تمثل فلسطين حالة فريدة في انتهاك قواعد القانون الدولي، وتحطيم قواعد المنطق!

حينما أعطى وزير خارجية بريطانيا جيمس آرثر بلفور وعده للحركة الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود، كانت الخدعة الأولى في تعبير «وطن»، إذ يوحي بالسماح لليهود للقدوم والاستيطان في فلسطين ليعيشوا مع مسلميها ومسيحييها، دون أن يعني الوعد البريطاني الموافقة على قيام «دولة صهيونية»، فالدولة يعني أجهزة حكم وتشريع، أي أن يحكم الصهاينة المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين. لكن كل ما فعلته بريطانيا كان يمهد الأرض لتأسيس دولة صهيونية، تخدم مصالحها وتحرس طرق مواصلاتها وبخاصة قناة السويس.

ومع صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، تحولت الحركة الصهيونية من الاعتماد على لندن إلى واشنطن، وهو ما رحبت به الإدارات الأمريكية، إذ وجدت في الكيان الصهيوني رأس حربة يخدم ويحرس مصالحها في المنطقة العربية، وبخاصة مع اكتشاف البترول في شبه الجزيرة العربية.

لكي تساعد بريطانيا –ومن بعدها الولايات المتحدة– اليهود الصهاينة على الاستحواذ على فلسطين، جرى التركيز على شراء الأراضي من أهالي فلسطين. في البدء؛ قبل أن نسرد طرق الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وكم نسبتها، نشير إلى تناقض منطقي في معالجة هذه النقطة.

لا يمكن بأية حال اعتبار ملكية الصهاينة لأراض سنداً ومبرراً لكي يشيدوا عليها دولة في فلسطين، فانتقال ملكية قطعة أرض من شخص إلى شخص أجنبي لا يعني انتقال ملكيتها من بلد البائع إلى بلد المشتري. في مصر مثلاً، استحوذ الأجانب على مساحات شاسعة من أراضيها الزراعية، دون أن يدعي هؤلاء أن تلك الأراضي تخول لهم إعلان ممالك أو إمارات عليها، هي أرض مصرية، على أرض مصرية، ولو كان مالكها أجنبي الجنسية، ولو تمتع بامتيازات أجنبية، فالامتيازات الأجنبية تعقد بين دولة ودولة، تعطي امتيازات لرعاياها، في المجال الاقتصادي والقضائي، لكن لا يمكن أن تكون سنداً قانونياً لإقامة دولة في أراضي دولة أخرى.

لكي يكون بيع الأرض سنداً لإقامة دولة عليها، فإنه لا يجري بين شخص وشخص، إنما لا بد أن يجري بين دولة ودولة، مثلما اشترت الولايات المتحدة الأمريكية ألاسكا من روسيا، فصارت ألاسكا ولاية أمريكية لا يحق لروسيا المطالبة بها الآن، فقد باعتها بمحض إرادتها.

امتلك الأجانب في مصر مساحات كبيرة من الأرض تقارب المساحة التي امتلكها الصهاينة عام قرار تقسيم فلسطين 1947، إذ ارتفعت ملكية الأجانب بعد الاحتلال البريطاني لمصر من قرابة 226 ألف فدان عام 1887 إلى أكثر من 702 ألف فدان عام 1910، أي بزيادة 475 ألف فدان في ظرف 23 سنة. [1]

وبقي الأجانب في مصر يملكون مساحات شاسعة، ولم تتراجع نسبة ملكيتهم إلا بعد توقيع معاهدة 1936 وإلغاء الامتيازات الأجنبية، ورغم هذا نجد في عام 1945 كبار الملاك من الأجانب، أي من يملكون 50 فداناً فأكثر، يملكون قرابة 429 ألف فدان، ليمثلوا نحو 91.8% من كبار الملاك [2]، دون أن يدعي أحد من هؤلاء حقه في إقامة دولة على المساحات التي يملكها أو يرفع علم بلده عليها.

أمّا يهود مصر، فقد كان لهم نشاط اقتصادي بارز، حتى شكلوا قوة اقتصادية كبرى، فقد امتلكوا بنوكاً وشركات وعقارات وصحفاً ومجلات وشركات إنتاج فني. من أشهر الأماكن التي امتلكوها محلات شيكوريل، ومحلات شملا، وشاركوا في ملكية شركة بنزايون وريفولي وعمر أفندي وغيرها [3]. رغم هذا النشاط الاقتصادي والفني لم يملك أحد حق الادعاء بأن تلك الممتلكات الشخصية هي ملك دولة اليهودية الصهيونية.

