مر البحث الفلسطيني الحثيث عن كيانية شاملة ممثلة في “دولة فلسطينية” بمراحل عديدة، ولم تبدأ هذه المراحل مع النكبة وإعلان التقسيم الأممي لفلسطين لدولتين لشعبين، بل سبقت ذلك مع الانتداب البريطاني لفلسطين، وكان البحث يتعلق حينها بالأساس بالبحث عن السيادة باعتبارها المكون الغائب على الدوام. فتحت الحكم العثماني لم تكن ثمة سيادة مستقلة لدولة فلسطينية ولم يحكم الفلسطيني نفسه، واستمر الأمر مع الانتداب البريطاني الذي حاز السيادة منفردًا، ومع النكبة والتقسيم سيطر الاحتلال وقاوم ظهور سيادة فلسطينية على أي أرض فلسطينية، وهو الأمر الذي تثبت واستقر مع حرب ٦٧ وسيطرة إسرائيل على مساحة أكبر من أرض فلسطين. ورغم التنازلات المتتالية التي قدمها العرب والفلسطينيون منذ ذلك الحين، لم تنفك إسرائيل تُحارب وجود كيانية فلسطينية موحدة، مُفشِلة بذلك معاهدة أوسلو التي أقرت دولة فلسطينية مُصغرة تضم الضفة الغربية وغزة وعاصمتها القدس الشرقية.

عبر عقود قُدم حل الدولتين باعتباره الحل النهائي والوحيد للقضية الفلسطينية، خاصة من الدول العربية الراعية لمبادرة السلام، أو من الولايات المتحدة الراعي الرئيس لدولة الاحتلال، ما يجعلنا نفهم ما يتردد مؤخرًا بعد السابع من أكتوبر من الدول الأوروبية والغربية التي تستخدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية كوسيلة تهدئة للعالم الغاضب من الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في غزة.

لكن هل يبتلع الشعب الفلسطيني هذا الطُعم الذي يُسوِق للاعتراف بدولة فلسطين وكأنه موازٍ لإنشاء كيان الدولة نفسه؟ هذا وفي الذاكرة الفلسطينية خيبة أوسلو لا تزال ماثلة، ولا تفتأ تُذكِر الفلسطيني بأن الدولة ليست هي الاعتراف، وهو الأمر المستقر عليه في أدبيات علم السياسة، الذي يُعِدُ الاعتراف مجرد مرحلة لاحقة لقيام الدولة ونشأتها بل لا يعتبره شرطًا لوجودها، وهو ما لا ينطبق مثلًا على عنصر السيادة الذي بدونه ينتفي وجود الدولة، كون السيادة ركن أساسي من أركان قيام الدولة.

السيادة أم الاعتراف: مما تخاف إسرائيل؟

لم تقف إسرائيل في جميع المراحل ضد ظهور “دولة فلسطينية” بل وقفت على الدوام وبلا ريب ضد ظهور “سيادة فلسطينية” على أي أرض -صغرت أو كبرت- من فلسطين، ومن يُراجع الخطاب الإسرائيلي سيلاحظ اتجاهين شكلا السياسة الإسرائيلية تجاه مسألة الدولة الفلسطينية، ما بين تيار ينادي بالسماح بدولة فلسطينية بلا سيادة، وتيار ثان يرفض بشكل كامل الاعتراف بدولة فلسطينية، بمعنى أن خيارًا ثالثًا وهو الدولة الفلسطينية ذات السيادة لم يكن مطروحًا على الإطلاق في النقاش الإسرائيلي.

