هبط النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي إلى باريس وارتدى قميص فريق باريس سان جيرمان الفرنسي وما زالت العيون لا تُصدق ما تراه، حالة من إنكار الواقع سيطرت على مشجعي كرة القدم، الأمر لم يقتصر فقط على مشجعي فريق برشلونة الإسباني الذين لم يتوقعوا أبدًا خسارة ميسي بهذه الكيفية، ولكنه امتد كذلك إلى مشجعي الأندية الأخرى، الذين ظنوا أنه سيكون لاعب النادي الواحد لنهاية مسيرته، حتى مشجعي باريس سان جيرمان أنفسهم لم يصدقوا أعينهم بأن ليونيل ميسي موجود في العاصمة الفرنسية لارتداء قميصهم والقتال من أجل ألوانه.

آلاف من الجماهير أمام ملعب الأمراء. الجميع ينتظر إطلالة اللاعب المعجزة، منْ كسر أرقاماً قياسية وعبث بفرق كاملة، وصنع تاريخاً لبرشلونة في بضع سنوات، وقلّص مئات الأميال بينهم وبين ريال مدريد. إنه صاحب الـ5 كرات الذهبية، وواحد من أفضل منْ لمس كرة القدم في التاريخ، إن لم يكن الأفضل.

علق أحد مشجعين فريق باريس سان جيرمان يُدعى «ديلان» لموقع «ذا أثليتك» عن شعوره بعد انضمام ميسي إلى الفريق الباريسي قائلًا:

لقد عشنا الكثير من الأيام الجيدة هنا في باريس؛ قدوم نيمار إلى باريس، الفوز على برشلونة، هزيمة مارسيليا، ولكن وجود ميسي في باريس سان جيرمان، لا أصدق ذلك، لا أستطيع تصديقه.

خروج ميسي من برشلونة

لقد قلت هذا أكثر من ألف مرة وإجابتي لم تتغير كالمعتاد، أرغب في أن أنهي مسيرتي في بيتي، وبيتي هو برشلونة، أتمنى أن يسير الأمر على هذا النحو.

كان هذا تصريح ليونيل ميسي في عام 2016 عن إمكانية رحيله عن برشلونة. وضعت رابطة الدوري الإسباني كلاً من ميسي وبرشلونة في موقف صعب بعدما رفضت تقديم أي استثناءات، ليضطر الطرفان لدفع ثمن أخطاء الإدارة السابقة برئاسة جوسيب بارتوميو والظروف المحيطة بالعالم بسبب جائحة فيروس كورونا. رحل ميسي عن برشلونة وهو مُستعد لتقاضي نصف راتبه فقط، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لإيجاد حل للمشكلة.

حاول لابورتا رئيس برشلونة الحالي والذي تولى رئاسة الفريق الكتالوني في شهر مارس/آذار الماضي، إيجاد حل لإبقاء ميسي في كتالونيا، لكن الأمر كان صعبًا للغاية، لقد فرضت الرابطة الإسبانية على برشلونة تقليل فاتورة رواتبهم إلى 160 مليون يورو لموسم 2021-2022، بينما كانت رواتب برشلونة من موسمين فقط 671 مليون يورو، ثم انخفضت إلى 374 مليون يورو الموسم الماضي (2020-2021)، ولكن تخفيض أجور الفريق بنسبة تقارب 60% لتصل من 374 إلى 160 مليون يورو هذا الموسم عملًا صعبًا للغاية على لابورتا، خصوصًا مع العقود طويلة الأمد ذات الرواتب المرتفعة للاعبي الفريق الأول لكرة القدم في برشلونة.

كل الحلول المتاحة كانت عبارة عن رحيل بعض أصحاب الرواتب العالية مثل أومتيتي وبيانيتش، سواء بالبيع أو فسخ عقودهم مع تنازلهم عن باقي رواتبهم، كذلك تخفيض رواتب كبار لاعبي الفريق: بيكيه وبوسكيتس وسيرجيو روبيرتو وجودي ألبا، وكان هناك احتمالية لرحيل البرازيلي فيليب كوتينيو – مثلما رحل في الساعات الأخيرة للميركاتو الفرنسي أنطوان جريزمان- إلا أن ذلك فشل نتيجة عدم وجود مشترين مهتمين باللاعب. لقد كانت هناك حلول ولكن لسوء الحظ لم يكن أي منها يعتمد على برشلونة أو ميسي، بل كانت جميعها في يد عناصر أخرى تكاتفت لتجعل بقاء ميسي في كتالونيا مستحيلًا.