بعد أن تناولنا قواعد ملكية الأرض، وفرقنا بين بيع شخص لشخص وبين بيع دولة لدولة، وضربنا مثلاً بملكية الأجانب في مصر، ننتقل الآن إلى تتبع كيفية استيلاء الصهاينة على نسبة من أراضي فلسطين، فتكون تلك النسبة ذريعة لتقسيم الأمم المتحدة –بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية– إلى دولتين عربية وصهيونية، ثم الإعلان عن تأسيس دولة صهيونية في 15 مايو/أيار 1948. حينما صدر وعد وزير خارجية بريطانيا جيمس آرثر بلفور عام 1917، لم يكن اليهود الذين يعيشون في فلسطين يملكون سوى 2.5% فقط. [4]

يمكن تصنيف بائعي الأراضي التي حصل عليها الصهاينة في ثلاث فئات: المالكين الغائبين عن فلسطين ومعظمهم من الأسر اللبنانية، الحكومة العثمانية عن طريق المزاد العلني الذي تُباع فيه أراضي الفلاحين العاجزين عن دفع الضرائب، المالكين الفلسطينيين. [5]

جزء من هذه الأراضي جاء بوسائل ملتوية، إذ لجأ الصهاينة إلى رشوة الحكام الذين تعينهم حكومة الاتحاد والترقي في إسطنبول، بقصد تسهيل شراء الأراضي والتغلب على القيود التي فرضتها الدولة العثمانية لمنع بيع الأراضي للصهاينة.

مع وقوع فلسطين تحت الاحتلال البريطاني عام 1917 عملت لندن على تمهيد الأرض لإقامة دولة صهيونية، بنزع الأرض من مالكيها العرب ومنحها للصهاينة. اتبعت بريطانيا طرقاً جائرة، منها على سبيل المثال الاستيلاء على أراضي الدولة، واعتبارها من ممتلكاتها، ثم تأجيرها للصهاينة، أو لإقامة بؤر احتلالية والتي يسمونها مستوطنات. [6] ومنها انتزاع الأرض بدعوى تخصيصها للصالح العام، ولم يكن الصالح العام إلا إنشاء بنية تحتية للدولة الصهيونية القادمة، بمد سكك حديدية، وشق طرق، وبناء مطارات، ومبان، ومحاجر صحية، ومدارس. [7]

ومنها الاستيلاء على بعض أراضي الأوقاف الإسلامية والمسيحية. [8]

ومنها قوانين الطوارئ، مثلاً القانون 124 لعام 1945 يعطي الحاكم العسكري سلطة إيقاف كل حقوق المواطنين، بما فيها حق الانتقال من مكان لآخر، فكان يكفي أن يعلن الجيش البريطاني أن هذه المنطقة مغلقة فلا يستطيع صاحب الأرض أن يصل إليها لكي يفلحها ويغرسها، فإذا مات الزرع، صارت الأرض غير مزروعة، ويمكن لوزارة الزراعة الاستيلاء على الأراضي غير المزروعة بدعوى ضمان زراعتها. [9] كذلك، باع بعض كبار الملاك الفلسطينيين أراضيهم، إما جهلاً وعدم وعي بالمؤامرة الصهيونية، أو رغبة في الثراء الحرام، أو لأسباب قهرية.

تحاول الدعاية الصهيونية أن تهول من مبيعات كبار الملاك الفلسطينيين، لكن الأرقام تبين أنها تشكل أقل من 1% من مجموع مساحة فلسطين، وبنسبة قدرها 2.7% من مجموع الأراضي الزراعية وفقاً لتقديرات 1945، وبنسبة قدرها 14.46% من مجموع ما وقع في قبضة الصهاينة حتى عام 1948. [10] أمّا الفلاحون الفلسطينيون، فلم يفرطوا ولم يلينوا أمام الإغراءات المالية ببيع أراضيهم بمبالغ طائلة.

