حبس الملايين من عشَّاق أدب د. أحمد خالد توفيق أنفاسهم مع وصول شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حيث سيخرج إلى نور الشاشات مسلسل ما وراء الطبيعة، من إنتاج شبكة نتفليكس، أول عمل درامي مُستوْحى من كتابات الأديب الراحل، الذي حفر اسمه بالنحتيْن الغائر والبارز على قلوب وعقول جيلٍ كبير من الشباب.

لم يكن هذا الكم من الترقب مستغربًا، فالمكانة الخاصة التي يحظى بها د. أحمد في نفوس محبيه من الشباب لا تُضاهى، وهؤلاء يخشون ألا يكون أول ظهور لاسم د. أحمد على الشاشة على المستوى الذي يليق به.

في الخامس من نوفمبر، ووفقاً لمتابعتي لمواقع التواصل الاجتماعي لردود أفعال من شاهدوا المسلسل، تبايَنت الآراء. فقد  تنفَّس عديد من محبي العرَّاب الصعداء بعد مشاهدتهم للمسلسل، ورأوْهُ على المستوى المطلوب، وعبروا عن امتنانهم لطاقم العمل، وبالأخص الفنان المصري «أحمد أمين» الذي لعب دور أهم شخصية أبدعها د. أحمد خالد في كتاباته، د. رفعت إسماعيل. لكن في المقابل، وجه آخرون انتقاداتٍ عديدة لمختلف جوانب المسلسل، لا سيما للتعديلات التي أُدخِلَت على أحداث الروايات لتلائم حبكة المسلسل، وكذلك أداء المخرج المصري عمرو سلامة، بل تحدَّث البعض عن أن العمل قد أساء كثيرًا لشخصية رفعت إسماعيل.

لست هنا بصدد تقديم نقدٍ فنيٍّ لهذا المسلسل، ولا تأييد هذا المعسكر أو ذاك، فأنا ببساطةٍ لم أشاهده بعد. لكنني سأتحدث عن أمرٍ شخصيٍّ يتعلق به، يهمني أكثر، وأشعر أن الكثيرين يشاطرونني إياه. لقد تفاجأْتُ رغم اعتزازي الشديد بـ د. أحمد رحمه الله، والعلاقة الشخصية التي جمعتني به، أنني لم أكن أعيش تلك الحالة السابقة من الترقب والتفاعل مع هذا المسلسل منذ الإعلان عنه بعد وفاة د. أحمد بأشهر، وحتى بعد نزوله بالفعل. بل على العكس، فإن شعورًا بالضيق وعدم الارتياح  قد تنامى في صدرى، خاصةً في الأسابيع الأخيرة قبل عرض المسلسل.

لعل جزءًا من هذا الشعور السلبي يعود إلى غياب د. أحمد عن حضور تلك اللحظة التي كثيرًا ما تمناها، وما جدَّده هذا من ألم الحنين إلى هذا الشخص الاستثنائي، لكن الجزء الأكبر منه سببُه منصة نتفليكس، وفقدان الثقة من جانبي في قدرة صناع العمل لا سيَّما المخرج عمرو سلامة على بناء عملٍ يليق بكتابات د. أحمد، رغم طمأنات عديدة من الحلقة الأقرب لـ د. أحمد، بأنهم كانوا يتابعون خطوات إنتاج العمل جيدًا للحفاظ على بصمة الكاتب العظيم.

نتفليكس على ميزان العراب

لا جدال في أن د. أحمد رحمه الله كان يود كثيرًا أن يرى بأم عينيْه عملًا دراميًّا مبنيًّا على رواياته، وأن العديد من المحاولات لتحقيق ذلك في حياته قد فشلت لأسبابٍ عديدة تمويلية وفنية. ولعل الحالة الشعورية الاستثنائية التي فجَّرتها الوفاة المفاجئة للدكتور قد أسهمت في تحريك المياه الراكدة، وفي زيادة الاهتمام في الوسط الفني بحمل اسمه إلى الشاشة كما كان يتمنى. لكنني بصراحةٍ شديدة، أرفض بتاتًا أن تحظى نتفليكس بشرف الريادة في تحقيق هذا الهدف.

لا يمكن أن أنكر مدى قوة وانتشار شبكة نتفليكس في العالم أجمع، وفي العالم العربي في السنوات والأشهر الأخيرة، وأنها تربح مئات الملايين من الدولارات سنويًّا، وأن الكثير من كُتَّاب ومخرجي العالم حاليًّا يرون إنتاجَ أعمالهم عبرها مكسبًا كبيرًا لهم. لكن بالنسبة إليَّ، وإلى معظم محبي د.أحمد من جيلي، فقيمة الرجل وكتاباته وإخلاصه لا تقدر بثمن، ولا تعنينا في ذلك حسابات الرأسمالية المهيمنة.

كمتابعٍ قريب لـ د. أحمد ولكتاباته، أرى توجهات تلك الشبكة تناقض روح كتابات أحمد خالد توفيق ومثالياتها وأهدافها. كان د. أحمد مثقفًا محافظًا ومتديِّنا، يبتعد كثيرًا في رواياته، حتى تلك التي كتبها خارج السلاسل في سنواته الأخيرة، عن الأساليب الجنسية الفجَّة، أو اللغة الصادمة، وعلى الصعيد العام فقد كان مؤمنًا بالتغيير الذي تمثل في ثورات الربيع العربي، وبقضايا الأمة العربية كافة، لا سيَّما قضية فلسطين والقدس، ويكره إسرائيل كراهية جذرية كما صرَّح كثيرًا في مقالاته، وكان يكتب باللغة العربية الفصحى السهلة الممتنعة، والتي عشقها الكثير من أبناء جيلنا بسبب كتاباته.