ميسي في باريس

في الخامس من أغسطس/آب 2021 نشر برشلونة بياناً رسمياً أعلن من خلاله فشل توقيع عقد جديد مع النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي، وأن العلاقة التي استمرت بين الطرفين لأكثر من 20 عامًا انتهت. لم يحتج الأمر سوى 48 ساعة ليتمكن ناصر الخليفي رئيس نادي باريس سان جيرمان من التوصل إلى اتفاق مع ميسي ووكيل أعماله خورخي لإحضاره إلى العاصمة الفرنسية.

لقد كان إحضار ميسي إلى باريس حلمًا لمُلاك النادي في قطر، من البداية لم يكن الهدف من مشروع باريس سان جيرمان الربح المادي ولكنه احتوى على أهداف أكثر أهمية وخطورة، منها تحسين صورة قطر دوليًا، وإقامة علاقات طويلة الأمد مع منظمات دولية. لذا، فإن وجود أوجه إعلامية كبيرة مثل نيمار وميسي يتوافق مع هذه السياسة كما يتوافق مع سياسة قطر الإعلامية للترويج لكأس العالم 2022، والذي ستستضيفه الدوحة.

نشرت صحيفة «فرانس 24» الفرنسية تقريرًا تحدثت فيه عن أهمية التعاقد مع ليونيل ميسي بالنسبة إلى نادي باريس سان جيرمان الفرنسي وملاك النادي القطريين، وأنه يجسد المستقبل الاقتصادي والرياضي للنادي، حيث ذكرت الصحيفة بكل وضوح أن الفريق الفرنسي أصبح يمتلك ثلاث علامات تجارية بعد وصول ميسي وهم: مدينة باريس وجوردان (مصنع ملابس الفريق) وليونيل ميسي. بالتأكيد يمتلك النادي جمهورًا كبيرًا في فرنسا، ولديه شعبية جيدة لدى مشجعي كرة القدم في العالم، ولعب في صفوفه العديد من اللاعبين المميزين مثل رونالدينهو وإبراهيموفيتش ونيمار، ولكن التعاقد مع ميسي كان أمرًا مختلفًا تمامًا.

التقى صحفي من موقع «ذا أثليتك» مع مجموعة من الأشخاص أمام ملعب حديقة الأمراء وهم رويز وأصدقاؤه وهم من مشجعي Cruz Azul، وعند سؤالهم عن سبب مجيئهم إلى باريس، قالوا إنهم جاءوا لسبب واحد فقط: «نحن نعيش في المكسيك، لقد أتينا إلى هنا من أجل ميسي فقط، من أجل رؤيته إنه أفضل لاعب في العالم».

بالتأكيد كان ناصر الخليفي يعلم بتلك النتيجة مسبقًا، لقد سبق لرئيس نادي نابولي كورادو فيرلاينو التعاقد مع الأسطورة الأرجنتينية دييغو مارادونا عام 1984، بعد أن أقنع عمدة نابولي بأن يشارك في تمويل الصفقة، مؤكدًا أن هذا سيُنشِّط السياحة في المدينة الإيطالية بالكامل. كان ذلك متوقعًا للغاية وبالفعل هو ما حدث، فبعد وصول مارادونا إلى نابولي وفي مباراته الأولى حضر 75 ألف مشجع لمشاهدة النجم الأرجنتيني، وتدريجيًا ازدهرت السياحة في إيطاليا نتيجة مجيء العديد من السياح لمشاهدة مباريات نابولي ومارادونا، والذي تبعه مجيء الاستثمار، للعمل على توفير الخدمات للسياح القادمين إلى نابولي باستمرار، فازدهرت الأحوال المادية في مدينة نابولي بالكامل.

لماذا تحتاج قطر إلى ميسي؟

في 23 فبراير/شباط 2021، نشرت صحيفة The Guardian البريطانية تحقيقاً صحفياً كشفت من خلاله عن وفاة أكثر من 6500 عامل من الهند وباكستان ونيبال وبنغلاديش وسريلانكا منذ عام 2011 وحتى 2020، وذلك خلال مشاركتهم في تأسيس البنية التحتية للمشروعات المقرر إنهاؤها قبل كأس العالم 2022، واتهمت الصحيفة الدولة القطرية بعدم الاهتمام بحياة العاملين، بخاصة وأنهم يعملون لمدة 18 ساعة يوميًا، ومنها ساعات طويلة تحت أشعة الشمس في ظروف غير آدمية ودون أيام راحة لمدة تصل إلى 5 أشهر.

ولم يكن هذا التقرير هو الأول الذي يُنشر بخصوص حقوق العاملين في قطر، حيث سبق لوكالة «إمباكت» الاستشارية نشر تقرير يحمل نفس الاتهامات في 2017، وتبعه العديد من التقارير، أبرزهم تحقيقات لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» وصحيفة «فرانس 24» وقناة «العربية».

