لم يتخلَّ الفلسطينيون في المهجر عن مفاتيح ديارهم التي خرجوا منها عام 1948 ووثائق ملكيتهم لها، أو ما يُسمى بـ«الكوشان»، في انتظار اليوم الموعود الذي تقر أعينهم فيه باستعادة أملاكهم المغتصبة من أحفاد مسلحي الأرجون، والهاجاناه، والبالماح، وشتيرن، وغيرها من تلك العصابات الصهيونية التي ارتكبت مجازر عديدة لإرهاب السكان وترحيلهم لتفريغ الأرض لمهاجرين يهود أتوا من الشرق والغرب، وحصلوا على جنسية وطن لم تطأه أقدامهم من قبل، ولا تربطهم به أي علاقة.

حق العودة

عوَّل الاحتلال على الزمن للتعامل مع ملف اللاجئين على اعتبار أن الكبار يموتون والصغار ينسون، فضلًا عن التشكيك الإسرائيلي في اعتبار أحفاد اللاجئين لاجئين أيضًا في محاولة لنزع حق العودة عن فلسطينيي الشتات الذين وصلت أعدادهم إلى قرابة تسعة الملايين، مع الأخذ في الاعتبار صعوبة الوصول إلى تقديرات دقيقة في هذا الشأن.

كما اعتمد الإسرائيليون على أن مساحة الأرض المحدودة  لفلسطين لن تتسع للاجئين من أصحاب الأرض الأصليين، وستصبح عودتهم مستحيلة عمليًّا حتى لو أقنعوا من شاءوا بأن مطلبهم كان عادلًا، فالبلاد صغيرة ومكتظة ولا يوجد مكان لسكان آخرين.

وعلى الرغم من تلك الادعاءات يُظهر البحث الذي أجراه الباحث الفلسطيني الدكتور سلمان أبو ستة صاحب كتاب “طريق العودة: دليل المدن والقرى المهجرة والحالية والأماكن المقدسة في فلسطين”، أن القرى التي كانت موجودة حتى نكبة 1948 لا زالت فارغة، وهو أمر شهدت به مبادرة مجموعة زوخروت (ذاكرات) اليهودية أيضًا، فبخلاف الأراضي الزراعية التي تم تخصيص معظمها للبلدات اليهودية ما زالت هناك مناطق سكنية قديمة لم يستعملها اليهود، تعود ملكيتها للاجئين.

شجعت إسرائيل هجرة العرب من الأراضي الفلسطينية بصفة عامة لأي مكان، وتفنن اليهود في خلق المشاكل لخنق العرب والتضييق عليهم بشتى السبل، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، لهذا الغرض، وبالتوازي مع ذلك بُذلت محاولات لتصفية الشتات الفلسطيني القريب عبر التوطين أو التهجير مرة أخرى إلى بلاد بعيدة لتذويبهم وتشتيتهم، وخفض عددهم قدر الإمكان لتموت القضية.

أصحاب الهجرتين

ظهرت جهات تشجع على إعادة تهجير الفلسطينيين إلى الدول الغربية، وهناك جهود حقوقية تحاول استغلال فقرة في القرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة في عام 1948، تشير إلى أن من لا يرغب في العودة يستحق أن يتلقى تعويضًا ماديًّا عن ممتلكاته.

وافتتحت تلك الجهات مكاتب في المخيمات الفلسطينية في لبنان تحت عنوان تأمين فرص عمل بالخارج، وتجاوب معها البعض بسبب اشتداد وطأة الأوضاع الاقتصادية السيئة وارتفاع البطالة إلى نسب قياسية داخل لبنان، خاصة بين الفلسطينيين، حيث تمنع القوانين المحلية تشغيلهم إلا في مهن محددة، كالزراعة أو البناء وما شابه ذلك، وتحرم عليهم المهن التي لها نقابات كالطب والهندسة والقانون والتعليم وغير ذلك، مهما كانت الدرجات العلمية التي حصلوا عليها، ولو كانت من أرفع الجامعات الدولية، مع العلم أنَّهم اشتهروا بارتفاع نسبة المتعلمين بين صفوفهم، كما يحرم عليهم تملك العقارات، ويعانون من أشكال تمييز لا حصر لها، مما يشجعهم على الهجرة إلى الغرب، ويدفعون مقابل ذلك مبالغ كبيرة، حتى باتت عصابات الهجرة غير الشرعية تعمل بشكل علني، وبعضها تسفرهم إلى دول أمريكا اللاتينية.

