تستثمر ضلوع «إسرائيل» في قمع بعض المجتمعات الخاصة، سواء عن طريق استيراد التقنية الإسرائيلية أو نشاطها الأمني من خلال شركاتها، وذلك بالترويج لمفهوم تدويل القمع، وضرورة الشراكة في مقاومته في كل مكان، فضلاً عن وجود ما يوفر إمكانية الاصطفاف ويدعمه عمومًا، وتجتهد الحركة من أجل استخدامه في عزل الكيان الصهيوني وتكبيده خسائر على مستويات عدة.


صوت الجنوب ودعم فلسطين

المشهد اليوم في أمريكا اللاتينية يشير إلى تراجع قد يؤثر سلبًا على المواقف الرسمية من القضية، وذلك بسبب صعود اليمين في بعض الدول.

في الفترة التي شهدت زخمًا حول مواقف القادة اليساريين المؤيدة للقضية الفلسطينية، كان ثمة إطار واسع يحرصون على أن يجمعهم وغيرهم من كل حكام القارة، هذا الإطار تضمّن اتجاههم إلى المنطقة العربية لفتح مجالات تعاون وعقد أكثر من قمة عربية لاتينية، وهو اتجاه تقف وراءه مبادرة ومحاولات من قِبل تلك الدول لتعزيز تعاون دول الجنوب، في مواجهة هيمنة واستغلال دول الشمال، ويرتبط بمشروع إقليمي لاتيني كبير تقوم عليه مؤسسات تكاملية اقتصادية وعسكرية وثقافية قائمة وأخرى قيد الإنشاء أو التفعيل، ويحتاج إلى شراكات وتحالفات مع دول الهامش. فيما دعمت ذلك الشعوب اللاتينية التي يرتفع مستوى وعيها بموقعها في العالم، وتعتبر أنها جزء من الشعوب ضحية النظام الرأسمالي العالمي، وجاء دعمها لفلسطين وقضيتها وحقوق شعبها في إطار «صوت واحد للجنوب».

المشهد اليوم في أمريكا اللاتينية يشير إلى تراجع قد يؤثر سلبًا على المواقف الرسمية من القضية، فاليمين في حالة صعود في بعض الدول، وأخرى كانت الأشد في إدانة «إسرائيل» تواجهها تحديات وأزمات اقتصادية كبيرة، وهذا بدوره تسبب في تعثر المشروع الإقليمي المذكور والجامع لعدد كبير من الدول متباينة الاتجاهات.

وهنا زادت مساحة الحركة لإسرائيل التي بالفعل كانت تربطها علاقات واتفاقيات متنوعة بعدد من الدول، لكنها دائمًا ما تتحرك لدفع مخاطر الاتجاه العام ضدها، خاصة مع تنامي النفوذ الإيراني في شكل تعاون طهران وعقدها اتفاقيات اقتصادية وعسكرية مع دول لاتينية، وهو توجه ازداد الاهتمام به منذ حكم الرئيس أحمدي نجاد، فضلاً عن المساعي الإسرائيلية لتقليل الخسائر من حملة المقاطعة الاقتصادية لها.

لكن ضربت الأزمات الداخلية عددًا من دول أمريكا اللاتينية، فتغيرت سياسات بعض الحكومات هناك باتجاه مزيد من الانفتاح العالمي وتعميق العلاقات مع «إسرائيل» والولايات المتحدة، وهو ما قد ينعكس سلبًا على الدعم الرسمي للقضية الفلسطينية في أمريكا اللاتينية بشكل عام.

ورغم جهود «إسرائيل» الدعائية واختراقها مؤسسات إعلامية وبرلمانية وثقافية لاتينية وتعزيز حضورها عمومًا، فإن فلسطين لا تزال حاضرة في أمريكا اللاتينية، وتزداد يومًا بعد الآخر أعداد المناصرين لقضيتها والساعين لدعمها بشتى الطرق؛ تنظيمات شعبية قاعدية، وسائل إعلام، منظمات حقوقية، اتحادات طلاب، نقابات وأحزاب العمال، وهي قوى فاعلة ومؤثرة سياسًيا. إنه حضور لا يحتاج منا إلى الاكتفاء بالاندهاش، بل إلى التكامل والاستفادة، أو بالأحرى أن تكون فلسطين موجودة في بلاد العرب، كما هي في نصف الكرة الغربي.