لا شك أن حالة الصراع الفلسطيني الدائم مع الكيان الصهيوني الذي احتل الأرض وشرد الشعب على مدار ثمانٍ وستين عامًا، تُعمِّق الحاجة لوجود لوبي فلسطيني في الخارج، يُمكنه لئم الجرح وتوحيد الجهود واستغلال الطاقات المختلفة في مجالات العلم والأدب والاقتصاد والاجتماع والسياسة الإقليمية والدولية، من أجل خدمة الإنسان الفلسطيني وقضيته العادلة، وإبقائها جزءًا من الخارطة العربية.

إلا أن ذلك لم يتحقق حتى الآن بصورته الوطنية، وما وُجد من تكتلات كانت شخصية في خدمة أغراضها وتحقيق منافعها فقط، خاصةً على المستوى الاقتصادي، فيما بقوا على المستوى السياسي كـ «لوحة تعريف» بالقضية الفلسطينية، ولم ينجحوا تمامًا في تكوين لوبي ضاغط في البلدان التي تمركزوا فيها سواء عربية أو أجنبية.

وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن عدد الفلسطينيين في العالم نهاية العام 2015 بلغ حواليّ 12.37 مليون نسمة؛ منهم 4.75 في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وقرابة 1.47 مليون نسمة في الأراضي المحتلة عام 1948، وحوالي 5.46 مليون في الدول العربية، و685 ألف نسمة آخرين في الدول الأجنبية.


تأثير سياسي ضعيف

بالرغم من حصول الرئيس الفلسطيني محمود عباس في السنوات الأخيرة على اعتراف العديد من الدول الأوروبية بفلسطين كوطن خالص للفلسطينيين، وحصوله على مواقع مهمة في منظمات دولية كالأمم المتحدة، إلا أن ذلك لم يُغير الواقع الذي تمر به القضية ولم يُسهم في إنصافها.

فعلى مدار سنوات الهجرة لم يفلح الفلسطينيون في تشكيل مجموعات ضغط سياسي في الدول التي عاشوا فيها، ولم ينجحوا في إقامة شبكات تواصل بين فلسطيني الداخل والخارج من شأنها أن تُفعل الحراك السياسي وتوحده في إطار خدمة القضية.

حتى السفارات الفلسطينية في الخارج والتي من أهم أدوارها رعاية الجاليات الفلسطينية، لم تفلح في ذلك، ولعل قضية اغتيال القيادي في الجبهة الشعبية «عمر النايف» مطلع العام الحالي 2016، تُشير إلى السفارات لم تؤدِّ الحقوق الواجبة عليها، بل أُشير بأصابع الاتهام لها في تسهيل عملية التصفية ومن ثمَّ إغلاق الملف – بحسب زوجته – التي أشارت إلى وجود اتفاق بين السلطة وبلغاريا وإسرائيل، لدفن قضية اغتيال «عمر» وعدم إظهار نتائجها.

مؤكدة أن لجنة التحقيق التابعة للسلطة غادرت بلغاريا دون تسليم أي تقرير حول اغتياله، كما تعمدت تجاهل جناة ومتورطين في الجريمة، ولم تحقق معهم حتى اللحظات الأخيرة، وأشارت إلى أن لجنة التحقيق الأولى التي شكلت في قضية اغتيال زوجها «غير متخصصة» للتحقيق في قضية من هذا النوع، وتجاهلت عمدا أدلة تثبت تورط السفارة الفلسطينية ببلغاريا في عملية الاغتيال.


لماذا فشل فلسطينيو الخارج؟

لعل تشرذم الفلسطينيين في جاليات متفرقة في البلدان الأوروبية والعربية وضياع بوصلتهم السياسية، كان سببًا في عدم وجود دور حقيقي وارتباط وثيق بينهم وبين الوطن الأم.

فالبعض منهم حاول اجترار الماضي، وبقيَّ رافضًا للمجتمع المُضيف، الذي ينفي عنه كل ما عرفه وخبره من علوم ومهن، ويُعيده إلى مربع التّعلم من جديد، وبالتالي لم يُشارك في أي فعالية ثقافية أو وطنية.

والبعض الآخر ظل منتميًا لإرثه التنظيمي فقط بعيدًا عن الوطن كجامع لكل الأحزاب والتنظيمات.

وفريق ثالث تملكتهم عقدة العظمة، فنّصبوا أنفسهم قادة رغم فشلهم على مستوى المؤهلات العلمية وحتى الخبرات الحياتية والسياسية، مما جعلهم أضحوكة أمام الدولة المُضيفة، لا يحظون بأي تقدير أو احترام نظرًا لغياب قدرتهم على القيادة والتوجيه، ناهيك عن عزوفهم عن المشاركة الفاعلة، مما جعل تأثيرهم ضئيلا أو منعدمًا في كثير من الأحيان، على القرار السياسي في البلد المضيف ولم ينجحوا في إبراز قضيتهم والحشد والتأييد لها.

ويبدو أن انعدام استقلالية صنع القرار لدى الجاليات في الخارج وارتباطهم بدرجة كبيرة بالمؤسسة الرسمية الممثلة بالسلطة الوطنية الفلسطينية أفقدها الديناميكية المطلوبة، وجعلها تقليدية، تنعدم فيها روح المبادرة والتطوير، كونهم لم يُفرقوا بين دور الجالية ودور السفارة أو الاتحاد التابع للسلطة.