في المقابل، يمكن لأي متابع لغالبية الأعمال التي تنتجها نتفيليكس، والتي أصبحت ترتبط باسمها في السوق، أن توجهاتها بعيدة كل البعد عن المحافظة الأخلاقية، فالكثير من إنتاجاتها تكتظ بجرعات مكثفة من المشاهد الإباحية الفجة، والترويج للمثلية الجنسية، ومؤخرًا أثار أحد الأعمال التي عرضتها المنصة اشمئزازًا كبيرًا بعد اتهامات حول العالم بأنه يروج للبيدوفيليا بعد أن أظهر بعض الراقصات الأطفال في أوضاعٍ مريبة، مما فجَّر حملة كبيرة لمقاطعة الشبكة. كذلك أنتجت نتفليكس بعض الأعمال التي تتبنى وجهات النظر الإسرائيلية، ومن أبرزها مسلسل الجاسوس الذي يتحدث عن قصة الجاسوس الإسرائيلي في سوريا في الستينيات إيلي كوهين (كامل أمين ثابت).

لم أكن أحب بتاتًا أن يقترن اسم أول عمل مُستلهم من إبداع أحمد خالد توفيق باسم شبكة نتفليكس،  وأن يتمدد انتشارها عبر هذا الاقتران إلى بعض الشرائح المحافظة من محبي د. أحمد. أعترف أن هناك صوتًا براجماتيًّا -خافتًا- في ثنايا عقلي، يدفعني لمحاولة النظر بانفتاحٍ إلى الأمر الواقع الحالي. نتفليكس وأخواتها هي حاضر ومستقبل الإنتاج المرئي، ولديها بالفعل  عشرات الملايين من المشاهدين حول العالم، منهم جموع متزايدة من المشاهدين العرب لا سيما من الناشئة والشباب.

إذًا فالخبر السار وفق تلك المعطيات، أن إنتاج د. أحمد خالد توفيق سيصل إلى الملايين حول العالم ومنهم شرائح عمرية وثقافية عديدة لم تتعرفْ على إنتاجه من قبل، وسيسطعُ نجمه كما يستحق، عبر أمنية حقيقية له، ولأقرب مقرَّبيه ستتحقق بعد طول انتظار.

وهنا يبرزُ سؤال جوهري، هل يعبرُ هذا العمل فعلًا عن د. أحمد خالد توفيق؟

هل تجسد «ما وراء الطبيعة» روح  كتابات الراحل العظيم؟

لا أستطيع أن أقطعَ برأيٍ حاسم في الرد على السؤال السابق حتى أشاهد المسلسل بنفسي. لكن من الواضح من منشورات المخرج عمرو سلامة على الفيسبوك، والتي ذكر فيها أن العمل لا يسير تفصيليًّا وفق أحداث الأساطير المنتقاة، وكذلك من تعقيبات بعض من شاهدوا العمل ممن أثق في آرائهم، أن العمل كان بعيدًا عن روح ما كتبه د. أحمد، وأن بصمات عمرو سلامة كانت أكثر طغيانًا، وأن رسم شخصية د. رفعت إسماعيل بطل ما وراء الطبيعة أشعر الكثيرين بالاغتراب كأنه رفعت إسماعيل آخر.

لطالما خشيت أن يركز صناع هذا المسلسل على الجانب القصصي والغرائبي وأجواء الرعب في أساطير ما وراء الطبيعة، بينما يغفلون الجوانب الإنسانية والفكرية التي كان يبثها د. أحمد برشاقة وصدق في ثنايا تلك المغامرات، وتلك هي الجوانب التي تعبر فعلًا عن خصوصية روح د. أحمد الحقيقية، فتتشكل في وعي الآلاف الذين يقتربون للمرة الأولى من عالم د. أحمد فكرة مُختزلة عن الراحل العظيم، وأنه مجرد كاتب لقصص رعب شيقة. ويبدو أن ما خشيته قد وقع منه الكثير.

لقد حسمت منذ أمدٍ قراري بأنني لن أشترك في نتفليكس أبدًا، ولن أشجع أحدًا على القيام بذلك، ولو من أجل المسلسل الذي يجسد السلسلة الأثيرة لدى أستاذي الراحل. بل -وهذا الأعجب- لا أجد في نفسي رغبة كبيرة في مشاهدة المسلسل عبر المواقع الأخرى الكثيرة التي لا شك حصلت عليه خلال الساعات الأولى بعد عرضه.

لكن ما أعرف يقينًا أنني سأحب فعله، أنني أتوجه للركن الكبير العزيز في مكتبتي، والذي يضم سلاسل الروايات المتوجة على ظهر غلافها باسم د. أحمد خالد توفيق، وأنتقي بعضًا منها، لأستعيد أجواءً أحبها من الحنين الصافي، وألامس روح أستاذي الغائب الحاضر من منابعها الأصيلة.