لدفع فلاحي فلسطين إلى البيع وضعتهم السلطات البريطانية بين الضرائب الباهظة التي تفرضها على الأرض الزراعية، وبين اللجوء للمرابين، إذ أغلقت بالاتفاق مع الوكالة اليهودية المصرف الزراعي العثماني عام 1920، وكان يقرض الفلاحين بفائدة معقولة. ومع إغلاق المصرف لجأت السلطات البريطانية إلى زيادة الضرائب، ومنع تصدير المنتجات الزراعية إلى الخارج، أو استيراد محاصيل مماثلة لما تنتجه أراضي الفلاحين وطرحها في الأسواق قبل أن ينضج المحصول الفلسطيني، وهو ما أدى إلى لجوء الفلاح إلى المرابين الصهاينة. فكان الفلاح بين ضرائب الحكومة وربا المرابين [11]. وحينما يعجز الفلاح عن أداء ما عليه تطرح أرضه في المزاد العلني، فيشتريها الصهاينة. [12]

رفضاً للاحتلال البريطاني والغزو الصهيوني، لجأ الفلاحون إلى الثورة والتمرد. في أوائل الثلاثينيات؛ تشكلت عصابات فلاحية، شنت هجمات على الصهاينة والبريطانيين معاً، مثل عصابات «الكف الأخضر» في شمال الجليل، وعصابة «أبي جلدة» في نابلس [13]. وفي كل التمردات والثورات كان الفلاحون عنصراً أساسياً فيها.

حب الحصيد، الأراضي التي استحوذ عليها الصهاينة جاءت عن طريق: منح حكومية بريطانية لأراضي فلسطين الأميرية، أي أراضي الدولة، أو عن طريق ملاك إقطاعيين كبار غير فلسطينيين (ينتمون لعائلات لبنانية وسورية) كانوا يقيمون في الخارج ومنعهم الاحتلال البريطاني من دخول فلسطين بحجة أنهم أجانب، فاضطروا إلى بيع أراضيهم [14]، ونسبة لا تبلغ 1% باعها كبار الملاك الزراعيين الفلسطينيين. ورغم كل هذه الأساليب غير القانونية، وكل القوة الغاشمة التي اتبعتها بريطانيا، لم يمتلك الصهاينة سوى نسبة ضئيلة للغاية.

في نوفمبر/تشرين الثاني 1947، حينما قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية وصهيونية، كانت نسبة الأراضي التي يمتلكها الصهاينة 6.5% فقط من مجموع مساحة فلسطين، 19.6% من مساحة الأراضي الزراعية، جرى الاستيلاء عليها منذ العهد العثماني وحتى قرار التقسيم، أي خلال قرابة قرن من الزمان.

رغم هذه النسبة الضئيلة فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة –وبضغط من الولايات المتحدة الأمريكية– صوتت على إعطاء الصهاينة نسبة 56% من مساحة فلسطين، ورغم أنهم يشكلون 32% فقط من إجمالي السكان، فكانت النسبة التي حصلوا عليها بالقرار الأممي لا تتناسب مع نسبة الأراضي التي استولوا عليها، ولا تتناسب مع أعدادهم! ويلاحظ روجيه جارودي أن قرار الأمم المتحدة لم يصدر عن مجلس الأمن، إنما صدر عن الجمعية العامة، وبالتالي فهو لا يتعدى كونه توصية، وليس قراراً واجب التنفيذ.

وانتقاماً من الفلاحين الذين رفضوا ترك أراضيهم، ارتكبت العصابات الصهيونية المسلحة مجازر دير ياسين وأخواتها، فصارت الأرض خالية من أصحابها، فصودرت وأعُطيت للصهاينة، استناداً إلى قانون غاشم صدر في 1948 وعُدل في 1949 خاصاً بالأرض البور، يعطي وزارة الزراعة سلطة مصادرة كل أرض مهجورة.

استولى الصهاينة على الأرض، ودمروا معالم القرى، وهدموا القبور، وأعطوا الأماكن أسماء جديدة، فمحيت 385 قرية من أصل 475 قرية كانت موجودة عام 1948. [15] وكانت نتيجة مجازر دير ياسين وتهجير الفلسطينيين القسري ارتفاع نسبة امتلاك الصهاينة من الأراضي إلى 80% عام 1949، بعد طرد 770 ألف فلسطيني. وتفاخر قادة الكيان الصهيوني بمذبحة دير ياسين، وقال مناحم بيجن (1913-1992) مفتخراً: لولا دير ياسين لما قامت إسرائيل! وانتهت الجولة الأولى من الحروب العربية/ الإسرائيلية بتمدد الكيان الصهيوني ظلماً وقهراً، وقد انكمشت مساحة فلسطين الباقية إلى 20% فقط، تمثلها أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.