وسبق أن اقترح نتنياهو فكرة قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح بين عامي 2009 و2015، وفي محاضرة له في العام 2009 نجده يُعبر عن أنه لا مشكلة في ظهور دولة فلسطينية ما دامت بلا سيادة ومُحقِقة للشروط الإسرائيلية، فيقول: “إن هذا الأمر هو أيضًا محل توافق عريض بين الجمهور الإسرائيلي. لا أحد يمكنه أن يتوقع منا الموافقة سلفًا على مبدأ قيام دولة فلسطينية، من دون ضمان تجريد هذه الدولة من السلاح. يجب أن يتم أولًا التجاوب مع احتياجاتنا الأمنية في قضية مصيرية كهذه تخص صميم وجود دولة إسرائيل” (نتنياهو، 2009)

تطرَف نتنياهو مع مرور الزمن تماشيًا مع تحالفاته مع اليمين المتطرف، الأشد صرامة في رفض نشأة أي دولة فلسطينية، ومع هذا التحالف سيتراجع نتنياهو حتى عن فكرة القبول بالاعتراف بدولة فلسطينية وإن كانت بلا سيادة، فهو اليوم يرفض وجود دولة فلسطينية حتى ولو نُزعت منها كل مقومات السيادة.

 لكن بالعودة لمقابلة سابقة لنتنياهو في شبابه يتضح لنا أن ليس ثمة تغير حقيقي هنالك في مواقفه، فكل هذا التغير في الموقف من وجود دولة فلسطينية إنما هو مناورة ليس إلا، تبعًا للضغط الأمريكي الذي يحث على وجود دولة فلسطينية، لكن في صميم اعتقاد نتنياهو وكما يظهر في المقابلة القديمة، فهو يرفض أي وجود لدولة فلسطينية مهما كان شكلها. (نتنياهو، 1978)

ومع ذلك فنتنياهو وخلفه النخبة السياسية الإسرائيلية ستُعيد مرارًا تلك المناورة، طالما هنالك من هو مستعد لابتلاع طُعمها سواء من الفلسطينيين أو العرب أو حتى بعض الدول الغربية الراغبة بصدق في إيجاد تسوية للصراع على أساس حل الدولتين، وستضع تلك النخبة عراقيل متجددة أمام الراغبين في الاعتراف بوجود دولة فلسطينية والمطالبين بها، وسيطلبوا ما طلبه نتنياهو من قبل: “نطلب الآن من أصدقائنا في المجتمع الدولي، وفي طليعتهم الولايات المتحدة الأمريكية، ما هو ضروري لضمان أمن دولة إسرائيل: التعهد الصريح بأن الأراضي التي يحتفظ بها الفلسطينيون ضمن اتفاق الوضع الدائم ستكون منزوعة السلاح، أي خالية من الجيش ومن دون سيطرة على المجال الجوي، ومع مراقبة فعالة لمنع إدخال الأسلحة إلى أراضيهم. إذا ما افتقدنا هذا الأمر، فإننا سنواجه عاجلًا أم أجلًا دولة حماستان أخرى، ولن يكون في وسعنا الموافقة على ذلك. يجب على إسرائيل أن تتحكم في أمنها وفي مصيرها”. (نتنياهو، 2009)

دولة بلا سيادة

من يتابع التصريحات الإسرائيلية والتعليقات الأوروبية والأمريكية فلن يلمس بأي شكل من الأشكال نية لمنح الدولة الفلسطينية الناشئة أي نوع من السيادة، إذ لا يعدو الأمر أن يكون حديثًا عن دولة منزوعة السلاح، ذات حكم ذاتي جزئي.

فمن الواضح أن أي حديث عن دولة فلسطينية بلا حرية حركة وبلا إدارة للأمن وبلا مطارات أو استخراج تأشيرات وغيرها مما تختص به الدولة ويُعبر عن سيادتها، هو حديث قد يتعلق بأي شئ آخر لكنه بالتأكيد لا يمت للدولة الحديثة بصلة.

وهو ما يُعيدنا لتعريف السيادة كما جاء في جُل الأدبيات السياسية، والتي هي استقلال الدولة الكامل في شؤونها الداخلية والخارجية. فمن الناحية الداخلية، تتضمن السيادة السلطة في صياغة القوانين، وتنفيذها، والسيطرة على الشؤون الداخلية. ومن الناحية الخارجية، تعني السيادة الاستقلال في التعامل مع الدول الأخرى، وامتلاك القوة للدخول في معاهدات، وإنشاء علاقات خارجية.

