لم يشهد بلد من البلدان ولا شعب من الشعوب ولا تاريخ من التواريخ مثل ما شهدته فلسطين -شعبها وتاريخها- من هذا التزوير والتشويه لواقعها وحضارتها، وبالطبع إن مرد ذلك يرجع إلى تحريف ما هو مقدس، وأطماع الدول الأجنبية، وفعل الأساطير في مخيلة اليهودي.

فلا غرابة إذن أن تتحول فلسطين العربية من أرض كنعان ذات التاريخ والحضارة إلى الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً. ومن هذا يصح أن نقول إن مقدار تشويه تاريخ فلسطين وإقحامها في روايات غير حقيقية هو مقدار التحريف والتبديل الذي نالته التوراة على يد كهنة السبي البابلي، ومنطقي إذن أن نقول إن كل تأكيد بامتلاك أرض فلسطين يستند فيه إلى نصوص توراتية هو غير حقيقي، لا سيما وأنه يعود فقط لمجرد قصة عبور جماعة من البدو من كلدان إلى كنعان، وذلك على فرض صدق الرواية التوراتية.

إن الوجود العربي في فلسطين يعود لأكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، أي حتى من قبل ظهور قبائل العابيرو-الخابيرو. «إن الكنعانيين من القبائل العربية التي استوطنت فلسطين منذ عام 2500 ق.م» (1). «وقد رأى الفقهاء الأكفاء من أهل الخبرة والمعرفة أن فلاحي فلسطين الناطقين بالعربية هم أخلاف للقبائل الوثنية التي كانت تعيش هناك قبل العزو الإسرائيلي، وظلت أقدميتهم ثابتة في التربة منذ ذلك التاريخ». (2)

وبالرجوع إلى العهد القديم والذي يخبرنا أن «يهوه» خاطب إبراهيم قائلاً: «لنسلك أعط هذه الأراضي» (3)، «لنسلك أعط هذه الأراضي من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات». (4)

إنه نص ديني في التوراة، ووعد من الرب لإبرام الذي غيّر اسمه إلى إبراهيم، وباركه بامتلاك الأراضي، لكن نتساءل: ما قيمة هذه الوعود؟ وما مدى صدقها؟ وعن أي أرض تتحدث؟ ما مساحتها وحدودها؟ ثم ما مصير السكان المقيمين فيها مع اعتراف التوراة بوجودهم حقيقة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض؟ (5)

المقدس والأسطورة في مخيلة اليهودي

إن نظرة أكثر تفسيرية لنصوص العهد القديم تُظهِر الحقيقة عن نفسها وتكشف عقلية اليهودي ومدى الانخداع الذي فعلته الأسطورة على مر الزمان. إنه ليس إلا وثيقة تاريخية تخيلية لجماعات تعاني مأزق البحث عن هوية دينية وقومية عرقية.

إنها ليست بالطبع توراة موسى «مجموعة الألواح» المُنزلة عليه في سيناء، لكن الأقرب أنها نصوص اخترعها «عزرا» الكاهن، لمّا رأى اليهود قد مالوا واتبعوا البابليين وتطبعوا بطباعهم وتزوجوا نساء غريبات ورفضوا العودة إلى فلسطين، بعد سماح قورش «الماشيح الفارسي» لهم بالعودة. فـ «التوراة كتاب أُلف في أدوار مختلفة أشد الاختلاف، وإن التوراة مملوءة بالارتباطات والاختلاطات والروايات المرتبة المصنوعة بعد قصير وقت». (6)

إن السمة العامة والدلالة الأكيدة على امتلاك شعب لأرض -أي أرض– هو مدى تواجدهم في التاريخ العام ومدى إسهامهم في مجمل الحضارات الإنسانية على مر العصور، ومن هذه الناحية فإن اليهود نصيبهم فيها صفر بتعبير «جوستاف لوبون». فـ «العبريون قضوا زمنًاطويلاً ليكون لهم سلطان ضئيل في فلسطين، لا أن يكونوا سادتها». (7) إذن كيف دخل اليهود إلى أرض فلسطين، الأرض التي لا تربطهم بها رابطة دينية أو تاريخية أو سياسية؟

في قصة العبور ذاتها التي تَرِد في سفر التكوين: «واصطحب طارح إنه إبراهيم من أور في كلده إلى بلاد كنعان ووصلا إلى حران… فإن التناقض في التوقيت، إذ يرد ذكر كلده في زمن إبراهيم، بينما لم يظهر هذا الاسم أول مرة إلا في حوليات أشور بأنيبال (884-859) ق.م». (8)

ويشير الأب ديفو إلى حقيقة هامة وهي: «أنه لا وجود في أي مكان لأي إشارة صريحة إلى الآباء العبريين أو إلى إقامتهم في مصر أو خروجهم منها… ولا إلى احتلال أرض كنعان. ومن المشكوك فيه أن تُكتَشف نصوص جديدة تنقض ما ذهبنا إليه». (9)

هذا ما ذهب إليه أيضًا الدكتور فاضل الربيعي من أنه في النص العبري للتوراة «لا يوجد على وجه الإطلاق لا تلميح ولا تصريح… لا جملة ولا كلمة تقول إن القدس هي أورشليم».

