استيقظ على مضض عكس عاداته في اليوم المشهود، تشير ورقة النتيجة إلى موعد المباراة الأهم في الموسم، ديربي ميلانو، هو لا يعرف بالضبط لماذا يصفها بـ«الأهم». فلا هي تشهد تناطحًا بين الفريقين على صدارة الكالتشيو، ولا فوز فريقه المفضل صاحب الألوان الحمراء والسوداء على جاره اللدود – إن تحقق- سيخلصه من الشكوك الكثيرة التي تحيط بمستقبل النادي. شكوك صارت اعتيادية يطعمها الأمل الكاذب مع كل موسم، إن ميلان سيعود مجددًا لدوري الأبطال.


البروباجندا المتكررة

يجلس ليطالع الصحف الإلكترونية، العناوين هي نفسها، تتكرر البروباجندا وتُعاد كلمات المديح في الفريقين «الكهلين» بشكل يجعله أكثر غضبًا. «الديربي الوحيد الذي فاز طرفاه بدوري الأبطال»، يا لها من عبارة لن ترحمها موجات سخرية المشجعين ممن لم يشاهدوا مباريات إنتر وميلان عندما كانت ملحمة كروية بحق.

هذه المرة لن ينعتهم بـ«محدثي الكرة»، فهو صار يتفق معهم أخيرًا أن البكاء على الأطلال ليس به فائدة تذكر، على العكس، زاد إيمانه بأن سبب استمرار الفريقين في كبوتهم هو الشعارات الكاذبة، وتمجيد الماضي بشكل لم يعطِ للحاضر أي فرصة في أن يُدرك بشكل واقعي من جانب إدارة ومشجعي الناديين خاصة.

استغرق في التفكير لحظات وهو ينظر إلى قميص ميلان الذي اعتاد تزيين صدره في اليوم المشهود، لماذا كنت أهتم بالمباراة هكذا طوال السنوات الماضية؟ وأي معنى لديربي ظل مستواه بائسًا وأكثر مللًا من مباراة بين فريقين بوسط الجدول في البريميرليج؟ يتردد على مسامعه حديث صديقه عقب ديربي الدور الأول من موسم 2010-2011، الذي انتهى بفوز فريقه المفضل 1-0: «أنا قلت أتفرج على ماتش ميلان وإنتر باعتباره بقى الماتش الكبير في إيطاليا، كان قمة الملل، فريق جاب جول ونام طول الماتش .. مفيش متعة».

بالطبع لم يسلم صديقه منه، واجتهد في إقناعه أن كرة القدم في إيطاليا مختلفة، وأن التكتيك الذي لعب به الفريقان يجسد فلسفة الطليان في الكرة، لكن لا حياة لمن تنادي. اللافت أن ذلك الموسم كان الأخير الذي شهد تنافسًا ثنائيًا بين طرفي مدينة ميلانو على لقب الدوري، وسط غياب ليوفنتوس المتخبط وقتها، حيث انتهى بتتويج الروسونيري، ولا يتذكر بالضبط إن كان دفاعه عن “قيمة المباراة” سببها العاطفة فقط، وإن كان مستواها خجولًا على نحو يجعل صديقه محقًا، ويضفي مزيدًا من الشك في تقديره للأمور.

على كلٍ، فقد صار يعترف أخيرًا أن بعض مباريات الديربي لا يرقى مستواها للكرة الحديثة في إسبانيا أو إنجلترا، ولا يبرر سوء مستوى الفريقين في تلك المباريات متحججًا بكلمات مطاطة مثل التكتيك والجرينتا وغيرهما من الأكاذيب التي يبرع «مشجعو الدوري الإيطالي العرب» في إطلاقها.

لعل الشيء الإيجابي الوحيد في هذا الصدد، أن إيطاليا بصحافتها وجماهيرها صاروا مقتنعين أن بلادهم تعاني كرويًا، ولا دليل أبلغ من الفشل في التأهل للمونديال أمام السويد، وفوز يوفنتوس بالدوري بلا معاناة منذ 2012، خطوة أولى نحو العودة ربما.


3 نصائح لتعلق على ديربي ميلانو!

