إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد رأيت، فقد ضيعت أيامي.
الشاعر الصوفي «ابن الفارض»

في عام 2007، وفي إحدى المواجهات الكلاسيكية بالكرة المصرية بين الزمالك والإسماعيلي، شهدت مدرجات ملعب «ستاد القاهرة» هتافًا معاديًا لأحد أساطير الفريق الأبيض، حيث اجتمعت رابطة من الجماهير في إحدى زوايا الملعب مُرددة: «كفاية يا حازم!»، ليكون هتافًا تاريخيًا بحق عائلة من أعرق العائلات الرياضية في مصر.

حازم محمد يحيى الحرية إمام، اسم خالد في تاريخ الزمالك حيث كان لاعبًا ابن أسطورة النادي وحفيدًا لرمز من رموزه، لكن لم يكن ذلك شافعًا بالنسبة لتلك المجموعة من الجماهير، واستمروا في مطالبتهم باعتزاله اللعبة والابتعاد عن ناديهم.

في العام نفسه تقريبًا، وعلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط في أثينا، رفع الأسطورة الإيطالية «باولو مالديني» كأس دوري أبطال أوروبا السابع في تاريخ ميلان وهو بعمر الـ39.

بعد ذلك بعامين فقط، عاش باولو موقفًا مشابهًا لذلك الذي عاشه حازم، حيث وجد هتافات معادية من جماهير ناديه في مباراته الأخيرة على ملعب فريقه الوحيد طوال حياته.

حب ميلان أكبر من كرة القدم

لقد تعلق جدي بفريق ميلان، من بعده اتخذ والدي حب هذا الفريق الذي ورثته أنا ومن ثم ورثته لابني. كل شيء في تلك العائلة ينبض بحب الميلان.
الأسطورة الإيطالية «سيزار مالديني»

ولد باولو مالديني في الـ26 من حزيران/يونيو لعام 1968، وحين بلغ العاشرة، توسل إلى والده «سيزار» من أجل الانضمام لفريق ميلان والحصول على فرصة اللعب للنادي، وفي سؤال بديهي عن المركز الذي يُفضل أن يبدأ حياته فيه، لم يكن لديه إجابة، وكأنه عشق «روسينيري» وأراد تمثيله أكثر حتى من عشقه لكرة القدم.

تم قبوله في مركز الجناح الأيمن لفريق الشباب، لقد وجد مدربوه أنه متعلق بتسجيل الأهداف وذلك لما وجد والده في غرفته صورة قد زينت جدارها حين كان طفلًا، لأسطورة يوفنتوس «روبيرتو بيتيجا»، وهو مهاجم إيطالي لعب في ستينيات القرن الماضي.

لكن وبالرغم من أنه عاد سريعًا ليشارك ضمن أعضاء خط الدفاع كما فعل والده وبالقميص نفسه رقم 3، فإن الأسطورة الإنجليزية «راي ويلكينز» يقول إن مالديني لو رغب في اللعب كرأس حربة حتى ما كان ليمنعه شيء من تنفيذ ذلك.

كان لويلكينز تأثير مهم على مشاركة باولو الأولى بقميص روسينيري. كان ذلك في مطلع عام 1985، في ظروف ثلجية خلف جبال الألب أمام فريق أودينيزي. كان باولو قد بلغ الـ16 لتوه، ولم يكن مستعدًا لتلك الظروف المناخية، ولم يكن يملك حذاءً يناسب جليد أرضية الملعب، فأعاره ويلكينز حذاءه صغير المقاس لكنه مناسب للجليد.

عامًا بعد عام، تأكدت مقولة ويلكينز، حيث بدأ موسمه الأول كظهير أيمن وفقًا لقدمه القوية والأساسية، لكن في عامه الثاني شغل الظهير الأيسر وفقًا لحاجة الفريق، ومن ثم لعب كقلب دفاع حين احتاج مدربه لذلك، قام بكل ذلك بقدرات دفاعية خارقة، لكن حين امتلك الكرة، كان بأناقة وذكاء لاعب وسط ملعب.

طبيعة الكرة في إيطاليا

يقول اللاعب الإنجليزي «جيمي كاراجار» إنه لا يوجد طفل واحد يحلم أن يلعب في مركز الظهير، يمكن أن تعتقد أن تلك هي النظرة الإنجليزية للعبة. لكن في إيطاليا، تنعكس هذه الأمور. الأصل في إيطاليا أن يحلم الطفل بقطع الكرة وهي في طريقها للهدف، تجول خواطر الصبية هناك بصيحات النشوة حين تضيع فرصة على فريق الخصم.

يُصعب ذلك من مهمة أي طفل حين ينمو ويصل لمرحلة الاحتراف في الكرة الإيطالية، حيث إنك تواجه بلدًا بالكامل يُتقن اللعب في مركزك، لتكون عملية ظهور نجمك وسط تاريخ حافل بأسماء مدافعين عظام، عملية تبدو مستحيلة، في حالة باولو، كان مُضافًا إليها استحالة تخطي حاجز أنه ابن الأسطورة سيزار مالديني.

لكن كما واجه مالديني أعتى مهاجمي العالم، واجه كل تلك المستحيلات وتخطاها. حمل في تاريخه حوالي 1000 مباراة في مسيرة طويلة استمرت 25 عامًا بقميص ميلان، أكثر من 20 بطولة، 7 بطولات للدوري المحلي و5 ألقاب من دوري أبطال أوروبا بنسختيها، سواء كلاعب أو كقائد.