فلسفة الدين في الفكر الصهيوني

لا يهمنا هنا بالأساس التأكيد على علاقة النص المقدس اللاهوتي بما هو تاريخي وما قد تأكد على أرض الواقع وجرى مجرى الحقيقة، وإنما يهمنا في المقام الاول هو مدى الإنجاز الفكري والاستجابة الدينية لما هو مقدس، والفرضية المعرفية، والوجود الحقيقي المتعين، وأخيرًا ارتباط الأرض بشعبها.

فما الذي يفسر دلالة الحصر والتخصيص في الدين التوراتي والمقولات المؤكِدة لذلك «شعب مختار… شعب يهوه… ميزتكم عن الشعوب… أنا الرب إلهكم الذي ميزكم من الشعوب». (10)

فهل يهوه إله لليهود فقط، أم لجميع الأمم؟ هل الدين اليهودي دين عالمي، أم دين لجماعة بشرية معينة؟

يجيبنا الواقع بتأكيد الحصر والتخصيص في الدين اليهودي، دون تقديم وجهة تفسيرية شمولية لهذا الحصر. إن مطلق الدين وفلسفته قائمة على عمومه وشموليته، فلا يجوز من «المقدس» أن يكون الرمز الديني حصرًا على أحد، أو أن يُسخِّر الكل لخدمة جماعة صغيرة من القبائل مع تحريضهم بقتل وإبادة الآخرين. فالدين حقيقة قائمة بذاتها تستند إليها كل الحقائق وتستمد شرعيتها من هذا الكل. فجميع الأديان تشترك في قاعدة عامة وهي عبادة الله، وإعمار الكون، وتحقيق السعادة. وإنما تنشأ التناقضات من التحريف والتبديل وفعل الكهنوتية السلطوية. فإلى أي قيمة دينية–أخلاقية تتعامل إسرائيل مع الفلسطينيين؟ أو لماذا أعطى يهوه أرضه لليهود؟

هل كما قال السيد وليم فوكسويل «إن فيلسوف التاريخ وهو القاضي النزيه يرى على الأغلب أن من الضروري زوال شعب متخلف ليخلي مكانه لشعب آخر ذي ملكات متفوقة». (11)

إنه حينما نطالع النص التوراتي «لنسلك أعطى هذه الأراضي»، يتبادر إلى الذهن التساؤلات التالية: لمن تُعطى هذه الأرض؟ ولماذا تُعطى؟ ثم إذا كانت مما هو «ديني» كيف تُسلَب وتُنهَب؟ فالأولى أن ينشروا سلامًا بدلاً من التدمير والخراب «أحرقوا الأرض… أبيدوا أهلها… اقتلوا النساء وخربوا البيوت». «وحارب بنو يهوذا أورشليم وخربوها واستولوا عليها وضربوها بحد السيف وأسلموا المدينة إلى النيران». (12)

مع هذا فإن الوعود البلفورية الصادرة من الغرب والتي تُعطى لليهود أحقية وشرعية بامتلاك أرض فلسطين تؤكد على علمانية الصهيونية، أو أنها لا تستند إلى دين في زعمها تجميع اليهود في صهيون وتمكينهم من فلسطين. ولهذا نتساءل كيف يكون لهذا المقدس أن يُؤخذ عنوة ويُنهَب.

إن الغرب قد نجح أيما نجاح في جعل اليهود تبعًا للنموذج «العلماني الغربي»، مادة يوظفها الاستعمار لحسابه ولخدمة أغراضه في الشرق، فجرى بذلك حوسلتهم. وواقع الأمر أن الأيديولوجيا الصهيونية ليست دينًا ولا تجد لها ما يبرر فعلها، هذا مع القطيعة الحاصلة مع الأصولية اليهودية المحافظة والتي تعتبر الصهيونية العدو الأكبر لليهودية.

