يدرك الفلسطينون موقعهم من العالم، وأنهم لا يخوضون معركتهم ضد آليات العدو الإسرائيلي فحسب، بل ضد جفون العالم المغلقة والرافضة لرؤية حق الفلسطيني في الحرية؛ لذلك كان المناضل الفلسطيني حريصًا على تنويع عملياته بين عمليات داخلية تستنزف طاقة عدوه، وعمليات خارجية نوعية رسالتها مزدوجة، الأولى أن المقاومة ستسعى خلف العدو في كل مكان، والثانية أنه على العالم أن يرى ما القضية الفلسطينية، وستتكفل المقاومة من خلال عملياتها النوعية بوضع القضية أمام أعين الجميع.

في سبيل تلك الرسالة وإيمانًا بتلك الرؤية برز من بين صفوف المقاومة الفلسطينية على اختلاف مشاربها عدة أسماء استطاعت أن تدخل عمليات خاصة، كخطف الطائرات وأسر الضباط وتصفية القيادات الإسرائيلية، في المعادلة بعد سنوات من العمليات الفدائية المباشرة التي يخمش فيها الفلسطينيون الأفق لكنهم لا يجرحونه، فاستطاع هؤلاء جرح الأفق وترك نُدبة على الجبين الإسرائيلي والدولي.

من تلك الأسماء برز اسم ليلى خالد. في 23 يوليو/ تموز 1968 نجح مقاتلو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، في تنفيذ أول عملية اختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال الإسرائيلية. القيادة كانت لليلى خالد ولسالم الرضيع. الطائرة كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وعلى متنها 100 مسافر.  أُجبرت الطائرة على الهبوط في الجزائر، وأفرجت الجبهة عن جميع الركاب في مقابل الإفراج عن 37 أسيرًا فلسطينيًّا من أصحاب أحكام السجن المرتفعة بعد وساطة من الصليب الأحمر الدولي.

بعد عام واحد من تلك الحادثة عادت ليلى لتُحلِّق في سماء المقاومة مرة أخرى، فاختطفت طائرة إسرائيلية جديدة وأجبرتها على الهبوط في بريطانيا. لكن فشلت عملية الاختطاف ولقي أحد المنفذين مصرعه، واعتقلت السلطات البريطانية ليلى خالد. لكن كما كانت الطائرات سبب اعتقالها، فإن الطائرات هي ما أعادتها للنور مرة أخرى. فاختطفت الجبهة الشعبية طائرة بريطانية لاحقًا وقدمت مطلبًا وحيدًا مقابل تسليم الطائرة بأمن، الإفراج عن ليلى خالد.

محشي كوسة وورق عنب

وديع حداد، نجم آخر برز في سماء المقاومة النوعية، وذكره بعد ليلى خالد لا يعني أنه تلاها زمنًا أو يسبقها منزلةً، بل هما نجمان لكل واحد مداره ورونقه وترتيبهما لأجل السرد لا لأجل التقييم. جورج حبش ووديع حداد وصالح شبل من فلسطين، وهاني الهندي من سوريا، وأحمد الخطيب من الكويت، وحامد الجبوري من العراق، وحمد الفرحان من الأردن، أسسوا حركة القوميين العرب.

في 8 سبتمبر/ أيلول عام 1970 كان وديع ورفاقه موجودين في مطار دواسن فيلد في الأردن، مشغولًا بمخاطبة العالم بعد أن اختطف رجاله 4 طائرات في يوم واحد. وبعد أن انتشر الخبر فوجئ وديع بخبر عن فلسطيني مقيم في البحرين يقرر من تلقاء نفسه اختطاف طائرة تابعة للخطوط البريطانية وتوجيهها لبيروت من أجل التزود بالوقود، ثم أمرها بالتوجه للهبوط في مطار عمان.

خشي حداد، أو الخال كما يُطلق عليه، أن يكون في الأمر مكيدة، فطلب من الخاطف برهانًا على جنسيته وولائه، فأجابه الخاطف محشي كوسة وورق عنب. كانت تلك هي الأكلة المفضلة لوديع، فانفجر ضاحكًا وأخبر رجاله أن يسمحوا للطائرة بالهبوط.

كان حداد وجورج حبشي، أو الحكيم كما يُطلق عليه، من أساتذة التفرقة بين العنف الثوري كطريق للتحرر من الاستعمار والرأسمالية، وبين الإرهاب الواجب تجنبه والذي يضر القضايا أكثر مما يفيدها؛ لذا فقد صاغ الخال شعارات لا تزال صامدة حتى اليوم مثل: وراء العدو في كل مكان، وحيث لا يجرؤ الآخرون.