يقول «فرانك باريزي» إنه لم يحتج الكثير من النصائح حتى يصل لكل ذلك، كان فقط يُريد أن يضع قدمه في أرض الملعب، ليضع تاريخًا باسمه بقميص فريقه أو بقميص منتخب إيطاليا. حصل على المركز الثالث في تصويت الكرة الذهبية في مناسبتين 1994 و2003، في حين حصل على المركز الثاني في عام 1995.

أفضل من «ميسي»

في إيطاليا، يمكن أن تذهب الجماهير لمشاهدة تدخلات دفاعية كالتي يُقدمها مالديني وأمثاله وأن تدفع نظيرها مئات الدولارات كل أسبوع، أكثر مما قد يدفعه آخرون لمشاهدة ما يفعله «ميسي» و«كريستيانو»، لأن الصراع في إيطاليا مُختلف.

لا يُحبذ الطليان الصراع الذي يدور بين ميسي ورونالدو البرتغالي، تلك النوعية من الصراعات البعيدة كل البعد عن التلاحم المباشر، قد لا تروق لأغلبية الجمهور هناك. ما أضاف قيمة ضخمة لتواجد أغلب النجوم المهاجمين داخل إيطاليا في العقود الثلاثة التي لعبها مالديني كانت فرص المواجهة المباشرة مع نجم ميلان الأول.

على رأس تلك القائمة من المهاجمين يأتي البرازيلي «رونالدو» بقميص الإنتر، والذي تواجه مع أفضل لاعبي ميلان وجهًا لوجه أكثر من مرة في المباراة الواحدة، ما عزز من قيمة صراع الديربي بين قطبي العاصمة الإيطالية في تلك الفترة.

كلا اللاعبيْن قد وضع الآخر ضمن الأصعب من بين ما واجهه كل منهما طوال حياته. لم يفكر الظاهرة مرتين قبل أن يضع مالديني أصعب مدافع قد لعب أمامه، بالرغم مما قد وصفه به مالديني من سرعة وقدرة على التسجيل من أضيق الأماكن، لكن كان لباولو نصيب الأسد من عقل أحد أفضل مهاجمي البرازيل تاريخيًا.

لا شك أن ميسي هو أفضل لاعب في الجيل الحالي، لكني لم أكن متحمسًا جدًا لضمه، لقد أُعجبت بكاكا، زين الدين زيدان، لكن لا جدال لم أتمنى ضم لاعب مثلما تمنيت ضم باولو مالديني.
المدرب التاريخي لمانشستر يونايتد «السير أليكس فيرجسون».

ما يطلبه المشاهدون

في المبارة رقم 1000 التي لعبها مالديني بشكلٍ احترافي، تعادل فريقه بدون أهداف أمام فريق بارما، وقتها أبدى باولو غضبه من تلك النتيجة مؤكدًا أن تلك الأشياء تبقى في التاريخ، وأنه حزين من أنه لم يتمكن من قنص 3 نقاط في مباراة تاريخية في قيمتها مثل هذه المباراة.

لكنه لم يكن يتخيل أن آخر مباراة له على ملعب فريقه الذي عاش حياته بالكامل لأجله، ستحمل ذكرى لن تنسى وهو يُنصل من عائلته بأمر من جماهير النادي، رفعت الجماهير لافتة تحمل معنى أن مالديني لم يكن السلف الحقيقي لعائلته المحبة للنادي.

بعد حسم الفوز بلقب الدوري المحلي لعام 1999، كان باولو واحدًا ضمن لاعبين فقط ذهبوا لغرف الملابس مباشرة دون الذهاب للاحتفال مع الجماهير، كانت اللحظة التي ظهر فيها عداء واضح بين باولو وبين جماهير الأولتراس المؤيدة لنادي ميلان.

لم ترغب جماهير الأولتراس في رؤية قائدها التاريخي يدافع عن مُلاك النادي وعن اللاعبين في أحلك الفترات التي مر بها الفريق. حيث لم يتوانى مالديني في أي مرة في الدفاع عن زملائه في الفريق بعد أي إخفاق، لا سيما الإخفاق الكبير في إسطنبول أمام ليفربول، والخسارة التاريخية للقب دوري أبطال أوروبا عام 2005.

لم تحترم الجماهير كل محاولاته للدفاع عن تلك الخسارة المذلة في نهائي البطولة، رغبوا في رؤيته أكثر حدة وحزمًا مع زملائه بعد التخاذل الواضح الذي أدى لتلك النتيجة وضياع لقب هام، حتى أن بعض الجماهير تغفل أن ميلان قد نجح في الانتقام بعد ذلك بعامين فقط وحسم نفس اللقب أمام الريدز في النهائي.

عاش مالديني سنينه الأخيرة مع جماهير الأولتراس بشكلٍ غير مُرحبٍ به، وبين هتافات معادية ولافتات رافضة، اعتزل اللعب وترك اسم العائلة في حالة غير محمودة، على أمل أن يعود أحد الأبناء لحمل ذلك الإرث، لكن هذه المرة مع مراعاة ما يطلبه جماهير الأولتراس، حتى لا تكرر نفس النهاية.