وبالنظر إلى القوى الرئيسية الموطنة لليهود في فلسطين هي (الصهيونية، والماسونية، والتزوير في الأدب التوراتي)، وكلها تحمل طابع الفكر الإحلال الاستيطاني (شعب محل شعب آخر). فلا يمكن بأي حال من الأحوال فصل الصهيونية عن السياق الحضاري الغربي، كما لا يمكن فهمها بعيدًا عن نظريات العنصرية والإبادة وفلسفات العلمانية التصحيحية للخطاب الأصولي الديني. فمجمل القول بأن الصهيونية إنما قامت كرد فعل ضد «اللا سامية» التي تعرَّض لها اليهود في الغرب أمر غير حقيقي، فاليهود شكّلوا عبر تاريخهم الطويل مادة دسمة للاضطهاد في المجتمعات التي حلّوا بها.

ومن هنا فهناك مبالغة في حقيقة الأرقام المعلنة حول مذابح النازية ضد اليهود، والتي شكّلت قضية الهولوكوست في الأدبيات الصهيونية وأيديولوجيته المتبناة في تأكيد عقيدة الذنب في نفسية الأوروبي. «لقد استخدم اليهود في ذلك الجانب اللجوء إلى إيجاد وحس العالم على عطف اليهود بعقدة الذنب، وتأكيدها وإبقائها حية في ضمير الشعوب الأوروبية والأمريكية بصورة خاصة، بهدف ابتزازها وتجنيدها ضد القضية الفلسطينية، وإشهار تهمة اللا سامية بوجه من يحاول اكتشاف الحقيقة». (13)

يقول اليهودي «أريش فريد» مخاطبًا إسرائيل الصهيونية في مؤلفه «من يهودي إلى الصهاينة… اسمعى يا إسرائيل» واصفًا إياهم بالتجار، فيقول:

هؤلاء ليسوا يهودًا ساوموا… وإدراك هذا أمر يسير، فهم ما زالوا على قيد الحياة وقد مات ستة ملايين يهودي… ساوموا، هؤلاء ما زالوا يعيشون ويحتجون، قد ظلمنا فهم ليسوا ستة ملايين، كانوا فقط خمسة ونصف ما زالوا يعيشون عن أنفسهم يدفعون ظلمًا قاسيًا: لم يكونوا خمسة ونصف! كانوا فقط… خمسة، فقط خمسة ملايين، إنهم يظلموننا ملايين المرات، فقط خمسة ملايين… فمن قال أقل؟ (14)

ولقد تكرر الأمر في الأوساط الفكرية والثقافية، فقد انتقد عبد الوهاب المسيري العلاقة بين الصهيونية واليهودية بدعوى أن الصهيونية تهدم الأصولية اليهودية، أو أن الصهيونية فشلت في تقديم معنى شامل للهوية اليهودية، أو أنها شيء له أيديولوجيته الخاصة، كما لا يغيب عنك أيضًا مؤلف «الصهيونية غير اليهودية» لـ «ريجينا الشريف». لكن هذه المقولة سيطرت عليها الصهيونية بأساليبها الخاصة في الدعاية ووسائل الإعلام وخطابها الأدبي، لقد حوّلت نفسها وعلمنت التفكير العالمي بالنظر إليها على أنها «جنة الحريات في الأرض».

يُعرف عن الدعاية الإسرائيلية نجاحها، لاعتمادها على مخاطبة الجماهير كل على حسب رؤيته، ليس لحقيقتها ولكن لما فيها من أهداف شخصية فردية من قبل إسرائيل واستثمار هذا التخطيط بشكل مقنع لما استطاعت دولة إسرائيل أن تحقق أكبر عملية غسيل للأدمغة، وتعمل على تهويد فلسطين وتغيير معالمها، فهي تتوجه إلى مجتمعات مختلفة وتتحدث إلى كل مذهب سياسي بلغته، وتعبر عن النظم الاجتماعية المختلفة. (15)

الاستعمار والإبادة كامنة في الفكر الصهيوني

إن ما يجرى في الواقع من محاولات تهويد كل ما هو عربي وإبادة الشعب الفلسطيني واعتقاله وبناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية لدلالة كبيرة على أن ما بداخل فلسطين هو في الأصل عربي الطابع، وإن فكرة التهويد محاولة يائسة لفرض منطق شكلي يخلق حالة من الانسجام والاتساق الداخلي بين المحتل ومستعمرته.