كان مبدأ حداد وحبشي بسيطًا للغاية، العدو الإسرائيلي يستمد شرايين حياته من القوى الخارجية، تلك القوى التي حققت له مشروعه الماضي وتدعمه كونه وكيلها في الشرق الأوسط؛ ولذا فضرب تلك الشرايين هدف شرعي تمامًا.

وضعت إسرائيل اسم حداد ورفاقه في قوائم الإرهاب منذ عملية عنتيبي التي جرت في 4 يوليو/ تموز 1976. الطائرة كانت متجهة من تل أبيب إلى باريس، هبطت الطائرة في أثينا للتزود بالوقود فأجبرها الخاطفون على التوجه إلى مطار عنتيبي في أوغندا. في أوغندا كان الرئيس عيدي أمين دادا معروفًا بتأييده للفلسطينيين لهذا اختاروا أوغندا، حيث ظنوا أن إسرائيل لن يكون أمامها مجال للتدخل مباشرة على الأرض.

لكن انقلب الأمر وهاجمت 3 طائرات كوماندوز إسرائيلية الطائرة المختطفة، مستفيدةً من الدعم الكيني. ولم ترد القوات الأوغندية على الطائرات الإسرائيلية خشية أن ترد إسرائيل بعنف؛ لذا وقع المختطفون وجهًا لوجه مع الكوماندوز الإسرائيلي، وانتهت العملية نظريًّا لصالح الكوماندوز، لكن أهداف منفذيها قد تحققت بلفت النظر وإعادة القضية الفلسطينية للواجهة الدولية.

الأسرى بالأسرى

غزا الفلسطينون السماء، ولم ينسوا الأرض. فاللغة تصف الشعب الفلسطيني بالشعب المُحتَل، كاسم مفعول، وتصف الكيان الإسرائيلي بالكيان المُحتَل، كاسم فاعل. فكأن كل واحد منهما هو فاعل ومفعول به في الوقت نفسه، فبينما يحتل الإسرائيليون فلسطين فإن الفلسطينيين يحتلون إسرائيل؛ لذا فكما يأسر الكيان من أبناء الأرض، فإن أبناء الأرض يأسرون من جنود العدو.

من بعض أمثلة الأسر، للمثال لا للحصر، ما حدث في أواخر عام 1969 ، إذ أسرت حركة التحرير الوطني الفلسطيني، فتح، شموئيل فايز، وتمت صفقة تبادل حصلت بموجبها فتح على محمود بكر حجازي مقابل فايز. وفي عام 1978 اختطفت القيادة العامة الجندي أبراهام عمرام لتبادله في صفقة النورس بـ 76 أسيرًا فلسطينيًّا من فصائل مختلفة، بينهم 12 سيدة فلسطينية. وعام 1982 استطاعت حركة فتح أسر 6 جنود إسرائيليين من جنوب لبنان، وتمت صفقة ضخمة أفرجت إسرائيل بموجبها عن 4700 أسير فلسطيني ولبناني.

وبعد 3 أعوام أفرجت إسرائيل عن 1155 أسيرًا فلسطينيًّا مقابل 3 جنود إسرائيليين أسرتهم الجبهة الشعبية فيما عُرف بصفقة الجليل، وكان من بين المفرج عنهم في تلك الصفقة الشيخ الشهيد أحمد ياسين. وفي 17 فبراير/ شباط 1988 أسرت حركة حماس رقيبًا إسرائيليًّا، لكن تم قتله والتخلص من جثته. وبعد عام اختطفت حماس إيلان سعدون، جنديًّا إسرائيليًّا، لكنهم اضطروا لقتله لصعوبة المفاوضات على تبادله.

بعد قتل إيلان سعدون اعتقلت إسرائيل الخلية التي نفذت العملية لكنها لم تستطع معرفة موضع جثته منهم، ولم تعثر على الرفاة إلا بعد 7 سنوات. وفي ديسمبر/ كانون الثاني 1993 استطاعت كتائب القسام أسر الجندي نسيم طوليدانو، لكن لم تستجب إسرائيل لمطالب الحركة بالإفراج عن قادتها، فقتلته القسام.

وفي عام 2006 أسرت كتائب القسام جلعاد شاليط، وبعد 5 سنوات من أسره أفرجت إسرائيل عن 1027 أسيرًا في مقابله. وفي يوليو/ تموز 2014 أعلن الناطق باسم كتائب القسام أسر الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون.