ولأن إسرائيل وخلفها الولايات المتحدة غير راغبين بأي شكل من الأشكال في منح الفلسطينيين أي نوع من السيادة على أي مساحة من فلسطين، فقد حاولوا على مراحل عديدة التنصل من شرط السيادة في الدولة الفلسطينية الوليدة، وكان هذا التنصل فاضحًا في أوراق ما سُمي بـ “صفقة القرن” وفيها يرد ما يلي: “السيادة مفهوم غير متبلور، تطور عبر الزمن. مع تزايد الاعتماد المتبادل، تختار كل دولة التفاعل مع الدول الأخرى من خلال إبرام اتفاقات تحدد المعايير الأساسية لكل أمة. إن فكرة أن السيادة هي مصطلح ثابت ومعرَّف باستمرار كانت حجر عثرة لا لزوم له في المفاوضات السابقة. فالهموم البراغماتية والعملية التي تؤثر في الأمن والازدهار هي الأكثر أهمية”. (وثيقة صفقة القرن)

رغم فجاجة هذا الطرح الذي ينزع عن مفهوم السيادة أهميته ومحوريته، لكنه أيضًا هروب وقفز للأمام من شرط السيادة الذي لا مفر منه، ففي صراع مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هل ثمة إمكانية لأن يتخلى الفلسطيني عن سلاحه؟ وإذا كانت إسرائيل قد أبادت الفلسطينيين وهم في مقاومة لا تتوقف، فمن من المجتمع الدولى يضمن أن تحفظ إسرائيل أمن الدولة الفلسطينية الوليدة منزوعة السلاح؟ وطبعًا لن يُطرح في هذا السياق سؤال مقابل: لماذا لا تنزع إسرائيل هي الأخرى سلاحها؟! لن يُطرح هذا السؤال لأن حل دولة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة إنما يخرج ليس لاستعادة جزء من الحق الفلسطيني الضائع، بل لحماية أمن إسرائيل، حتى يتسنى لها التخلص نهائيًا من أي مقاومة مسلحة في الأراضي الفلسطينية. فسيطرة أمنية وتنسيق أمني كما يحدث في الضفة، تظن إسرائيل فيهما خلاصها الوحيد لتستقر لها الأمور بشكل نهائي. ومن أجل ذلك فإن اعتراف صوري من الولايات المتحدة أو بعض الدول الأوروبية لن يضر في هذا السياق.

فخ أخر تم الوقوع فيه وهو الخلط بين السلطة والسيادة “فهناك بعض المفاهيم التي يتم الخلط بينها وبين السيادة في بعض الأحيان. والسلطة، أحد هذه المفاهيم” (كايا، مولود ألبر. 2022: 217) وهو ما حدث بالضبط في الحالة الفلسطينية، فالاعتراف بمنظمة التحرير كممثل وحيد للشعب الفلسطيني لم يكن منحًا للسيادة، بل مجرد منح سلطة، وهي سلطة لم تكن أبدًا سياسية بقدر ما هي سلطة مدنية لتسيير شؤون الحياة اليومية.

سلطة بلا دولة

يُمثل الصراع على السلطة جوهر الصراع والانقسام الفلسطيني، وليس كما يتصور البعض بأن سبب الانقسام هو الاختلاف في أسلوب مقاربة إسرائيل هل بالمقاومة المسلحة أم بالمفاوضات السلمية، ويرجع السبب في ذلك في أن قيام السلطة بدون دولة ساهم في ظهور سلطة مُتوهمة يُتصارع حولها.

لكن ما نراه في الضفة الغربية فلا يتعدى كونه إدارة مدنية تحمل عن الدولة المُحتلة عبء تسيير أمور السكان الخاضعين للاحتلال. النقطة الأساسية هنا أن إسرائيل لن تعترف بدولة فلسطينية إلا في اللحظة التي تتأكد فيها أن ليس ثمة دولة فلسطينية مُمكنة على أرض الواقع.