وقد طالبت منظمة العفو الدولية في 2021 من الاتحاد الدولي لكرة القدم بممارسة ضغوطات مشروعة على الدولة القطرية من أجل التأكد من سلامة العاملين.

وقد شهدت مباريات التصفيات الأوروبية المؤهلة لكأس العالم 2022، اهتماماً دولياً كبيراً بهذا الملف، حيث احتج لاعبو منتخبي ألمانيا والنرويج لكرة القدم على تدهور حقوق العمال المهاجرين في قطر، وذلك بارتداء قمصان عليها عبارات تدعو لاحترام حقوق الإنسان، ووصل الأمر إلى المناداة بسحب حق تنظيم كأس العالم من قطر وبل مقاطعته إن لزم الأمر.

وعلى الرغم من حدوث تطور واضح في هذا الملف من جانب الدولة القطرية وتحسن قوانينهم لتأمين حياة العمال، فإنهم لا يزالون في حاجة إلى أوجه إعلامية لها شعبية كبيرة مثل لاعبي كرة القدم البارزين، من أجل تحسين صورتهم أمام المجتمع الأوروبي والدولي قبل انطلاق كأس العالم.

مكاسب الدوري الفرنسي

وعلى الرغم من كون قدوم ميسي إلى الدوري الفرنسي خبراً غير سعيد رياضيًا للمنافسين، لأنه سيجعل مهمتهم في الفوز بالدوري أكثر صعوبة، فإنه قد يحمل بعض الأخبار الإيجابية أيضًا. قدوم ميسي إلى فرنسا يُعزِّز من قيمة الدوري الإعلامية والسوقية، الدوري الذي يعاني من عدم وجود راع منذ الموسم الماضي، وتوشك أنديته على الإفلاس، قد يحظى براعٍ جديد مع قدوم ميسي إلى نادي العاصمة، ما يعني زيادة محتملة في حقوق الرعاية والبث التلفزيوني، مما يعود بالفائدة على دخول الأندية ويعود بالخير على الجميع.

فقد صرّح رئيس نادي لوريان، أحد أندية الدوري الفرنسي، قائلًا:

أنا سعيد لأن ميسي سيحضر إلى ملعبنا «دو موستوار» ليلعب ضدنا قبل عيد الميلاد. وصول ميسي إلى الدوري الفرنسي خبر جيد، أُهنِّئ صديقي ناصر الخليفي، وأنا متأكد أنه سيتمكن من موازنة هذا الاستثمار من خلال تطوير المزيد من الإيرادات التجارية. هذا يُعزِّز من قيمة الدوري الفرنسي كأحد أفضل الدوريات في أوروبا.

قدوم الأرجنتيني صاحب الـ34 عامًا يُغيِّر كثيراً من موازين القوى الإعلامية والتسويقية في الساحة الأوروبية، يُرجح كافة الدوري الإنجليزي بشكل أكبر أمام الدوري الإسباني، ويُقرِّب الفوارق بين الدوري الفرنسي والإسباني، حتى في عدم وجود منافس بنفس قوة باريس سان جيرمان في الدوري.

وجود فريق يملك ليونيل ميسي ونيمار دا سيلفا وكيليان مبابي وسيرجيو راموس ودوناروما مُفيد جدًا إعلاميًا للدوري ككل، وسيجذب عددًا كبيرًا من محبي كرة القدم في العالم لمتابعة مباريات فريق العاصمة بشكل خاص والدوري الفرنسي بشكل عام. وبالطبع سيتمكن مُلاك الفريق في قطر من إيجاد أفضل طريقة لاستغلال هذه الأسماء اللامعة للترويج لمونديال 2022.

ربح باريس سان جيرمان ومُلاك النادي في قطر كل هذه المميزات مقابل دفع راتب النجم الأرجنتيني لمدة عامين فقط، حيث جاء ميسي إلى العاصمة الفرنسية بعقد حر دون دفع أي مبالغ مالية لبرشلونة، لذلك لم يفوِّت ناصر الخليفي الفرصة وسارع في انتهاز الفرصة لضم ميسي.

بالتأكيد لا يزال يحلم بالفوز بدوري أبطال أوروبا، وكذلك تنظيم كأس العالم 2022 بشكل مثالي، إضافة إلى زيادة مدخلات النادي الفرنسي من عقود الرعاية وحقوق البث، وزيادة شعبيته في أرجاء العالم، وترسيخ صورة طيبة دوليًا عن الدولة القطرية.

خسر برشلونة وربح باريس سان جيرمان. هذا ما فرضته الظروف الراهنة. ولا نملك الآن إلا التمعن ورؤية كيف ستجري الأمور على ساحة كرة القدم الأوروبية في السنوات المقبلة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.