عملية ميونخ

لا يعرف العنف الثوري الفلسطيني نمطًا محددًا، فلم ينحصر في خطف الطائرات أو في أسر الجنود، بل قالت عملية ميونخ إن المقاومة سوف تذهب حيث لا يجرؤ الآخرون فعلًا. فحين رفضت اللجنة الأولمبية طلبًا لمشاركة فريق فلسطيني في الألعاب الأولمبية التفت أنظار المقاومة لتلك الألعاب، وإمكانية استغلالها لإيصال رسالة للعالم.

فتمكن أعضاء منظمة أيلول الأسود من الدخول لمقر إقامة الفرق المشاركة عبر مساعدة رياضيين أمريكيين مترنحين عادوا لمقر الإقامة سكارى وقرروا الدخول عبر تسلق الأسوار، فاندس أعضاء المنظمة بينهم، فساعدوهم على تسلق الأسوار، وساعدهم أعضاء البعثة الأمريكية في إدخال الحقائب المليئة بالسلاح  لداخل السور.

في 5 سبتمبر/ أيلول عام 1972 قامت مجموعة تابعة لمنظمة أيلول الأسود، المصنفة دوليًّا حركة إرهابية، بإشراف من محمد داود عودة باحتجاز 11 فردًا من الفريق الأولمبي الإسرائيلي رهائن وطالبت بالإفراج عن أسرى في السجون الإسرائيلية.

صفَّت المنظمة اثنين من الفريق حاولا المقاومة أثناء عملية الاحتجاز، فبادرت الشرطة الألمانية لتطويق المقر. عرض الألمان على الخاطفين أخذ مسئولين ألمان بدلًا من الرهائن الإسرائيليين، وعرضوا عليهم مبلغًا ماليًّا، لكن صمم الخاطفون على رأيهم، تحرير 236 أسيرًا فلسطينيًّا، وجندي من الجيش الأحمر الياباني.

انتهت المفاوضات إلى انتقال عناصر المنظمة مع الرهائن لمطار فورستفيلد بورك العسكري لاستقلال طائرة عسكرية لمطار القاهرة. لكن كان الأمر فخًّا، فسقط الخاطفون والرهائن في نيران القناصة، فقُتل 9 إسرائيليون و5 فلسطينيون و2 من الألمان. أما الخاطفون الثلاثة الذين بقوا على قيد الحياة فقد اعتقلتهم السلطات الألمانية، لكنها أُجبرت على إطلاق سراحهم بعد خطف طائرة تابعة لشركة لوفتهانزا الألمانية ومطالبة خاطفيها بإطلاق سراح رفاقهم.

أرضٌ أعيدت ولو لثانية

من ضمن قواعد الملاحة الجوية أنه يجب على المراقب الجوي أن يُكرر الجملة التي يسمعها من ربان الطائرة كي يتم التأكد من وضوح المعلومة، ولتُدرج في مخطط الطيران العام؛ لذا كانت تحرص ليلى خالد، وغيرها من خاطفي الطائرات الفلسطينيين، على ترديد عبارات فلسطين حرة عربية، أو من طائرة الجبهة الشعبية إلى برج المراقبة.

تحاول بذلك أن تنتزع اعترافًا لو لثانيةٍ من العالم أن فلسطين حرة عربية، وأن الفلسطينيين لهم صوت يجب أن يُسمع، لهذا كان المراقبون الجويون لا يرددون كلامها ويكتفون بسبِّها، لكنها تظل تردد جملتها حتى يرددوها مجبرين طبقًا لقواعد الملاحة الجوية.

وفي حادثة خطف الطائرة الأمريكية المعروفة بعملية الرحلة 840 أجبرت ليلى الطيار على الطيران فوق حيفا على ارتفاع منخفض كي تتمكن ورفيقها العيساوي – كلاهما من حيفا – من رؤية بلدهما الذي هُجِّرا منه إجباريًّا، قبل أن تأمره بالتوجه لدمشق وتُخرج الركاب،116 راكبًا، وتقوم بتفجير الطائرة.

فكأن المقاومة الفلسطينية، على اختلاف فصائلها وباختلاف وسائلها، تجعل العالم يدفع ثمن دعمه لإسرائيل، وتجعل إسرائيل تدفع ثمنًا باهظًا لأشياء لم تتخيل أنها ستدفع ثمنها، كحرمان فتاة صغيرة من العيش في بلدها الذي تُحب.