بل إن إسرائيل لا ترغب حتى في وجود سلطة مدنية مزدهرة وفاعلة، وفي عهد شارون نتذكر كيف تركت إسرائيل السلطة الفلسطينية عاجزة. حين قبع عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية حينذاك، سجينًا في مكتبه في رام الله الذي أوشك على الدمار. مع تحطيم جهازه الأمني ​​في الضفة الغربية. وتدمير الملفات والسجلات والخدمة المدنية وسجلات الأراضي الخاصة بإدارته بشكل منهجي. مع تعريض البنوك الفلسطينية للسرقة وتجميد الحسابات الفلسطينية، بما في ذلك حسابات السلطة الفلسطينية في البنوك الإسرائيلية. وقصف مكاتب البريد والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس الفلسطينية. (إيفيكوفيتش، إيفان. 2004: 417) وهو ما تكرر في حرب إسرائيل على غزة، فهي لا تستهدف البنية العسكرية فقط، بل تهدف إلى شل قدرة الفلسطينيين في غزة على إدارة شؤونهم المدنية بشكل فعال.

دولة كانتونات بديلًا عن الدولة

إسرائيل إذًا مستعدة لمنح الفلسطينيين دولة كانتونات، كدولة اسميه في أجزاء من الضفة وغزة، وهي دولة كانتونات بلا أي معنى للسيادة، تتحكم فيها إسرائيل عبر التحكم بالمعابر والاقتصاد وإصدار تأشيرات الدخول والخروج وغيرها من أمور السيادة، ويبقى للفلسطيني فقط إدارة الحياة اليومية وضمان أمن إسرائيل عبر التنسيق الأمني معها.

ترفض إسرائيل اليوم بشدة قيام دولة فلسطينية أي كان شكلها ومقوماتها، لأنها تتصور، بل تجد الفرصة مواتية بعد السابع من أكتوبر لأن تمنح الفلسطينيين “كانتونات ذات إدارة مدنية مستقلة” بديلا عن الدولة، وهو المسار الذي تنتهجه إسرائيل في الضفة الغربية، ويؤتي أُكله في التصور الإسرائيلي، فمن يستطلع بنية تطور المستوطنات فحتمًا سيشهد هذا التحول المتواصل للضفة من كونها منطقة حكم ذاتي مدني تُدار من السلطة الفلسطينية، إلى كونها كانتونات ذات حكم مدني، وإن احتفظت السلطة فيها ببعض صلاحيات الإدارة المدنية. وبهذا الشكل لا يبقى للسلطة الفلسطينية مساحة من الأراضي المتناسقة والمتجاورة لتحكمها مدنيًا.

ويعتقد بعض قراء المشهد الإسرائيلي أن رفض قيام دولة فلسطينية هو قضية متنازع عليها بين اليسار الإسرائيلي واليمين المتطرف، وهي نقطة تستحق المساءلة، إذ ليس ثمة خلاف مُعتبر في الداخل الإسرائيلي على التهديد الوجودي الذي يمثله نشأة دولة فلسطينية ذات سيادة. وإن اختلفوا على إمكان منح الفلسطينيين اعتراف صوري بدولة فلسطينية بلا سيادة.

كما يشيع أيضًا في الأوساط العربية أن فشل أوسلو يعود بالأساس لاغتيال إسحاق رابين من قِبَل المتطرفين الإسرائيليين، وهو افتراض ينبني على فكرة أنه كان لأوسلو أن تمنح الفلسطينيين فرصة ظهور دولة كاملة السيادة إذا عاش رابين وتياره السياسي لسنوات تلت، فيقول عضو طاقم المفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل حسن عصفور، إن «فشل أوسلو لم يفاجئه». ويضيف: «توقعنا انتهاء كل شيء بعد اغتيال إسحاق رابين». (مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية،٢٠٢٣)