في حرب 1967، استولت إسرائيل على الضفة الغربية لنهر الأردن والقدس الشرقية وعلى قطاع غزة، فارتفعت نسبة استيلائها إلى 93%. كانت نتائج حرب الخامس من يونيو/حزيران كارثية على قضية فلسطين، وإلى اليوم لم نفق منها، ولم تفلح حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 في محو آثارها، ومع تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن المقاومة كاستراتيجية لتحرير فلسطين، وجرها إلى أسلوب المفاوضات، كانت المطالب الدولية والعربية الرسمية هي عودة إسرائيل إلى حدود ما قبل الخامس من يونيو/حزيران 1967، أي أن تترك إسرائيل لأهل فلسطين 20% فقط، فيما تستأثر هي بغالب البلاد.

حل الدولتين يعني إذاً أن يرضى أهالي فلسطين بمساحة 20% فقط، ويتركون لإسرائيل 80%، وأن يرضوا بدويلة فلسطينية منزوعة السلاح، ممزقة الأوصال، ما بين ضفة غربية وقطاع غرة، بلا جيش يدافع عنها، ولا اقتصاد قوي.

الأدهى أن اليمين المتطرف يضن بهذا الفتات على الفلسطينيين، وتتوسع الحكومات الإسرائيلية في بناء بؤر احتلالية في الضفة الغربية، تلهتم مزيداً من الأراضي الفلسطينية، حتى لم يبق للفلسطينيين سوى 15% فقط من مساحة فلسطين التاريخية. [16]

أما القدس الشرقية فيرفض اليمين المتطرف أن تكون عاصمة لدويلة فلسطين، ويطمع في تهويدها بالكلية، بطرد أصحابها المسلمين والمسيحيين، لكي يهدم المسجد الأقصى، ويبني هيكل سليمان، لتكتمل الدولة اليهودية.

المراجع
  1. على بركات، تطور الملكية الزراعية في مصر 1813 – 1914 وأثره على الحركة السياسية، الطبعة الأولي (القاهرة: دار الثقافة، 1977) ص 198 – 199.
  2. عاصم الدسوقي، كبار ملاك الأراضي الزراعية ودورهم في المجتمع المصري 1914-1952، الطبعة الأولي (القاهرة: دار الشروق، 2007) ص 59 – 60.
  3. للمزيد: نبيل عبد الحميد، الحياة الاقتصادية والاجتماعية لليهود في مصر 1947 – 1956 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1411هـ/ 1991).
  4. جارودي، ملف إسرائيل: دراسة في الصهيونية، الطبعة الأولي (القاهرة: دار الشروق، 1983) ص 122.
  5. عبد الوهاب الكيالي، تاريخ فلسطين الحديث، الطبعة العاشرة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990) ص 49.
  6. هند أمين البديري، أراضي فلسطين بين مزاعم الصهيونية وحقائق التاريخ: دراسة وثائقية (جامعة الدول العربية، 1998) ص 161، 187 وما بعدها.
  7. البديري، ص 164، 210، 211.
  8. البديري، ص 181.
  9. جارودي، ص 123.
  10. البديري، 249.
  11. البديري، ص 250.
  12. عبد الوهاب الكيالي، ص 221.
  13. رودلف بيترز، الإسلام والاستعمار: عقيدة الجهاد في التاريخ الحديث (القاهرة: دار شهدي للنشر والتوزيع بالتعاون مع المعهد الهولندي للآثار المصرية والبحوث العربية، 1985) ص 122. عبد الوهاب الكيالي، ص 220.
  14. محسن محمد صالح، هل باع الفلسطينيون أرضهم وتخلوا عنها لليهود؟، إضاءات، 21 يونيو 2021. عبد الوهاب الكيالي، ص 197.
  15. جارودي، ص 125.
  16. الجزيرة نت، كم قضم الاستيطان من أرض فلسطين؟ 22 مايو 2017.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.