ما أسهل التغني بالأمجاد والبكاء على الأطلال، لسوء حظه فهو يعرف جيدًا، أن معلق المباراة –مهما كان اسمه- سيستغرق نحو ثلثها في المقارنة بين أسماء الماضي وأسماء الحاضر، والتأكيد أن هناك لاعبين لم يكونوا ليمروا بجانب ملعب سان سيرو، وأن ديربي ميلانو كان يومًا المباراة الأقوى في العالم.

أما الثلث الثاني قد يملؤه المعلق ضجيجًا بأن ميلان لم يعد كما كان، ويجب تغيير المدرب، وأن إنتر لا يحقق المطلوب رغم الأسماء الرنانة التي يمتلكها، أما الثلث الأخير فعندما يحين موعد إحراز الأهداف، ينهال المعلق بكلمات الإشادة على عبقرية المدرب، ومهارة اللاعب محرز الهدف، وتراه يثني على تكتيك الطليان، وأنهم لا يموتون! كأن هؤلاء ليس من انتقدهم قبل دقائق.

راح صديقنا يتخيل لحظات احتفاله في حال تسجيل فريقه، وتزاحمت الذكريات بعدها في رأسه، لتكشف عن «ديربيات» لا تُنسى. يشعره بعض سيناريوهاتها بمزيج من الفخر والفرح، سواء بسبب هدف قاتل أو فوز تاريخي. والآخر يملؤه بالشجن والحزن، إما لانتصار إنتر أو لهدف طائش عكس مجريات اللعب.

يشير الوقت إلى اقتراب صافرة البداية، وها هي نبضات القلب تتصاعد، عندما يصادق التلفاز على صحة ما أعلنته عقارب الساعة للتو، وينشط الدم في العروق لمشهد دخول اللاعبين في الملعب التاريخي سان سيرو، وسط «تيفوهات» غاية في الإبداع من جماهير مدينة ميلانو. مهلًا، ألا يمل هؤلاء من تشجيع فريقهم برغم كل الكبوات؟ ألم يمروا بلحظات مثل تلك التي مررت بها؟ تساءل صديقنا عن سبب عدم انقطاع الشغف لدى الثمانين ألف مناصر، شاعرًا أنه لا يختلف كثيرًا عنهم، وباحثًا عن إجابة كانت لتطرق باب قلبه بعد حين.


ماذا لو لم يكن هناك ديربي؟

صحيح أن الديربي لم يعد يسيل الكثير من الحبر في الصحافة العالمية وفي أوساط الجماهير غير المشجعة لأحد الفريقين، والحق أن المباراة فنيًا لن تجذب غير المتابع للكرة الإيطالية، وأن صديقنا يبدو محقًا في مسألة فقدانه لمعنى اللقاء، لكن من قال إن المعنى لا يكمن في داخله؟ أليس هو من اختار تشجيع ميلان بمجرد رؤية شعاره؟ أكان يدرك ابن الثماني سنوات حينها معنى لاختياره؟

في الواقع لا يهم ما يقوله الجميع عن فريقه المفضل ومباراته المفضلة، طالما أنها تعنى الكثير له، حاله حال الثمانين ألف مشجع داخل سان سيرو والملايين خارجه، صار واعيًا بالقدر الكافي ليتقبل حقيقة أن اسم الفريقين تراجع، و أن أيام الخوالي مضت، لكن ذلك لا يمنعه من أن يعيش أجواء المباراة حتى قبل بدايتها، وخاصة بعد أن تنتهي، فيمازح جمهور إنتر بنكات على غرار «كل ديربي هو أسوأ كوابيسك»، في حالة الفوز طبعًا.

وفي أثناء تفكيره قاطعته أمه حاملة كوب الليمون بالنعناع قائلة: «اتفضل يا حبيبي معلش اتأخرت عليك»، ليتذكر كل مرة كان يلح عليها بإحضار مشروبه المفضل قبل بدء اللقاء للحد من انفعالاته، ولكنه فطن سريعًا أنه لم تعد هناك انفعالات ليهدأها. لكنه عاد وسرح متأملًا سائلًا نفسه: «ماذا لو لم يكن هناك ديربي؟»، وجاء الرد أسرع مما توقع، «لولا الديربي لمات المشجعون مللًا وهمًا».