وهنا المغالطة الرئيسية لأوسلو وهو تصور أن الاسرائيليين عند توقيعها كانوا جادين في تنفيذ حتى “إعلان المبادئ” الخاص بها. فرغم أن المعاهدة وإعلانها لم يَعِدان بالكثير، حيث تُركت النقاط الأهم لجولات المفاوضات التالية، فإن إسرائيل لم تنو قط الالتزام بها، رغم أنها عمليًا لم تُلزمها بشئ، بل تركت كل ملفات السيادة الحقيقية للدولة الوليدة معلقة في مراحل المفاوضات التي ستلي توقيع الاتفاقية، وهنا كان الفخ الإسرائيلي الذي ابتلعه الوفد المفاوض الفلسطيني وقيادات منظمة التحرير، وبالتالي لم تتجاوز أوسلو أن تكون توقيعًا مجانيًا يعترف بوجود إسرائيل في مُقابل حُلم باعتراف إسرائيلي بدولة فلسطينية في المقابل وإن على مراحل، تبدأ بالاعتراف بالسلطة الفلسطينية.

ما يُنسى في هذا السياق أن إسرائيل كانت في تلك اللحظة دولة ذات سيادة ومطارات وجيش وأجهزة أمنية واعتراف دولي، بينما افتقر الفلسطيني لكل ذلك، وهو ما كان يُلزم الوفد المفاوض أن يتأكد من أخذ ضمانات كافية تكفل الحصول على الدولة الفلسطينية المنشودة، وهو ما لم يحدث، ما جعل من أوسلو خيبة كبيرة، يلخصها السنونو، وهو ضابط سابق في أمن السلطة الفلسطينية زمن عرفات، لوكالة الصحافة الفرنسية بقوله: «كنا نعتقد أن البلد ستصبح سنغافورة: معابر مفتوحة، فرص عمل لأولادنا وحكومة ومطار وميناء وجواز سفر، ظننّا أن الدولة على مرمى حجر». (مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية،٢٠٢٣)

والغرض هنا ليس نقد أوسلو بذاتها، بل نقد المسار الذي تدور فيه القضية الفلسطينية منذ ما يقارب ثمانية عقود، وهو المسار الذي تحول فيه النضال من البحث عن التحرر من الاحتلال إلى مسار البحث عن “الدولة”، وهو ما كان ولا يزال مسارًا مليئًا بالفخاخ والأوهام التي استثمرت فيها إسرائيل وخلفها الولايات المتحدة كثيرًا، ونراه في الحرب الأخيرة مع تجدد الوعود الغربية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، والغريب أنه لا أحد يسأل: أي دولة؟ وما الذي بقى أصلا من الدولة الفلسطينية ليُعترف به؟

ولا يُفهم من هذا أن الاعتراف بدولة فلسطينية من دول وازنة في النظام الدولي بلا قيمة في ذاته، بل سيترتب عليه بعض الفوائد القانونية والسياسية والمعنوية، لكن من الوهم توقع أن يكون لهذا الاعتراف أي مقارنة مع وجود دولة فلسطينية ذات سيادة على الأرض، فشتان الفارق بينهما. والأهم من ذلك أن الاعتراف نفسه يُمثل فخ، تستخدمه الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية كورقة تهدئة للجزء الغاضب من جمهورها، جراء الإبادة الجماعية الجارية في غزة، تمنح به وهم تحقيق إنجاز، وأخلاقية منح حقوق للفلسطينيين، أمام محرقة تمولها تلك الدول بالأساس. ولهذا يلزم مجابهة جهود الاعتراف بطرح السؤال التالي باستمرار: أين هي الدولة التي تعترفون بها بعد المحرقة؟ هل بقى للفلسطيني غير كانتونات الضفة ومخيمات غزة؟

صراع على سلطة متوهمة

السلطة الفلسطينية التي أممت “منظمة التحرير الفلسطينية” وأضعفتها لا تمتلك سلطة حقيقية أمام التوغل الإسرائيلي الكبير في جميع شؤونها، لذلك تحول الصراع الداخلي الفلسطيني مع الوقت إلى صراع من أجل سلطة وهمية، فمن يُصارع فتح الآن على قيادة السلطة الفلسطينية إنما يُصارعها على وهم سلطة لا تملكها بالأساس، وهو الصراع الذي يُمكن تشبيهه بـ “صراع سجناء على من يحظى بحق تمثيلهم أمام السجان” (بشارة، ٢٠١٩) فنحن لا نتحدث عن دولة ولا عن انتخابات حقيقية، إذ لا كيان هنالك لدولة يُتصارع من خلاله وبداخله.