وتحت عنوان الحصول على تعويضات عملت جهات على صلة بمنظمات غربية في تسهيل هجرة اللاجئين وهي جهود تصب في صالح إسقاط حق العودة الذي أرجأت السلطة الفلسطينية التأكيد عليه عند توقيعها اتفاق أوسلو عام 1993، وتركته لمباحثات الحل النهائي التي لم يعد له أي أثر بعدما تجاهلت الأمرَ صفقةُ القرن التي أعلنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

هجرة الفلسطينيين إلى الغرب ليست جديدة، إلا أنها كانت هجرة فردية غير مشروطة، لكن هذه الجهات تعمل على تسهيل إجراءات السفر إلى دول معيَّنة مقابل أوراق، منها صكوك الملكية التي يملكها اللاجئون في فلسطين التاريخية، والإقرار بالتخلي عن حق العودة.

وقدمت الهيئة القانونية في «منظمة التحرير الفلسطينية» العام الماضي مذكرة إلى نقابة المحامين اللبنانيين تدعوها إلى التدخل للضغط على أحد المحامين لوقف تحريضه على الهجرة الجماعية مقابل التنازل عن حق العودة.

وتدعي إحدى الجهات أنها أقنعت مائة ألف لاجئ بهذا المسار، وأنها على صلة بمسئولين لبنانيين مسيحيين، من بينهم رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، الذي يعد أحد أكثر الشخصيات السياسية في لبنان عداءً للاجئين.

يوجد في لبنان 12 مخيمًا للاجئين الفلسطينيين يقطنها حوالي 207 آلاف شخص، وتسارعت الهجرة منذ انفجار ميناء بيروت في عام 2020، ففي العامين الماضيين هاجر اللاجئون الفلسطينيون في لبنان بمعدلات عالية جدًّا، وبحسب مدير مكتب لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، عبد الناصر الآيي، كان يهاجر عادةً ما بين 6 و8 آلاف فلسطيني سنويًّا لكن الآن تراوحت أعدادهم ما بين عشرة و12 ألفًا، أي بزيادة بنسبة 30 في المائة على الأقل، وتؤكد وكالة الأمم المتحدة للاجئين أن السفر غير القانوني أصبح أكبر بكثير منذ عام 2020.

ورغم القرار الذي أصدره وزير العمل اللبناني، مصطفى بيرم، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بالسماح للاجئين الفلسطينيين بمزاولة أكثر من 70 مهنة كانت ممنوعة عليهم، مما سمح لأصحاب العمل بتوظيف الفلسطينيين بشكل أكبر، فإن ذلك كان له تأثير هامشي على أوضاعهم بسبب تراجع سعر الليرة اللبنانية وتفشي فيروس كورونا، ودخول البلاد في أسوأ أزمة مالية منذ الحرب الأهلية، فتقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن ثمانية من كل 10 أشخاص في لبنان يعيشون في فقر، وتعتمد كثير من العائلات على ذويهم في الخارج، ليرسلوا لهم تحويلات بالدولار تمكنهم من البقاء على قيد الحياة.

ويكفي لتبين كبر حجم الظاهرة العودة إلى الإحصاء السكاني للفلسطينيين في لبنان عام 2017، الذي توصل إلى أن تعدادهم في ذلك العام وصل إلى 174 ألفًا، بينما عدد اللاجئين المسجلين في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة في بيروت 449 ألفًا، ما يشير إلى أن معظمهم هاجروا بالفعل، مع التذكير بأن ذلك كان قبل موجة الهجرة المتسارعة في العامين الأخيرين.

ويعد الواقع الفلسطيني في لبنان حالة استثنائية لا يمكن مقارنتها بأي حالة أو تجمع آخر بسبب الحساسيات الطائفية، حيث ينظر إلى تواجد الفلسطينيين من زاوية الخطر الديموغرافي الطائفي لأنهم مسلمون سنة ووجودهم يهدد بتقليل نسبة الموارنة والطوائف الأخرى في البلاد، ولذا تعرضوا إلى الكثير من الويلات، وتم حرمانهم من حقوقهم الإنسانية بحجة تعارضها مع حق العودة، وكذلك كانت المشاريع الأمريكية المقترحة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين على اختلافها تستثني لبنان.