دائمًا ما يدور الحديث عن أن الدولة الفلانية هي صنيعة الولايات المتحدة الأمريكية، يُقصد بذلك أن الولايات المتحدة هي التي تتحكم في مجريات الأمور في تلك الدولة، لكن في بنما قد تبدو الجملة حرفيةً إلى أبعد حد ممكن، فالولايات المتحدة هي التي صنعت بنما حقيقةً لا مجازًا.

فبعد أن انهارت شركة فرديناند ديليسبس، ولم يعد بإمكان ديليسبس ولا حكومته الفرنسية تمويل مشروع إنشاء قناة بنما، طالبت الولايات المتحدة أن يؤول لها المشروع. لكن الحكومة الكولومبية التي منحت الإذن لديليسبس لم تمنحه للولايات المتحدة. في تلك اللحظة رأى الرئيس الأمريكي روزفلت حلًا غير تقليدي لتفوز بلاده بحق إنشاء المشروع؛ الحرب.

لم تكن حربًا بالمعنى الكامل، لأنه لم يوجد فيها طرفان متقاتلان، بل طرف واحد هو أسطول الولايات المتحدة الذي هبط على أراضي بنما بشكل مفاجئ واعتقل القوات الكولومبية وبعض أفراد الميليشيات المحليّة وقتلهم دون تردد، ثم أعلنوا بنما دولةً مستقلةً لها سيادة على كل ما يتعلق بها، وبالطبع تم تشكيل حكومة جديدة، والبديهي أن الحكومة الجديدة صورية، وولاؤها للولايات المتحدة.

ولم تكد بنما تُدرك معنى الاستقلال حتى وقّعت الولايات المتحدة مع الجانب الفرنسي معاهدة قناة بنما، بموجب تلك المعاهدة أصبح للولايات المتحدة الحق الكامل للتدخل العسكري في بنما، كما أمكنها إنشاء منطقة أمريكية بالكامل داخل أراضي بنما، كذلك أصبح من حقها الاستيلاء على كافة الأراضي التي تقع على جانبي القناة. رغم إجحاف تلك القواعد إلا أن الأكثر غرابةً هو أن الاتفاقية لم يُوقع عليها أي طرف، ولو شكلي، نيابةً عن حكومة بنما التي يُفترض أنها دولة مستقلة ذات سيادة.

الانقلاب والنفي لمن يستقل

بتلك الصورة حوّلت الولايات المتحدة بنما إلى وكر استخباراتي تنطلق منه كافة العمليات الاستخباراتية الأمريكية المتعلقة بنصف الكرة الأرضية الغربي. ولتضمن مزيدًا من السيطرة حصرت الحكم في أيدي العائلات الثرية البيضاء، وهم أقلية، فاستفاد الطرفان من بعضهما، الولايات المتحدة تمد العائلات الحاكمة بأدوات القمع لإسكات أي صوت معارض، والعائلات تخضع للولايات المتحدة في كل ما تريد.

قرابة الأربعين عامًا، من لحظة دخول الأسطول الأمريكي 1903 حتى عام 1940، ظلت بنما مستكينةً للتدخل الأمريكي حتى أفلت أرنولفو أرياس عبر الانتخابات ووصل لحكم بنما. أرياس بدا غير راضٍ عما تعطيه الولايات المتحدة لبلاده، فطالب بالمزيد. رفضت الولايات المتحدة، وازدادت ضغطًا عليه للحصول على موافقات لبناء قواعد عسكرية بزعم حماية القناة. قاوم أرياس وأصر على المطالبة بمقابل أكبر، فنفد صبر الولايات المتحدة وأُطيح بالرجل في انقلاب عام 1941.

أعطى الانقلابُ الولايات المتحدة الاتفاق الذي أرادت، وأعطى أرياس 4 سنوات في المنفى. عاد أرياس لبلاده عام 1945، فاستغرق 4 سنوات أخرى كي يعيد بناء قاعدته الشعبية التي أوصلته للحكم مرة ثانية، لكن يبدو أنه لم يتعلم الدرس فعادى الولايات المتحدة مرة أخرى، لكن عداءه كان هذه المرة أشد، وخطابه يميل جهة العمال ويهاجم الأثرياء، فاجتمع الأثرياء مع الولايات المتحدة على عدائه، فانقلب الجيش عليه مرة جديدة، لكن هذه المرة قرروا حرمانه من ممارسة السياسة 9 سنوات.

مرت السنوات التسعة، وبعدها 3 سنوات أخرى، وترشح أرياس للانتخابات، لكن كان التدخل استباقيًا هذه المرة، فزُوّرت الانتخابات. في تلك السنوات خضعت بنما لماركو روبلز الموالي لأمريكا، حتى عاد أرياس للظهور في الانتخابات بعد 4 سنوات، وكان في تلك المرة مدعومًا من تحالف خمسة أحزاب كبرى، فأصبح التزوير مفضوحًا، فاضطرت الولايات المتحدة لقبول فوزه.

الديكتاتور العادل

حاول أرياس أن يبدأ هذه المرة بسد الجُحر الذي يُلدغ منه في كل مرة، فحاول السيطرة على مفاصل الجيش والحرس الوطني والمحكمة العليا، لكن محاولته تلك لم تُسفر إلا عن تقليل مدة الصبر الأمريكي عليه، فبعد أن صبروا عليه 18 شهرًا قبل الانقلاب السابق، لم يصبروا عليه إلا 10 أيام هذه المرة، وآل الحكم للجنرال عمر تويخروس.