وبما أننا نتحدث عن دولة واقعة تحت الاحتلال، بل وتحت احتلال استيطاني يروم محو وإزالة السكان الأصليين بالكامل ليحل محلهم، فإن الحديث عن دولة وعملية انتخابية سلمية، وممارسات ديمقراطية هو بالتأكيد أمر بعيد المنال، ولن تسمح به دولة الاحتلال إلا إن زال احتلالها، أما أي حكومة فلسطينية قادمة مهما كان توجهها فإن مستقبلها محكوم مُسبقًا، نُلخصه في جهود يومية مُضنية لتوفير أساسيات العيش اليومي للمواطنين، ما من شأنه أن يُضعف من القدرات الموجهة للتحرير والمقاومة.

ومما يزيد من تضخم واستمرار الصراع الداخلي الفلسطيني، أن مؤسسة السلطة الفلسطينية تُعيد إنتاج نفسها باستمرار مع وجود شبكة مصالح متسعة، تضم جهاز أمني متوغل يضم قرابة ١٠٠ ألف عُنصر، بالإضافة لجهاز بيروقراطي يضم الآلاف، ومع مرور السنوات بات لهذه الشبكات ما تدافع عنه، حتى أصبح من مصلحتها وقف أي محاولة للإصلاح أو معالجة الوضع القائم، فالمصالحة بين الفصائل قد تؤدي لإعادة هيكلتها، والتخلي عن جزء كبير من عناصرها، وبالتالي فهي تقاوم من أجل تثبيت الوضع القائم وإعادة انتاجه.

بهذا يكمن الفخ الذي وقع فيه أطراف الانقسام الفلسطيني، في الصراع على سُلطة لم توجد على الحقيقة، بينما حري بالجميع البحث أولًا عن دولة كاملة السيادة ذات سلطة حقيقية، وبعدها فليتصارعوا عبر بنية ديمقراطية وانتخابية على من يملك السلطة فيها ويُشكل الحكومة.

لكن رغم نقد المقال لمسار البحث عن الدولة في هكذا سياق فلسطيني، فإنه لا يُفهم أبدًا كتقليل من شأن النضال الفلسطيني من أجل الحصول على هذه الدولة، فقدرة الفلسطينيين على الإدارة الذاتية ليست محل شك، ويجب ألا تكون، إنما الأمر هو ضرورة مراعاة فقة الأولويات. معركة الدولة أم معركة التحرير؟

المراجع
  1. أين أصبح حلم الدولة لدى سكان غزة بعد 3 عقود على أوسلو؟.(2023). مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
  2. بشارة، عزمي. (٢٠١٩). مأزق السلطة في الصراع الفلسطيني الفلسطيني، يوتيوب د٤:٣٢
  3. جزء من الوثيقة التي خرجت إبان حكم الرئيس ترامب كمقترح أمريكي لتسوية القضية الفلسطينية وسميت على نطاق واسع بـ “صفقة القرن”
  4. نتنياهو، بنيامين.”2009″. خطاب في جامعة بار إيلان، نقلًا عن محاضرة بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
  5. Iveković, Ivan. (2004), Israel and the Bantustanization of Palestine. Biblid, Vol. LIV, br. 4
  6. KAYA, Mevlüt Alper. (2022). Egemenlik Kavramı Ve Siyasi Düşünürler. Necmettin Erbakan Üniversitesi Hukuk Fakültesi Dergisi, c. 5, sy. 1.
  7. Netanyahu, Benjamin. (1978) Young Benjamin Netanyahu on Palestine.