يقول أمير الشعراء أحمد شوقي: “الأم مدرسة، إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق” وفي مقولة أخرى قرأت ما معناه “أن تربي ولدًا فأنت تربي فردًا، ولكن أن تربي فتاة فأنت تربي أمة”.

من هنا تنبلج لنا أهمية ما تقوم به الأم وكيف بدورها نبني أمما وشعوبًا، وهنا أيضا تنكشف حقيقة أخرى وهي أهمية إعداداها وتأهيلها لهذا الدور المنوط بها، فمهندس البناء لابد وأن يتمتع بعلمه ومهارته والآليات التي تؤهله لإنشاء الأبنية وإلا تعرض البناء للتقويض، والجندي الذي سيخوض معركة لابد وأن يتسلح لها جيدًا وإلا لحقته الهزيمة، والإنسان المقدم على السير في طريق مجهول لابد وأن يمتلك الخريطة التي يستدل بها على الأماكن وإلا ضل طريقه وتاه.

هناك فريقان يتصارعان حول ماهية دور المرأة وكيانها فنجد فريقًا، يجد دورها وكيانها خارج المنزل عن داخله ويرفض تماما فكرة كونها (ربة منزل )، والآخر وهو غالبية المجتمع ومعتقداته وتقاليده يرون أنها ليس لها إلا (بيت زوجها)، ولكن دون النظر الاهتمام بل والتحقير من أهميةإعدادها وتأهليلها لدورها في (بيت زوجها)، فهي في عيونهم ليست إلا متاعا ومربية، ولكن لا يهم إذا كان لديها من الوعي والتثقيف ما يؤهلها لمهمتها هذه ويساعدها على حسن بلاءها في قيادتها لهذا البيت أم لا.

والفريقان ظالمان، فكيان المرأة ليس في إخضاعها لعمليات القولبة والنمطية السخيفة المعهودة في بدايتها بـ (دراستها) التي تنتهي بشهادة ورقية تُحفظ في إطار معلق على الجدار، ثم (عملها) الذي يجعلها تحت وطأة استبداد آخر واستعباد، ثم زواجها هذا المرنو إليه والذي يجعلها متمحورة فقط حول مطلب “رجل” وكفى.

ولكن كيان المرأة المنشود هو تلك الرسالة المميزة بها والتي إذا احسنت تأديتها وأبلت فيها البلاء الحسن في دنيتها، صارت لها “باقيات صالحات” في آخرتها وخلدّت اسمها.

اغتيال عقلها.

أتساءل هنا: ماذا يضير هؤلاء إذا استعدت المرأة جيدًا لدورها المنوط بها كزوجة وكأم لتنتج لنا جيلا من القادة وأصحاب الفكر المستنير ومن يأخذ بيد الأمة وينهض بها ويجعلها في ركب التحضر والإزدهار؟!

لماذا يصمون التي تسعى لبناء ذاتها وعقلها ووعيها بـ “المسترجلة”؟!

إنه لمن العجب أن نجد من يطالب بصلاح الأمة ويتغنى بجيل يحرر الأقصى ويعيد لنا حضارة الأندلس، وفي الوقت ذاته يطلعون علينا بمعتقدات سقيمة تكون هي ذاتها سببًا كافياُ لما نراه من خلل وضياع، وتتلوث أسماعنا مرارًا وتكرارًا بوصف كل من خرجت لعلم ولإعداد نفسها وتأهيلها لقيادة أسرة سعيدة تكون نواة لمجتمع ناهض وأمة مرفوعة الراية، وتساعدها على بناء جيلٍ صالحٍ، بأنها مشوهةٌ أنوثتها ولا تصلح لزواج وبناء أسرة!

يريدون فقط أنوثتها والتي لا تكفي وحدها أصلًا لبناء الأجيال، يهجون عقلها وفكرها ووعيها بل ويخافونه! ويرون قيمتها في “اللاقيمة” لها، يفرغونها من كينونتها، مطلبهم دائمًا “فراغها”وتفاهتها.

ثم بعد ذلك بتعجبون من جيلٍ غالبيته مسوخ مشوهة، جيل تغلب عليه “التفاهة” والفراغ، ولكن هذه هي النتيجة الطبيعية لما قدموه.

وجدير بالتوضيح هنا، أن ليس ما أقصده هو انسلاخ المرأة عن طبيعتها الأنثوية أو فطرتها، ولكن الذي أريد أن نعيه جميعا هو أنها ليست مجرد “حيوان ناطق” ليس لديه قضية أو رسالة يعيش من أجلها، يأكل ويشرب ويتنزه ويتسوق ويستهلك وهمها الوحيد أن تكون ذات وجه جميل، فأن أردتموها دون وعي، فأهلا بالمزيد من الأجيال الغائب وعيها، أجيال تعيش إمعة، تتحرك كالدمى في يد كل من أراد العبث بهم، أجيال ليس همها إلا ملذاتها، تعيش جل حياتها في مقابر الاستهلاك، ضائعة لا تعرف لها رسالة أو قضية، فاقدة للهوية.

فلا تتعجبوا من الثمرة قبل أن تدركوا فساد البذرة التي وُلدت منها وكبرت.


ماذا جنينا من الجهل التربوي؟

صناعة الوعي -لا سيما (الوعي التربوي)- لدى المرأة المقبلة على الأمومة سيمنحها شيئًا من التبصر والبصيرة في عملية تربية النشأ، ستدرك الأخطاء التي تقع في تربية السلف وتُقصيها، وستسعى بقدر الإمكان أن تربي أبناءها تربية سليمة، وسيخرج لنا جيل من الأسوياء، ولن تسمح لنفسها بأن تكن حلقة في سلسلة الهلاك التربوي الذي طالما نسمع عن نتائجه السلبية ونراها متمثلة في شخصيات الأفراد والتي تتسبب بدورها في ضياع الأمم، فهلاك الأمم ينبع من هلاك وسوء الفرد على المستوى الأخلاقي أو الفكري أو النفسي، فعلى سبيل الذكر لا الحصر:

الأم التي سُجنت وهي صغيرة داخل أسوار العادات والتقاليد الواهية والنماذج المجتمعية البالية، قد تصبح في يوم “السجان” وستسجن أبناءها داخل نفس الأسوار، والأم التي تكبلت بقيود القشور والمظاهر وكل ما هو أجوف وفارغ، قد تقيد أبناءها بذات القيود ليخرج لنا جيلٌ من الفارغين الذين لا هم لهم ولا قضية ولا رسالة، والأم التي أعدمت شنقًا بحبال الاستبداد والعسف والقهر قد تنشئ لنا جيلًا من المستبِدين والمستبَد بهم، الذين لا يخشون الله ولكنهم يخشون ( العصا)، وسيفسد هذا بدوره أخلاقهم، فكما يقول (ابن خلدون) “من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل وحُمِلَ على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادةَ وخُلُقًا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرين، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالًا على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخُلُق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين”.

لذا عملية التربية ليست بالأمر السهل أو الهين، وهي ليست مقتصرة على مأكل ومشرب وملبس وكفى، فهذا لا يليق إلا بتربية جرو أو قطة أو أي كائن آخر، ولكن هنا الأمر يختلف فهو يتعلق بتربية إنسان له عقل وكيان، وعلى الأم أن تعي ذلك جيدًا وتعد نفسها لهذا الدور بما أنها تمثل الجزء الأكبر منه، “فصلاح الأمم ينتج من صلاح الأم”.