إن إسرائيل لا تريد سلامًا مع العرب، إذ يعني السلام «فناء الدولة ونهايتها»، لما في السلام من ضرورة جلاء الصهيونية عن أرض العرب وتخليها عن مخططاتها الاستعمارية التوسعية في المنطقة، وأعمال النهب والقتل والإرهاب، لذلك نراها تتلاعب بالآمال العربية لتكتسب الوقت الذي يمنحها القوة في التعامل مع الأحداث العالمية الجارية.

إن إسرائيل لا تعتمد في بقائها على الوعود التوراتية ولا مقولات «شعب مختار» أو «أبناء الرب» أو «الماشيح الموعود»، إنما تعتمد في بقائها على نفاذ الصهيونية العالمية وأطماع القوى الاستعمارية.

لقد كتب تيودور هارتزل في مذكراته:

عندما نحتل البلاد سنعمل سريعًا على إفادة الدولة التي نأخذها. يجب أن نستخلص ملكية الأرض التي ستعطى لنا لكن باللطف والتدريج، على أننا نقوم بكلا العمليتين (استخلاص الأرض وإبعاد الفقراء) بتعقل وحذر. (16)

وبهذا يكون جوهر المشروع الصهيوني هو مشروع إحلالي استيطاني لانتزاع الأرضي وليس استردادها، كما يزعم اليهود. فالمشروع الصهيوني إذن هو مشروع إبادة للآخر ولا يمكن أن يتحقق إلا على أنقاض هذا الآخر، وتيودور هارتزل –أبو الصهيونية- كان واضحًا في ذلك عندما سجل في كتابه «الأرض القديمة – الجديدة»: عندما أرغب في استبدال بناية قديمة بجديدة فعليّ أن أهدم قبل أن أبنى. (17)

إن فكرة الاستيطان تحمل في ذاتها من جانب الإسرائيليين محاولة حل وطريقًا لإقرار حق زائف في احتلال أرض فلسطين، ومراكز إحداث هذا المشروع تتمثل في إيجاد الطرق الموصلة للهدف بنوع من إكساب الآخر -المشاهد السياسي- ذي الثقل نوعًا من الإقرار وتدعيم هذا المشروع، فقد توصل إليه الإسرائيليون من خلال «المسيح المنتظر» الذى يكون خلاصًا للعالم كله من خلال وجود الإسرائيليين في صهيون، فدعمت المسيحية الصهيونية هذا العمل الاستيطاني الصهيوني، غير أن هناك من تفهم وعلم خداع الصهيونية للعالم والسعي للسيطرة على حكوماته ومحاولات تخريبه، ورفضًا للواقع المتعين.

يقول أرنولد توينبي:

أستطيع أن أفهم مطالب اليهود بعد كل الذي عاشوه على أيدي الألمان بأنها مطالب ترمى إلى إعطائهم ولاية في مكان ما من العالم ليمارسوا سيادتهم الخاصة فيها، وإن كان لابد من حدوث ذلك، فتلك الولاية لابد أن تكون على حساب الغرب الذي ارتكب أقصى الفظائع مع اليهود وليس على حساب العرب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. ظفر الإسلام خان، تاريخ فلسطين القديم: منذ أول غزو يهودي حتى آخر غزو صليبي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1981، ص 26.
  2. المرجع السابق، ص 23.
  3. سفر التكوين 12/7.
  4. سفر التكوين 15/18.
  5. سفر التكوين 12/6.
  6. جوستاف لوبون، اليهود في تاريخ الحضارات الأولى، مكتبة النافذة، القاهرة، 2009، ص100.
  7. ظفر الإسلام خان، تاريخ فلسطين القديم، ص 35.
  8. روجيه جارودى، فلسطين أرض الرسالات السماوية، ترجمة قصي أتاسى وميشيل واكيم، دار طلاس للدراسات والنشر، دمشق، 1991، ص36-37.
  9. المرجع السابق، ص 63.
  10. اللاوين 24/20.
  11. روجيه جارودى، فلسطين أرض الرسالات السماوية، ص38.
  12. قضاه 1/8-9.
  13. بديعة أمين، الأسس الأيديولوجية للأدب الصهيوني، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1989.
  14. أريش فريد، من يهودي إلى الصهاينة… اسمعى يا إسرائيل، ترجمة محمد أبو رحمة، حابى للنشر، القاهرة، 2005، ص 46-47.
  15. باسل يوسف النيرب، الإعلام الإسرائيلي ذراع الجلاد، مكتبة الملك فهد، الرياض، 2010، ص13.
  16. أنيس صايغ، يوميات هيرتزل، ترجمة هلدا شعبان صايغ، مركز الأبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1968، ص76.
  17. عصام سخنينى، الجريمة المقدسة: الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012، ص43.