أتى عمر بما لا تشتهي رياح الولايات المتحدة، فقد قرر التفاوض معهم على اتفاقية جديدة تمامًا، وحصل من الولايات المتحدة على معاهدة جديدة فيها بعض الانتصار لبنما. لكنّه في الوقت ذاته لم ينضم للمعسكر الشيوعي المعادي للولايات المتحدة، ولم يعاده كذلك، فكان يُحسن الحديث عن فيديل كاسترو، ويتملق الولايات المتحدة كذلك.

كسب توريخوس دعم الطبقة المتوسطة بالخطابات القومية، وشجّع المشاريع الصغيرة، وأخرج الأثرياء البيض من الصورة، لكنّه في الوقت ذاته لم ينزع منهم ما يملكونه حقيقةً. وفي الجهة الأخرى حظر الأحزاب السياسية، وحل كامل السلطات التشريعية، بجانب العديد من السياسات القمعية الأخرى تحت تبرير الضرورة والحاجة للوحدة أمام الولايات المتحدة.

ساهم في تحسن الأوضاع أوائل حكمه أنه تزامن وجود جيمي كارتر في السلطة، وقد كان ميالًا لعدالة ما يطالب به توريخورس. وحين ظفر بالمعاهدة الجديدة وعد أنه سيعيد السماح بظهور الأحزاب السياسية، ويفتح المجال العام أمام الطلّاب، وأمام عمليات التوظيف. والأهم أنه أعلن أنه سيبدأ في إعادة الحياة المدنية للواجهة، وأبرز مظاهرها هي الحكم المدني.

صُدف وأقدار لا خطط مدبرة

كخطوة أولى في ذلك المضمار قام بتعديل الدستور عام 1978،ووعد أنه سيجري انتخابات تشريعية عام 1980، تليها انتخابات رئاسية بعد عامين، وعيّن أريستيدس رويو كرئيس مدنيّ، وأعلن عمر أنه سيتنازل عن كافة سلطاته. في تلك الأثناء وصل ريجان إلى السلطة، لم يكن ريجان ميالًا إلى توريخوس كما كان كارتر، لذا تغيّرت المعادلة.

طلب ريجان إعادة المفاوضات بشأن القناة، رفض توريخوس وقد كان يعلم أنه بذلك يُحدد مصيره، فقد نُقل عنه على لسان جون بيركنر الاقتصادي الأمريكي المرموق، أن توريخوس قال لحظة رفضه إنه يعلم أنه يمكن أن يكون القتيل التالي للاستخبارات الأمريكية.

أيام قليلة بعد مقولته وانفجرت طائرة عمر في 31 يوليو/ تموز عام 1981.

تولى بعده الحكم مانويل نورييجا، رئيس استخبارات بنما والموالي للولايات المتحدة. منح مانويل للولايات المتحدة كل ما تشتهيه، وعلاوةً على ذلك حكم بنما بالحديد والنار، اعتقالات عشوائية بالجملة، وصفقات فاسدة بالملايين، وشرطة سرية شديدة الوحشية والقمع.

وبلغ الأمر ذروته حين عمل مانويل لصالح الولايات المتحدة بأجرٍ كأنه موظف استخباراتي، فجعل بنما مقرًا كبيرًا للتنصت على معارضي الإمبريالية الأمريكية. وفي نفس الوقت كان مانويل يبيع ما يعرفه من معلومات عن الولايات المتحدة لصالح الدول اليسارية مثل كوبا، فيربح من الطرفين. كما تعامل مع بابلو اسكوبار، أشهر تاجر مخدرات وسهّل له عمليات غسيل أموال بالملايين.

بين الصين وأمريكا

كل ذلك كان بعلم الولايات المتحدة لكن لم تُحرك ساكنًا، فالرجل يفيدها بصورة لم تحلم بها. حتى جاء عام 1984 وأعلن مانويل عن انتخابات رئاسية قدّم لها مرشحًا يثق فيه يُدعى نيكولاس بارليتا، ليكون هو واجهة الحكم. أرياس عاد للظهور في تلك الانتخابات وخاضها، لكن خسرها بفارق 60 ألف صوت اختفوا فجأة من صناديق الاقتراع. فاز نيكولاس، لكن مانويل لم يصبر إلا عام واحد ثم عزله، إذ توهم نيكولاس أنه الرئيس حقًا وبدأ يهمس بمعارضة مانويل.

ضاقت أمريكا بمانويل فأصدر الكونجرس الأمريكي قرارًا بطرده والتحقيق في تهم الفساد الموجهة إليه. عارض مانويل ذلك القرار ودعا لمظاهرات واسعة ضد الهيمنة الأمريكية. لم يطل الأمر حتى دبرت الولايات المتحدة انقلابًا عليه عام 1988 لكنّه فشل، فدّبرت آخر عام 1989 ففشل، ومع كل إخفاق يزداد مانويل قوةً.

فأمر بوش الأب بشن غارات على بنما واحتلالها والقبض على مانويل، فالتجأ الأخير إلى سفارة الفاتيكان، ولم يستسلم إلا بعد بضعة أيام. حُكم عليه بالسجن 40 عامًا، وانتهى به المطاف في بنما قعيدًا على كرسي متحرك، ومات بورمٍ في المخ عام 2013.

بوفاة مانويل، وانقضاء أعمال رفاقه وأعدائه، باتت بنما مستكينةً للجانب الأمريكي، راضيةً بتحكم الولايات المتحدة في مصيرها. لكن ظهرت الصين على خط المواجهة وبدأت في استمالة بنما ومنازعة الولايات المتحدة نفوذها فيها، فباتت بنما متأرجحة بين القوتين.