ولكن من باب الإنصاف وعدم إظهار الصورة السلبية فقط، يُمكن القول بأن بعض التجارب لفلسطينيي الخارج نجحت في القيام بدور سياسي، والتأثير على قرارات الدول التي يتواجدون فيها كالنرويج والدنمارك؛ فالأولى وقفت في مواجهة الحملة ضد الفلسطينيين، بينما الأخيرة خلال عام 2001 مكّنت فلسطيني من الوصول للبرلمان الدنماركي، فيما نجح أيضًا فلسطينيو أوروبا بعقد مؤتمر سنوي منذ عام 2004 يُناقش أوضاع الفلسطينيين في الخارج، حيث تُشارك فيه 28 جالية فلسطينية في أوروبا ويؤطر لحق العودة.


المال الفلسطيني في الخارج

أدى ارتباط الجاليات الفلسطينية في الخارج بالمؤسسة الرسمية للسلطة إلى إفقادها الديناميكية المطلوبة لتشكيل لوبي سياسي ضاغط لخدمة القضية.

بلغ حجم المال الفلسطيني المستثمر في الخارج قرابة الـ 80 مليار دولار، لكن هذا المال لم يُشكل رافعة للاقتصاد الفلسطيني في الداخل، فالناتج المحلي الإجمالي ظل يراوح مكانه في حدود الـ 7.2 مليار دولار، ولم يُشكل نقطة في بحر المال المستثمر في الخارج، والذي بلغ 11 ضعف الناتج المحلي الإجمالي.

بلغ حجم المال الفلسطيني المستثمر في الخارج قرابة الـ 80 مليار دولار، لكنه لم يُشكل رافعة للاقتصاد الفلسطيني في الداخل.

كان من الأجدى أن يُوجَّه المال الفلسطيني إلى الداخل، لتحقيق بعض النمو للاقتصاد، الذي يُعاني أزمات متلاحقة في الأراضي الفلسطينية، حتى يتمكن من مواجهة ممارسات الاحتلال التعقيدية للمنظومة الاقتصادية لإبقائها في طور التبعية وفقًا لاتفاقية باريس الاقتصادية والتي عُدت ملحقًا لاتفاق أوسلو السياسي عام 1993.

وقد عبّر عن ذلك الباحث الاقتصادي «حسن الرضيع» بالقول: «إن المال الفلسطيني في الخارج لم يكن وطنيًا بامتياز»، فهو لم يُساهم بأي شكل من الأشكال في تحفيز النشاط الاقتصادي الفلسطيني في الداخل وتجاهل دعم مشاريع اقتصادية قومية سواء بإقامة المستشفيات أو مراكز الأبحاث، والتنقيب عن الموارد الطبيعية، وإيجاد السبل السليمة لاستغلالها، والتي من شأنها أن تُحدث حالة من التنمية بتقليل نسب البطالة وخفض معدلات الفقر بعد توجيه الاستثمارات لها.

ويضيف أن رأس المال الفلسطيني في الخارج تحلل من مسئوليته الاجتماعية في حل مشاكل الفقراء، فلم يُمول مشاريع صغيرة لهم تُخفف من العبء الاقتصادي المُلقى على كاهلهم، واكتفي بأن يمدهم بين الحين والآخر وفقًا لمنطق الأزمة بمساعدات إغاثية، لا تمنحهم إلا مزيد من العجز.

ويعزو اقتصاديون عدم لجوء أصحاب رؤوس الأموال في الخارج لاستثمار أموالهم في وطنهم إلى الحالة الأمنية والسياسية الموسومة بعدم الاستقرار هناك، سواء في الضفة الغربية حيث السيطرة الإسرائيلية على منابت الموارد الطبيعية، أو في قطاع غزة حيث السيطرة على المعابر والحدود وعدم السماح بإقامة مشاريع تدعم الصناعة أو الإنشاءات أو التجارة.

أولئك يخشون على أموالهم وعلى مشاريعهم من الاستهداف الإسرائيلي، الذي يتعمد في كل عدوان أو توغل تدمير البنية الاقتصادية، فالمشكلة التي يُعاني منها الاقتصاد الفلسطيني سياسية بالدرجة الأولى، وبالتالي لا تؤدي إلى تحسين المناخ الاستثماري، بل تكون طاردة للاستثمار، بسبب انسداد الأفق السياسي، واستمرار إسرائيل في إجراءاتها التضيقية على كافة المناطق الفلسطينية، وعدم تمكينها للفلسطينيين من استغلال مواردهم الطبيعية في مشاريع تُحقق لهم نماءً اقتصاديًا يُبعدهم عن إطار التبعية.

لكن البعض الآخر يرى بضرورة عدم الارتهان للقاعدة الاقتصادية القائلة «رأس المال جبان»، والعمل على ضخ الاستثمارات الفلسطينية بالخارج نحو مشاريع تنموية في الداخل، كمشاريع البنية التحتية، أو المشاريع الزراعية والصناعية، التي من شأنها أن تُحقق أعلى فرص تشغيل للأيدي العاملة المتعطلة، وتنمية الاقتصاد الكلي.

المراجع
  1. محمود هنية، "زوجة النايف: السلطة وإسرائيل وبلغاريا شركاء في عملية دفن قضية عمر"، موقع صحيفة الرسالة، 10 يونيو 2016.
  2. إبراهيم حمامي، "دورها ومشاكلها وخطة نهوضها: الجاليات الفلسطينية في أوروبا"، موقع المركز الفلسطيني للإعلام، 28 مارس 2007.
  3. حسن عطا الرضيع، "اللوبي الاقتصادي الفلسطيني: بطة عرجاء وبعين واحدة"، موقع وكالة قدس نت للأنباء، 31 أغسطس 2015.